فالح العجمي: المشهد الثقافي في السعودية ذو لون واحد فقط

الكاتب السعودي يرى أن إتاحة النقد الحل الأنجح لمواجهة التشدد

فالح العجمي متحدثا في ندوة ثقافية
فالح العجمي متحدثا في ندوة ثقافية
TT

فالح العجمي: المشهد الثقافي في السعودية ذو لون واحد فقط

فالح العجمي متحدثا في ندوة ثقافية
فالح العجمي متحدثا في ندوة ثقافية

يرى المؤلف والكاتب السعودي الدكتور فالح بن شبيب العجمي أن الحركة الثقافية في السعودية متقدة بـ«شباب رائع ذي قدرات ذهنية على مستوى عالٍ من التفكير»، لكن المشهد الثقافي منذ التسعينات كان له لون واحد – كما يقول * فقد «كان شحيحا فيما يخص المعرفة المثمرة، لكنه بالنسبة إلى المتطرفين والمتشددين لم يكن سيئا».
ويقول أستاذ اللسانيات اللغوية بجامعة الملك سعود بالرياض، إن «الأسلوب الأمثل لمواجهة خطاب التشدد الفكري هو إتاحة النقد، وتشريع النوافذ مع الأبواب لدخول الهواء النقي، وإطلاق طاقات الشباب في ميادين شتى؛ أبرزها المسرح والفنون».
صدر للعجمي حديثا كتاب بعنوان «النص والخطاب والحياة» يناقش فيه الدراسات التاريخية للنصوص الدينية، وآليات البحث العلمي في التاريخ الإسلامي.
التقينا العجمي وناقشناه حول قضايا كتابه وشؤون المشهد الثقافي، وهنا نص الحوار:
* ذكرت في كتابك «النص والخطاب والحياة» أن كثيرا من الدراسات الدينية تجاهلت الأسئلة الملحة بسبب الثقافة التي تخلط بين التناول العلمي والقناعة الآيديولوجية.. السؤال هو كيف يمكن الفصل بين الأمرين دون أن يؤثر أحدهما على الآخر؟
ـ القضية في هذا المجال أوسع من الخلط في حقيقة الأمر، فما طرحته في كتابي «النص والخطاب والحياة» يتعلق أساسا بالتعمق الضروري في طرح القضايا الشائكة في النص المقدس، وفي الخطابات الدينية المترتبة عليه، على طاولة البحث، وذلك عندما لم أجد اهتمام دارسي ذلك النص بقضاياه الرئيسية المتعلقة بواقع النص وشواهد الواقع، وقبل ذلك طرحت بطريقة مماثلة تاريخ الحريات في شبه الجزيرة العربية، عندما لم أجد اهتماما من المؤرخين بذلك الجانب في كتابي «صراع الحريات»؛ إذ يتناقلون الأحداث، وكأنها إملاءات تصنع المفاهيم، لكن فيما يخص الخلط، طبعا هو موجود، لأن الجوهر لم يُدرس كما ذكرت.
أما كيف يمكن الفصل بين التناول العلمي والاقتناع الآيديولوجي، فهما في الأصل على طرفي نقيض، ولو نظرنا إلى ما أنتجه العلماء المؤثرون في تاريخ البشرية، لوجدناه بعيدا عن الأدلجة. أما صنّاع الشر، فهم متورطون حتى آذانهم في إلباس الآيديولوجيا بحلية العلم والخير والدين.
