فالح العجمي: المشهد الثقافي في السعودية ذو لون واحد فقط

الكاتب السعودي يرى أن إتاحة النقد الحل الأنجح لمواجهة التشدد

فالح العجمي متحدثا في ندوة ثقافية
فالح العجمي متحدثا في ندوة ثقافية
TT

فالح العجمي: المشهد الثقافي في السعودية ذو لون واحد فقط

فالح العجمي متحدثا في ندوة ثقافية
فالح العجمي متحدثا في ندوة ثقافية

يرى المؤلف والكاتب السعودي الدكتور فالح بن شبيب العجمي أن الحركة الثقافية في السعودية متقدة بـ«شباب رائع ذي قدرات ذهنية على مستوى عالٍ من التفكير»، لكن المشهد الثقافي منذ التسعينات كان له لون واحد – كما يقول * فقد «كان شحيحا فيما يخص المعرفة المثمرة، لكنه بالنسبة إلى المتطرفين والمتشددين لم يكن سيئا».
ويقول أستاذ اللسانيات اللغوية بجامعة الملك سعود بالرياض، إن «الأسلوب الأمثل لمواجهة خطاب التشدد الفكري هو إتاحة النقد، وتشريع النوافذ مع الأبواب لدخول الهواء النقي، وإطلاق طاقات الشباب في ميادين شتى؛ أبرزها المسرح والفنون».
صدر للعجمي حديثا كتاب بعنوان «النص والخطاب والحياة» يناقش فيه الدراسات التاريخية للنصوص الدينية، وآليات البحث العلمي في التاريخ الإسلامي.
التقينا العجمي وناقشناه حول قضايا كتابه وشؤون المشهد الثقافي، وهنا نص الحوار:
* ذكرت في كتابك «النص والخطاب والحياة» أن كثيرا من الدراسات الدينية تجاهلت الأسئلة الملحة بسبب الثقافة التي تخلط بين التناول العلمي والقناعة الآيديولوجية.. السؤال هو كيف يمكن الفصل بين الأمرين دون أن يؤثر أحدهما على الآخر؟
ـ القضية في هذا المجال أوسع من الخلط في حقيقة الأمر، فما طرحته في كتابي «النص والخطاب والحياة» يتعلق أساسا بالتعمق الضروري في طرح القضايا الشائكة في النص المقدس، وفي الخطابات الدينية المترتبة عليه، على طاولة البحث، وذلك عندما لم أجد اهتمام دارسي ذلك النص بقضاياه الرئيسية المتعلقة بواقع النص وشواهد الواقع، وقبل ذلك طرحت بطريقة مماثلة تاريخ الحريات في شبه الجزيرة العربية، عندما لم أجد اهتماما من المؤرخين بذلك الجانب في كتابي «صراع الحريات»؛ إذ يتناقلون الأحداث، وكأنها إملاءات تصنع المفاهيم، لكن فيما يخص الخلط، طبعا هو موجود، لأن الجوهر لم يُدرس كما ذكرت.
أما كيف يمكن الفصل بين التناول العلمي والاقتناع الآيديولوجي، فهما في الأصل على طرفي نقيض، ولو نظرنا إلى ما أنتجه العلماء المؤثرون في تاريخ البشرية، لوجدناه بعيدا عن الأدلجة. أما صنّاع الشر، فهم متورطون حتى آذانهم في إلباس الآيديولوجيا بحلية العلم والخير والدين.
