ذاكرتنا فوق أرفف المكتبات

ذاكرتنا فوق أرفف المكتبات
TT

ذاكرتنا فوق أرفف المكتبات

ذاكرتنا فوق أرفف المكتبات

لماذا ننسى كتابنا الراحلين سريعاً؟ استفهام مبتسر بعض الشيء، بالرغم من حقيقته الصارخة. والأجدر أن نتساءل: لماذا ننسى أنفسنا؟ من يقولون إن الماضي ما يزال يسكننا، وإننا مشدودون إليه، وإنه يحجب حاضرنا، ويمنعنا أن نرى ذواتنا الحقيقية، هم ينطقون بنصف الحقيقة. إنهم يتحدثون عن نصف ماضٍ لسنا مشدودين إليه فقط، بل مبهورون به، ونحيي عظامه وهي رميم كل يوم... نصف ماضٍ عتي، راسخ في الأرض، متسربل بتعاويذ سحرية، وخرافات، وأباطيل، نظل نغذيها ونتغذى بها، فكبرت حتى احتلت عقولنا ووجداننا، ونسينا أن هناك نصفاً آخر، بهياً، مشرقاً، ما إن يطل علينا به في لحظات نادرة حتى يسارعوا إلى وأده. ربما هكذا الأمر منذ العصر العباسي، الفلسفي والعلمي والمعرفي.
لقد تفنّنا في طرد المعرفة منذ ذلك الحين، فدخلنا مرحلة الانقطاع الكبرى، التي عرفتها معظم البشرية في أوقات معينة، لكنها سرعان ما نهضت منها، ووصلت ما انقطع مع ماضيها البهي عبر سبيل واحد فقط: المعرفة.
لا انقطاع بين الماضي والحاضر في الأمم الحية. وهي حية لهذا السبب فقط. إنها لا تكف عن طرح هذا الماضي أمامها دائماً. الماضي بالنسبة لها لا يصير ماضياً. وإذا حصل ذلك، ستموت شيئاً فشيئاً. لم تخل رفوف المكتبات في أمم كهذه يوماً من كتاب ماتوا قبل قرون: دراسات، ونقود، ومختارات، ونبش في السير، وكتب جيب مبسطة، وترجمات وإعادة ترجمات من أمم أخرى لأعمال ترجمت من قبل مرات عديدة، كـ«الإلياذة» و«الأوديسة» وملحمة «كلكامش»، التي صدرت لها ترجمتان إلى اللغة الإنجليزية في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال.
الكتاب الموتى حاضرون دائماً في ثقافة القارئ المعاصر، يساهمون من قبورهم في تشكيلها وبنائها، بالرغم من رحيلهم منذ سنوات طويلة أو قرون.
كم كتاب نقدي صدر عن المتنبي منذ صدور كتاب طه حسين عنه؟ وكم مختارات نشرت لأبي العلاء، وأبي تمام، والبحتري، وقبلهم امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وعمر بن أبي ربيعة، وجرير، والفرزدق، إلى آخر القائمة التي لن تنتهي، وصولاً إلى كتابنا المعاصرين؟ هل قدمنا كتباً مبسطة عن هؤلاء العملاقة، تسهّل قراءة أعمالهم من قبل النشء الجديد؟ وإذا كانت دور النشر الأهلية عاجزة عن ذلك، أو لا ترغب فيه من منطلق الربح والخاسرة، فلماذا لا تفعل المؤسسات الثقافية الرسمية؟
لا تزال أعمال معظم هؤلاء ساكنة فوق رفوف المكتبات، وقلما نعود إليها درساً وبحثاً وقراءةً، على المستوى النقدي والأكاديمي والتربوي. نعم، هناك قطيعة كبيرة بيننا وتراثنا الأدبي والثقافي. وهي تحصيل حاصل لبنية سياسية واجتماعية متخلفة، تراكمت عبر الزمن الساكن، ونجحت في حجب نصف ماضينا المشرق عن عيوننا، بل أصبح إحياء هذا الماضي، وقراءته في ضوء الحاضر، جريمة كبرى، والأمثلة البعيدة والقريبة كثيرة.
نحن لا نتحدث هنا عن مجموعة مثقفين أو مختصين، لا يشكلون سوى نسبة قليلة من مجتمعاتنا، وإنما عن غياب ثقافة عامة تتغلغل إلى النسيج الاجتماعي، وتشكّل وجهته ورؤيته للحياة، وعن مجتمعات لم تصبح فيها المعرفة بعد حقاً طبيعياً للناس. وقد برهنت تجارب الشعوب الحية، أن تحقيق ذلك ليس أمراً عصياً أو حلماً طوبائياً، بل يتطلب نضالاً طويلاً من أجل تغيير بنى سياسية واجتماعية، ما تزال ترى في الاستثمار الثقافي مسألة عصية على الفهم، هذا إذا لم نقل إنها تحاربه عن وعي كامل لأنه يشكل خطراً عليها على الأمد البعيد.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.