* هل تتفق أن الخوف هو عامل آخر يدفع نحو عدم إثارة هذه الأسئلة.. الخوف على قناعة آيديولوجية متوارثة أن تهتز بالبحث العلمي؟
ـ هذا السؤال في الصميم؛ إذ أستغرب فعلا من أمة تدّعي أنها على حق مطلق، وتتردد كثيرا في طرح الأسئلة الحساسة، كما يتبارى كبار منظّريها إلى التخويف من إثارة الشكوك، وكأن معتقداتهم ومكوناتهم الثقافية ورقية، يمكنها السقوط من أدنى هبّة ريح. طبعا، عندما تكون تلك الأبنية المتوارثة قائمة على القص واللزق، والمبالغات في وصف أوضاع طوباوية في الماضي، فالأمر طبيعي؛ أن تهزها الأسئلة البحثية العلمية العميقة والجذرية والمباشرة، وأن يشعر الملفقون بالقلق إزاء من يجرؤون على مثل ذلك التناول.
* سبق وقلت إن تاريخ الإسلام «فاتن وخطير».. لماذا هذان الوصفان؟
ـ نعم هو كذلك؛ فاتن لأنه يدعو إلى نظريات ثورية، تبدأ برفض أي نوع من الآلهة التي كانت تقدسها الجماعات البشرية، والتمرد على كل الأنماط السابقة في الحياة، والخضوع التام لمرجعيات قسرية، كما يدعو إلى تطهير الروح والزهد في الدنيا والتآخي بين الناس، والتدخل في أدق تفاصيل حياة الإنسان وخصوصياته وأطر المجتمعات وأنظمتها الثقافية والاقتصادية والسياسية. وزادت الفترات التاريخية المتنوعة، وحالات الانقسام الديني والطائفي من جاذبية بعض الفئات، أو الممارسات الروحانية لأعداد ليست قليلة من غير المسلمين إلى تلك الطقوس أو الشعائر المتميزة.
لكنه خطير، لأن تلك الثورات لم تتحقق، إلا لترجع إلى الوراء أكثر مما تقدمت، كما أن التمرد الفردي لم يتملص من شيطنة الإنسان ورغباته الحسية – كما هو متوقع من رؤية فلسفية نظرية – مما أوجد تباينا بين الواقع والنظرية، لكن الخطورة ليست هنا فحسب، بل تكمن بقوة في كون قادة الرأي فيه في كل عصر لا يرون هذا التباين إلا انعكاسا وهميا لمن يعملون ضد المبادئ الإسلامية؛ مما أوجد عقيدة خفية لدى المؤدلجين بضرورة التفتيش دوما عن المؤامرة. ومن نتائج عدم نجاح التمرد في الشخصية الإسلامية أنه أوجد أشخاصا منفلتين من كل قيد أخلاقي، ومستسلمين بصورة كاملة للغرائز، كلما أتاحت الظروف ذلك.
ومما يتعلق بهذه الازدواجية ما يتناقله بعض الناس من مقولات الإسلاميين المدافعين عن المبادئ، من خلال رفض ممارسات المسلمين غير المتطابقة معها، لكنه رفض يشمل الحركات الإسلامية والمجتمعات الإسلامية والأفراد الذين تتأذى منهم مجتمعات أخرى، وتلصق تصرفاتهم بالإسلام، فيردد أولئك المدافعون: «هؤلاء لا يمثلون الإسلام»!
* برأيك هل استطاعت الدراسات التاريخية العربية أن تجلي هذه الفتنة والخطورة.. ولماذا؟
ـ الدراسات التاريخية العربية مع بالغ الأسف! تلتفت إلى التفصيلات الصغيرة، وتضيف إليها بعض التحليلات، كما تأخذ الآراء السائدة بوصفها مسلّمات؛ لهذا خلت تماما من المواقف النقدية الجادة، إذا استثنينا بعض المؤرخين العرب الذين تعلموا في الغرب، وعرفوا معنى «نقد التاريخ»، واستخلاص الآليات من مسار الأحداث، وليست تراكمات الوقائع، وبعض المدوّنات التي تشيد بهذا الطرف أو ذاك.