* هل تتفق أن الخوف هو عامل آخر يدفع نحو عدم إثارة هذه الأسئلة.. الخوف على قناعة آيديولوجية متوارثة أن تهتز بالبحث العلمي؟
ـ هذا السؤال في الصميم؛ إذ أستغرب فعلا من أمة تدّعي أنها على حق مطلق، وتتردد كثيرا في طرح الأسئلة الحساسة، كما يتبارى كبار منظّريها إلى التخويف من إثارة الشكوك، وكأن معتقداتهم ومكوناتهم الثقافية ورقية، يمكنها السقوط من أدنى هبّة ريح. طبعا، عندما تكون تلك الأبنية المتوارثة قائمة على القص واللزق، والمبالغات في وصف أوضاع طوباوية في الماضي، فالأمر طبيعي؛ أن تهزها الأسئلة البحثية العلمية العميقة والجذرية والمباشرة، وأن يشعر الملفقون بالقلق إزاء من يجرؤون على مثل ذلك التناول.
* سبق وقلت إن تاريخ الإسلام «فاتن وخطير».. لماذا هذان الوصفان؟
ـ نعم هو كذلك؛ فاتن لأنه يدعو إلى نظريات ثورية، تبدأ برفض أي نوع من الآلهة التي كانت تقدسها الجماعات البشرية، والتمرد على كل الأنماط السابقة في الحياة، والخضوع التام لمرجعيات قسرية، كما يدعو إلى تطهير الروح والزهد في الدنيا والتآخي بين الناس، والتدخل في أدق تفاصيل حياة الإنسان وخصوصياته وأطر المجتمعات وأنظمتها الثقافية والاقتصادية والسياسية. وزادت الفترات التاريخية المتنوعة، وحالات الانقسام الديني والطائفي من جاذبية بعض الفئات، أو الممارسات الروحانية لأعداد ليست قليلة من غير المسلمين إلى تلك الطقوس أو الشعائر المتميزة.
لكنه خطير، لأن تلك الثورات لم تتحقق، إلا لترجع إلى الوراء أكثر مما تقدمت، كما أن التمرد الفردي لم يتملص من شيطنة الإنسان ورغباته الحسية – كما هو متوقع من رؤية فلسفية نظرية – مما أوجد تباينا بين الواقع والنظرية، لكن الخطورة ليست هنا فحسب، بل تكمن بقوة في كون قادة الرأي فيه في كل عصر لا يرون هذا التباين إلا انعكاسا وهميا لمن يعملون ضد المبادئ الإسلامية؛ مما أوجد عقيدة خفية لدى المؤدلجين بضرورة التفتيش دوما عن المؤامرة. ومن نتائج عدم نجاح التمرد في الشخصية الإسلامية أنه أوجد أشخاصا منفلتين من كل قيد أخلاقي، ومستسلمين بصورة كاملة للغرائز، كلما أتاحت الظروف ذلك.
ومما يتعلق بهذه الازدواجية ما يتناقله بعض الناس من مقولات الإسلاميين المدافعين عن المبادئ، من خلال رفض ممارسات المسلمين غير المتطابقة معها، لكنه رفض يشمل الحركات الإسلامية والمجتمعات الإسلامية والأفراد الذين تتأذى منهم مجتمعات أخرى، وتلصق تصرفاتهم بالإسلام، فيردد أولئك المدافعون: «هؤلاء لا يمثلون الإسلام»!
* برأيك هل استطاعت الدراسات التاريخية العربية أن تجلي هذه الفتنة والخطورة.. ولماذا؟
ـ الدراسات التاريخية العربية مع بالغ الأسف! تلتفت إلى التفصيلات الصغيرة، وتضيف إليها بعض التحليلات، كما تأخذ الآراء السائدة بوصفها مسلّمات؛ لهذا خلت تماما من المواقف النقدية الجادة، إذا استثنينا بعض المؤرخين العرب الذين تعلموا في الغرب، وعرفوا معنى «نقد التاريخ»، واستخلاص الآليات من مسار الأحداث، وليست تراكمات الوقائع، وبعض المدوّنات التي تشيد بهذا الطرف أو ذاك.
