هل يصيب الهلع من الأوبئة مجموعات دون أخرى؟

إشارات تعود إلى القرن الثامن عشر تربط بين الخوف من المرض ومقدار انتشاره

غلاف «استعمار الجسد» - غلاف «الرأسمالي الأناني»
غلاف «استعمار الجسد» - غلاف «الرأسمالي الأناني»
TT

هل يصيب الهلع من الأوبئة مجموعات دون أخرى؟

غلاف «استعمار الجسد» - غلاف «الرأسمالي الأناني»
غلاف «استعمار الجسد» - غلاف «الرأسمالي الأناني»

أثار انتشار فيروس كورونا إحساساً مُتصاعداً بالهَلَع عبر العالم، وتحوّلت مشاهد المُتسوقين وهم يتدافعون لمُراكمة الموادّ الاستهلاكيّة في عربات المتاجر الكُبرى، وعشرات الأشخاص المذعورين بعضهم من بعض وهم يضعون كمّامات على وجوهم في المطارات والأماكن العامّة، وكأنّها تراكم أحداث ربّما ما زالت محدودة الأبعاد، ولكنّها تُنذر مع استمرار انتشار الفيروس وتحوّله إلى وباء بتحوّل نوعيّ قريب في طبيعة استجابة المجتمعات البشريّة، صعوداً نحو حالة من الفزع التّام والسلوكيّات الأنانيّة واللاعقلانيّة.
فهل ستجرفنا العولمة والثّقافة الاستهلاكية التي غلبت على كوكبنا زمان الرأسماليّة المتأخرة، وقرّبت بشكل غير مسبوق في تاريخ الإنسانيّة من الأذواق والأماني والتّوقعات، إلى تماثل طبيعة استجابة مختلف الشّعوب على تنوع مسيرتها التاريخيّة والحضاريّة، وتقدّمها الماديّ والتقنيّ، للجوائح والكوارث؟ وهل هناك مجموعات بشريّة قادرة على التعامل مع الأزمات على نحو أفضل من مجموعات أخرى؟
هنالك إشارات مبكّرة على أنّ الحالة العقليّة للشعوب -بافتراض وجود نوع من عقل جمعيّ يربط تجارب كتلة بشريّة تتشارك الخبرات التاريخيّة ذات في إطار الإقليم الجغرافي الواحد- قد تدفع بعضها للسقوط فريسة أسهل للهلع، مقارنة بشعوب أخرى. وتعود أولى تلك الإشارات الموثقة إلى القرن الثامن عشر، حيث نص كتبه الطبيب الفرنسيّ فرانسوا تشيكوين غداة موجة الطّاعون الكبرى التي ضربت مارسيليا -أكبر الموانئ الفرنسيّة على البحر المتوسّط- ربط فيه بين طريقة تعامل مختلف الفئات السكانيّة مع الخوف من المرض ومقدار انتشاره بينهم، مدعياً وجود نوع من علاقة متبادلة بين الاثنين: الوباء يسبب الهلع، والهلع يتسبب بانتشار الوباء، وهكذا كما علاقة جدليّة مستمرة. وعلى الرّغم من أن طرح تشيكوين لم يجد آذاناً صاغية كثيرة بين مجايليه، فإن استجابة الشّعب الهندي الخاضع للحكم البريطاني لكارثة انتشار الإنفلونزا نهاية الحرب العالميّة الأولى (1918-1919) التي لم تشهد تفشياً في حالة الهلع على نطاق واسع، مقارنة بالذّعر الشامل الذي أصيبت به شبه القارة الهنديّة بأجمعها لدى انتشار الطاعون نهاية القرن التاسع عشر، استعادها مجدداً للنقاش. وقد اقترح مؤخراً ديفيد آرنولد، المؤرّخ البريطانيّ المرموق، أن يكون اختلاف الاستجابة تلك مرتبطاً بسلوك دولة الاحتلال البريطانيّة. فقد تسببت سلسلة التعليمات المشددة التي فرضتها السلطات للتّعامل مع وباء الطّاعون بانتشار الخوف بين الهنود، وبالتالي ظهور موجات من هلع جماعيّ يعتقد أنها ساهمت بشكل أو آخر بانتشار المرض، مقارنة بما يشبه اللامبالاة التي ميزت سلوكهم إبّان موجة الإنفلونزا، بعدما التزمت سلطات الاحتلال بضبط النفس، وعدم المبالغة في الإجراءات.