وقد حاولت في كتابي: «الإنسان المسلم» تبيّن مفاصل نشأة الكيان الإسلامي، وتنوعاته من خلال تطبيقات الأفراد والمجتمعات، ثم علاقات الأفراد داخل المؤسسات العامة (سواء فيما يتعلق بالعبادة والانتماء، أو العدالة وتأطير الحياة على الأرض)، مثلما ركّزت على مفهوم المسلم لنظرية العقد الاجتماعي بوصفها تأطيرا للدولة التي يريد أو لا يريد أن يعيش في كنفها. وبالطبع لا بد من التعرض للأزمات الفكرية التي مرت في التاريخ الإسلامي القديم والحديث، وهي تترك آثارا عميقة في مخيلته، كل ذلك لا تتعرض إليه الدراسات التاريخية العربية بمجملها.
* ما تفسيرك لانبعاث التطرف الديني المستمر رغم توافر عوامل كثيرة في ظل التطور الحضاري والتقني كان المتوقع أنها ربما تساهم في إذابته وتفكيكه؟
ـ التطرف الديني في نظري لم ينشأ من فراغ، بل هو موجود وطالما وجد المنتفعون من توظيف النصوص لصالح سلوك متطرف، وكلما وجدت الجموع الجاهلة أو الغاضبة أو المستلبة، فهذا هو الثالوث المنشئ للتطرف، وبالطبع، طرفاه الأولان (النص والمنتفع) موجودان باستمرار، أما الطرف الثالث، فهو المتغير، إذا وجدت الظروف، التي تجعل الغوغاء تبلع الطعم، اشتعلت الفكرة في رؤوسهم، وأوقدوا أوار التطرف، كما تتزايد مع الأفكار المتطرفة مشاعر الكراهية لكل ما هو مختلف عن الفكرة، التي زرعها المنتفع في أذهان الأتباع.
المشكلة في قضية أفكار التطرف الديني، أن الموبوء بها لا يظن أنه كذلك، بل إنه كلما زاد تطرفا، اشتغلت عنده الحمية للفكرة الدينية أو المذهبية، بوصفه مدافعا عن النقاء من التلوث، وعن الحق أن يصيبه الباطل، وباسم الرب لئلا يغضب على الجميع، فينزل عليهم عقابه، فهو موتور ويظن بأنه مخلص، كاره للأكثرية ويظن بأنه محب لهم، وسيط بين المنتفع من جهة والمال والجاه من جهة أخرى وهو يظن بأنه وسيط بين البشر والرب.
لذلك فهو لا يخضع لعوامل التطور الحضاري، ولا حتى لمقاييس الأحاسيس البشرية بوجه عام. وبهذا لا يمكن تفكيك خطاب التطرف إلا بإبعاد رؤوس المثلث المذكور أعلاه عن الاتصال بعضها ببعض، لئلا تكتمل الدورة، ويسير تيار التطرف بين هذه الرؤوس، ليعود النص المؤول من جديد أخطر مما كان.
* شهدت السعودية اهتماما ملحوظا بالثقافة والفلسفة بين أوساط بعض الشباب، ومن ذلك إنشاء «الحلقة الفلسفية».. ما تقييمك لهذا الاهتمام.. وهل ترى أن البيئة مهيئة لإنضاج خطاب ثقافي مختلف؟
ـ نعم، السعودية فيها شباب رائع، وقدرات ذهنية على مستوى عالٍ من التفكير، وقد عرفت بعض الزملاء الذين اشتركوا في دعم هذه النواة، وبعض الشباب الذين ساروا بالمشروع قدما، وأنتجوا معرفة فلسفية لا بأس بها، والبيئة إذا خلت من عوامل التطرف قابلة للازدهار الفكري، وخلق خطابات ثقافية متنوعة. لكن ذلك مرهون أيضا بإطلاق طاقات الشباب في ميادين شتى؛ أبرزها في المسرح والفنون، التي تعيقها المؤسسات البيروقراطية بأثر من عرقلة الحقبة، التي هيمن فيها خطاب التطرف، وأخاف رموز المتشددين كل من كان يفكر في لمسة جمال فني، أو إتاحة الفرصة لإبداع الشباب وإبراز طاقاتهم.