وقد حاولت في كتابي: «الإنسان المسلم» تبيّن مفاصل نشأة الكيان الإسلامي، وتنوعاته من خلال تطبيقات الأفراد والمجتمعات، ثم علاقات الأفراد داخل المؤسسات العامة (سواء فيما يتعلق بالعبادة والانتماء، أو العدالة وتأطير الحياة على الأرض)، مثلما ركّزت على مفهوم المسلم لنظرية العقد الاجتماعي بوصفها تأطيرا للدولة التي يريد أو لا يريد أن يعيش في كنفها. وبالطبع لا بد من التعرض للأزمات الفكرية التي مرت في التاريخ الإسلامي القديم والحديث، وهي تترك آثارا عميقة في مخيلته، كل ذلك لا تتعرض إليه الدراسات التاريخية العربية بمجملها.
* ما تفسيرك لانبعاث التطرف الديني المستمر رغم توافر عوامل كثيرة في ظل التطور الحضاري والتقني كان المتوقع أنها ربما تساهم في إذابته وتفكيكه؟
ـ التطرف الديني في نظري لم ينشأ من فراغ، بل هو موجود وطالما وجد المنتفعون من توظيف النصوص لصالح سلوك متطرف، وكلما وجدت الجموع الجاهلة أو الغاضبة أو المستلبة، فهذا هو الثالوث المنشئ للتطرف، وبالطبع، طرفاه الأولان (النص والمنتفع) موجودان باستمرار، أما الطرف الثالث، فهو المتغير، إذا وجدت الظروف، التي تجعل الغوغاء تبلع الطعم، اشتعلت الفكرة في رؤوسهم، وأوقدوا أوار التطرف، كما تتزايد مع الأفكار المتطرفة مشاعر الكراهية لكل ما هو مختلف عن الفكرة، التي زرعها المنتفع في أذهان الأتباع.
المشكلة في قضية أفكار التطرف الديني، أن الموبوء بها لا يظن أنه كذلك، بل إنه كلما زاد تطرفا، اشتغلت عنده الحمية للفكرة الدينية أو المذهبية، بوصفه مدافعا عن النقاء من التلوث، وعن الحق أن يصيبه الباطل، وباسم الرب لئلا يغضب على الجميع، فينزل عليهم عقابه، فهو موتور ويظن بأنه مخلص، كاره للأكثرية ويظن بأنه محب لهم، وسيط بين المنتفع من جهة والمال والجاه من جهة أخرى وهو يظن بأنه وسيط بين البشر والرب.
لذلك فهو لا يخضع لعوامل التطور الحضاري، ولا حتى لمقاييس الأحاسيس البشرية بوجه عام. وبهذا لا يمكن تفكيك خطاب التطرف إلا بإبعاد رؤوس المثلث المذكور أعلاه عن الاتصال بعضها ببعض، لئلا تكتمل الدورة، ويسير تيار التطرف بين هذه الرؤوس، ليعود النص المؤول من جديد أخطر مما كان.
* شهدت السعودية اهتماما ملحوظا بالثقافة والفلسفة بين أوساط بعض الشباب، ومن ذلك إنشاء «الحلقة الفلسفية».. ما تقييمك لهذا الاهتمام.. وهل ترى أن البيئة مهيئة لإنضاج خطاب ثقافي مختلف؟
ـ نعم، السعودية فيها شباب رائع، وقدرات ذهنية على مستوى عالٍ من التفكير، وقد عرفت بعض الزملاء الذين اشتركوا في دعم هذه النواة، وبعض الشباب الذين ساروا بالمشروع قدما، وأنتجوا معرفة فلسفية لا بأس بها، والبيئة إذا خلت من عوامل التطرف قابلة للازدهار الفكري، وخلق خطابات ثقافية متنوعة. لكن ذلك مرهون أيضا بإطلاق طاقات الشباب في ميادين شتى؛ أبرزها في المسرح والفنون، التي تعيقها المؤسسات البيروقراطية بأثر من عرقلة الحقبة، التي هيمن فيها خطاب التطرف، وأخاف رموز المتشددين كل من كان يفكر في لمسة جمال فني، أو إتاحة الفرصة لإبداع الشباب وإبراز طاقاتهم.