وللحقيقة، فإن تنظيرات تشيكوين وإن افتقدت للأدلة العلميّة التي تجعلها مقبولة بمقياس الممارسة العلميّة اليوم، فإنها عكست ملاحظة لماحة لعين خبيرة، وتأتي الدّراسات الحديثة لتنحو نحوها في ربط حجم الهلع بالحالة العقليّة النفسيّة الغالبة على المجموعة البشريّة.
تقول دراسة صادرة عن منظمة الصّحة العالميّة لقياس التّوتّر النفسي والقلق، أجريت لـ15 دولة حول العالم في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، إن 26 في المائة من الأمريكيين عانوا اضطرابات نفسيّة - عقليّة خلال آخر 12 شهراً، مقارنة بـ17 في المائة في كولومبيا ولبنان، و9 في المائة في إسبانيا، و8 في المائة في إيطاليا، و4 في المائة (في الصّين - شنغهاي). وبحسب الدّراسة، فإنّ احتمال معاناة الأفراد من تلك الاضطرابات بين سكان دول البّر الأوروبيّ (11.5 في المائة) أقلّ بما يقرب من النّصف منها بدول العالم الأنغلوفوني (الولايات المتحدة وبريطانيا -كما في دراسة أخرى موازية لدراسة منظمة الصحة العالميّة- ونيوزلندا وأستراليا)، حيث المعدل 23 في المائة، فيما يتراجع الاحتمال عند الصينيين إلى خُمْسه، مقارنة بالولايات المتحدة مثلاً التي تتصدر القائمة العالميّة. ويقرأ الخبراء في تلك الأرقام استعداداً أعلى لدى بعض الشعوب لتفشي مستويات القلق والتوتر والخوف بينها، مقارنة بأخرى، وبالتّالي فرصة وقوعها في الهلع الجماعي واضطرابات السلوك عند مواجهة الأوبئة والأزمات الكبرى.
وعند محاولته تفسير هذا التفاوت، يربط أوليفر جيمس في كتابه «الرأسماليّ الأناني - 2008» بين نتائج دراسة منظمة الصحة العالميّة (كما دراسات موازية لها) بتعرّض شعوب العالم الأنغلوفوني في الربع الأخير من القرن الماضي إلى صدمة سياسيّة - اقتصاديّة تسببت بها المدرسة النيوليبراليّة، وتسببت في تعاظم فجوة المداخيل بين القلّة الثريّة والأكثريّة المعدمة، وما ترتب على السياسات المصاحبة لتلك المنهجيّة الاقتصادية من تراجع ملموس للقوّة الشرائيّة للمواطنين، وفقدانهم عنصر الأمان الوظيفي، بينما رزحت النساء تحديداً تحت ضغوط مضاعفة، بعد أن دُفعن للانخراط في سوق العمل، بكل متطلباته والتوترات المصاحبة له، غالباً على حساب الصحّة النفسيّة، ونوعيّة التغذية للأبناء الصغار، وهي عوامل -وفق دراسات علوم السايكولوجيا المعاصرة- حاسمة في تكوين شخصيّة الإنسان، وطبيعة استجابته للأزمات مستقبلاً. ويشير جيمس، بمعرض تعليقه على نتائج الدّراسة سالفة الذّكرِ، إلى أن الصدمة النيوليبراليّة تفوقت في تأثيراتها السلبيّة على الحالة النفسيّة والعقليّة للمواطنين بأكثر مما تسببت به الحروب الأهليّة والصراعات المسلحة للسكان في دول مثل كولومبيا ولبنان، التي بدورها امتلكت أكثر من ضعفي فرص وقوع المواطنين بتلك الاضطرابات، مقارنة بدول مثل اليابان وإسبانيا.