فلم يبق لهم في الواقع سوى مجال الرياضة – وهو للذكور فقط – وحتى هذا المجال حاول أعداء الحياة محاصرته، لكن أصحاب القرار لم يستسلموا لهم، سوى في حرمان المرأة من مزاولة النشاطات الرياضية، وأتمنى أن يتم تداركه، من أجل عدم منع النساء من أبدان سليمة تنعكس آثار صحتها على وضع الأسر التي تنشئنها.
* يؤمن عدد من المنشغلين بالفلسفة أن إقرار تدريسها مادة في التعليم العام هو الحل الأنجع للقضاء على خطاب التشدد والانغلاق.. ما رأيك؟
ـ بالطبع قراءة الإنتاج الفلسفي العالمي مفيدة جدا، وتدريسها وتناولها في نقاشات فكرية أكثر فائدة أيضا، لكن الأزمة التي اقترنت بحياة المجتمع السعودي مع تفشي خطاب التطرف لم تقف عند منع الفلسفة من مناهج التعليم ومن الكتب التي تفسحها المؤسسات العامة، بل تعدى الأمر إلى تكفير الفلاسفة المسلمين، وتحريم تناول كتبهم، أو الإشادة بها في أي مناسبة.
مجابهة التشدد الذي يفتك بالعامة لن يكون بالإكثار من الجرعات الفلسفية، التي لن يفهمها القطب الثالث لخطاب التطرف (أفراد العامة البسطاء ذوو الصبغة الدينية والقدرات الذهنية المتواضعة). أما ما هو ناجع في نظري، فهو إتاحة النقد، وتشريع النوافذ مع الأبواب لدخول الهواء النقي من كل صوب، ليزيل بؤر العفن، التي لا تنشأ إلا نتيجة إقفال المنافذ، وتفشي الفطريات في الجوانب المظلمة.
كما أن لصرامة السلطة وسن الأنظمة الواضحة دورا في الحد من شراسة الخطاب المتشدد، الذي تنعشه السلطات الضعيفة المضطربة، والبيئات التي تغيب فيها الأنظمة، أو تكون متقلبة وغير قابلة للتطبيق على الجميع.
* هناك من يقول بأن المشهد الثقافي في السعودية منذ التسعينات تحديدا كان شحيحا معرفيا.. كل نتاجه عبارة عن سجالات حول المفاهيم الوافدة، وردود فعل، وصراعات حزبية، دون نتاج ثقافي متكامل؟ ما رأيك؟
ـ المشهد الثقافي منذ التسعينات له لون واحد دون شك، وبالطبع كان شحيحا فيما يخص المعرفة المثمرة، لكنه بالنسبة إلى المتطرفين وأنصاف المتشددين لم يكن سيئا، فقد عاشوا في ذلك العقد أزهى عصورهم، قمعوا في ذلك الزمن من سواهم، واستفادوا من خلاياهم التي كونوها في التعليم خلال عقد الثمانينات. وعندما سولت «القاعدة» لنفسها حرب السعودية بالتفجيرات بدءا من 2003م، شنّت السلطات حربا على مصادر تغذيتها المالية والفكرية؛ مما جعل ذلك التيار يفقد تعاطف المؤسسات الرسمية والمخلصين من المواطنين معه، فلم يبق معهم سوى «الأمميين»، الذين لم يؤمنوا بالوطن في أي حين.
نعم، هي سجالات عن غرابة العلوم والحياة بكاملها عن الدين الإسلامي، وعدم مواءمتها للشريعة، لكنها كانت من طرف واحد؛ فهم من كانوا يقولون ويكتبون، ويأمرون وينهون فيما أطلقوا عليه بصفة عامة «أسلمة العلوم»، حتى انتشرت عنهم الطرفة الخاصة بتدريس الرياضيات: «الخطان المتوازيان لا يلتقيان إلا بإذن الله، وإن التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله»!



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!