فلم يبق لهم في الواقع سوى مجال الرياضة – وهو للذكور فقط – وحتى هذا المجال حاول أعداء الحياة محاصرته، لكن أصحاب القرار لم يستسلموا لهم، سوى في حرمان المرأة من مزاولة النشاطات الرياضية، وأتمنى أن يتم تداركه، من أجل عدم منع النساء من أبدان سليمة تنعكس آثار صحتها على وضع الأسر التي تنشئنها.
* يؤمن عدد من المنشغلين بالفلسفة أن إقرار تدريسها مادة في التعليم العام هو الحل الأنجع للقضاء على خطاب التشدد والانغلاق.. ما رأيك؟
ـ بالطبع قراءة الإنتاج الفلسفي العالمي مفيدة جدا، وتدريسها وتناولها في نقاشات فكرية أكثر فائدة أيضا، لكن الأزمة التي اقترنت بحياة المجتمع السعودي مع تفشي خطاب التطرف لم تقف عند منع الفلسفة من مناهج التعليم ومن الكتب التي تفسحها المؤسسات العامة، بل تعدى الأمر إلى تكفير الفلاسفة المسلمين، وتحريم تناول كتبهم، أو الإشادة بها في أي مناسبة.
مجابهة التشدد الذي يفتك بالعامة لن يكون بالإكثار من الجرعات الفلسفية، التي لن يفهمها القطب الثالث لخطاب التطرف (أفراد العامة البسطاء ذوو الصبغة الدينية والقدرات الذهنية المتواضعة). أما ما هو ناجع في نظري، فهو إتاحة النقد، وتشريع النوافذ مع الأبواب لدخول الهواء النقي من كل صوب، ليزيل بؤر العفن، التي لا تنشأ إلا نتيجة إقفال المنافذ، وتفشي الفطريات في الجوانب المظلمة.
كما أن لصرامة السلطة وسن الأنظمة الواضحة دورا في الحد من شراسة الخطاب المتشدد، الذي تنعشه السلطات الضعيفة المضطربة، والبيئات التي تغيب فيها الأنظمة، أو تكون متقلبة وغير قابلة للتطبيق على الجميع.
* هناك من يقول بأن المشهد الثقافي في السعودية منذ التسعينات تحديدا كان شحيحا معرفيا.. كل نتاجه عبارة عن سجالات حول المفاهيم الوافدة، وردود فعل، وصراعات حزبية، دون نتاج ثقافي متكامل؟ ما رأيك؟
ـ المشهد الثقافي منذ التسعينات له لون واحد دون شك، وبالطبع كان شحيحا فيما يخص المعرفة المثمرة، لكنه بالنسبة إلى المتطرفين وأنصاف المتشددين لم يكن سيئا، فقد عاشوا في ذلك العقد أزهى عصورهم، قمعوا في ذلك الزمن من سواهم، واستفادوا من خلاياهم التي كونوها في التعليم خلال عقد الثمانينات. وعندما سولت «القاعدة» لنفسها حرب السعودية بالتفجيرات بدءا من 2003م، شنّت السلطات حربا على مصادر تغذيتها المالية والفكرية؛ مما جعل ذلك التيار يفقد تعاطف المؤسسات الرسمية والمخلصين من المواطنين معه، فلم يبق معهم سوى «الأمميين»، الذين لم يؤمنوا بالوطن في أي حين.
نعم، هي سجالات عن غرابة العلوم والحياة بكاملها عن الدين الإسلامي، وعدم مواءمتها للشريعة، لكنها كانت من طرف واحد؛ فهم من كانوا يقولون ويكتبون، ويأمرون وينهون فيما أطلقوا عليه بصفة عامة «أسلمة العلوم»، حتى انتشرت عنهم الطرفة الخاصة بتدريس الرياضيات: «الخطان المتوازيان لا يلتقيان إلا بإذن الله، وإن التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله»!



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.