ويضيف جيمس عاملاً مكملاً يتضامن مع السّياسات النيوليبراليّة لناحية الضغط على الأفراد عبر العالم الأنغلوفوني، الذي يتمثّل في الثّقافة الماديّة الاستهلاكيّة التي فرضتها الرأسماليّة المتأخرة، مطلقةً العنان لمجموعة من أسوأ المشاعر الإنسانيّة بتولي مقعد القيادة: الحسد، والوسواس القهري، والأنانيّة، وفقدان الشعور بالأمان، على نحو ضاعف لدى الأكثريّة فرص الإصابة بالاكتئاب، والقلق المرضي، والتوتّر الدائم، وأيضاً التّورط بأشكال مختلفة من الإدمان. ولا شكّ أن الأفراد نتيجة هذه الأجواء السياسيّة - الاجتماعية سيكونون أقرب من السقوط في لجة الخوف عند انتشار الأوبئة، وبالتالي اتباع نمط سلوكيّ أناني يقود حتماً إلى الانخراط الانفعالي أو اللاواعي في مظاهر الهلع الجماعيّ من حولهم. «إننا نعيش في مجتمعات مريضة بحق»، على حد تعبير إريك فروم في كتابه الشهير عن «المجتمع العاقل».
كثير من العلماء الاجتماعيين المعاصرين في الغرب يستبعدون بشكل شبه قاطع وجود تفسيرات جينيّة أو عرقيّة أو جندريّة الطّابع لكون مجموعة من الأفراد أقرب إلى الإصابة باضطرابات نفسيّة وعقليّة، وبالتالي أكثر استعداداً نسبيّاً للسقوط في الهلع الجماعيّ. فالإيطاليّون المهاجرون إلى الولايات المتحدة يعانون مستويات عاليّة من الاضطرابات النفسيّة - العقليّة، تماثل تلك التي يحققها بقيّة الأمريكيين، لكنها تزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف عما قد يتعرض له المواطن الإيطاليّ ضمن بيئة بلاده الأصليّة. كما أن المواطنين النيجيريين كانوا قريبين في حجم استعدادهم للوقوع ضحيّة مصاعب نفسيّة وعقليّة من شعوب جنوب أوروبا والصين منهم إلى الولايات المتحدة مثلاً. فيما لوحظ أن نساء الدول الإسكندنافيّة وازَيْن رجالهّن في إمكان تعرضهن لتلك الاضطرابات، فيما كانت نسبة إصابة نساء الدول الأنغلوفونيّة -التي تبنت السّياسات النيوليبراليّة- بها ضعف رفاقهن الرجال.
لا هروب إذن من توقّع استجابات متفاوتة للمجموعات البشريّة المختلفة في مواجهة الخوف المتصاعد جرّاء تفشي وباء «كوفيد-19» (كورونا)، ومدى انتشار الهلع الجماعيّ والانحرافات السلوكيّة بينها. وقد تكون التجربة الحيّة الآن بمثابة فرصة للمجتمعات التي وقعت غالبية مواطنيها ضحايا لتغّول ممارسات اقتصادية لا إنسانية خلال العقود الأربعة الأخيرة لإجراء جردة حساب معمقة لأنظمتها الاقتصاديّة والسياسيّة، ومحاولة بناء مزاجات اجتماعيّة جديدة تسمح للمواطنين بامتلاك قدرة أفضل نسبياً مما انتهت إليه لتعامل أفضل مع الأزمات، سواء كورونا اليوم أو كورونات المقبل من الأيّام. فكل أبناء المجتمع الواحد يبحرون في المركب ذاته بمواجهة بحر عواصف الأوبئة الهائج، وهي عواصف لا تفرّق بين مسؤول ومواطن عاديّ، أو بين ثري وفقير، أو بين رجل وامرأة. ننجو معاً، أو نقضي معاً، وتلك هي المسألة.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.