بدأ عالم فيزياء الكم الإيطالي كارلو روفيللي فصول كتابه «نظام الزمن»، الذي ترجمه إيهاب عبد الحميد ونشرته دار التنوير اللبنانية بدعم «مبادرة الخازندار للترجمة»، بمقاطع من قصائد الشاعر الروماني هوراس، والإنجليزي شكسبير، والألماني رينيه ريلكه، والفارسي سعدي الشيرازي، فضلاً عن بعض مقتطفات من الكتاب المقدس، بل وضع الكثير من القصائد بين ثنايا تحليلاته فجاءت متسربلة بغلالات رومانسية وصف من خلالها الزمن وماهيته وكيف يعمل ويتحرك ويتعاطى مع ظواهر الحياة المختلفة. الشعر هنا، حسب تصور روفيللي، يمثل جذراً أعمق من جذور العلم، وهو القدرة على رؤية ما وراء المرئي.
توزعت محاور الكتاب على ثلاثة أقسام، الأول «تفتت الزمن»، وفيه يلخص روفيللي ما فهمه الفيزيائيون المحدثون عن الزمن، لكن الأمر من وجهة نظره يشبه الإمساك بندفة ثلج في اليد، وبينما يكون هناك من يعكف على دراستها، تتلاشى تدريجياً وتذوب. فقد أثبتت الملامح المميزة للزمن واحدة بعد أخرى، أنها تقريبات وأخطاء يفرضها منظور العلماء، تماماً مثل تسطح الأرض أو دوران الشمس، وقد قادهم تنامي معارفهم إلى تفكيك بطيء لفكرتهم عن الزمن، فما يسمونه زمناً هو مجموعة معقدة من البنى المشكّلة من طبقات فقدها الزمن واحدة تلو الأخرى.
وعلى هذا الأساس يرى روفيللي أن هناك «فيلقاً كاملاً» من الأزمنة، زمن مختلف لكل نقطة في المكان. ما من زمن واحد بل عدد هائل لا حصر له من الأزمنة. فالزمن الذي تؤشر له ساعةٌ ما تقيس ظاهرة معينة يسمى في الفيزياء الزمن الاعتيادي، وكل ساعة، وكل ظاهرة طبقاً لهذا التصور، لديها زمنها وإيقاعها الخاص. والعلماء من هنا لا يصفون كيف يتطور العالم في الزمن، لكن عملهم ينحصر في البحث في كيفية تطور الأشياء في الزمن المحلي، وتطور الأزمنة المحلية بعضها بالنسبة إلى بعض. وهكذا فإن العالم شبكة من الأحداث يؤثر بعضها ببعض، كما أن الزمن ذو القيمة الواحدة ينصهر سائلاً إلى شبكة عنكبوتية من الأزمنة.
إن فكرة وجود آن محددٍ جيداً عبر الكون هي، بالنسبة إليه، مجرد وهم، واستقراء غير مسوَّغٍ للخبرة الذاتية، كما أن الحديث عما يسمونها «اللحظة نفسها»، التي يتشارك فيها حدثان في الوقوع، يعد شيئاً بلا معنى، فلا شيء محدداً اسمه «اللحظة نفسها في الكون»، أما الحاضر الممتد فهو مجموعة من الأحداث التي لا هي بالماضي ولا بالحاضر، فلكل إنسان ماض مخروطي خاص من الأسلاف ومستقبل مثله من الأخلاف.
وفي الفصل الثاني «العالم بلا زمن»، أشار روفيللي إلى أن العالم مكون من أحداث لا أشياء، والتفكير في العالم بوصفه مجموعة من الأحداث والسيرورات، حسب رأي روفيللي، هو الطريقة التي تسمح بفهم واستيعاب ووصف أفضل له، لأنها الوحيدة المتوافقة مع النسبية، وأما الوحدات «الأحداث» التي نستوعب من خلالها العالم فليست واقعة في نقطة محددة في المكان، وإنما، في الـ«أين» والـ«متى»، إنها أحداث متدافعة في حشد فوضوي، وفي حدوثها المتبدد والمتشتت وغير المنظم يكمن التغير والصيرورة اللذين يكتنفان العالم دائماً، وهذا هو المنطق الأفضل للتفكير فيه.
وفي نقطة أخرى من الفصل نفسه تحدث روفيللي عن ترتيب الكون، وذكر أن عدم القدرة على عمل ذلك في سلسلة منتظمة من الأزمنة لا يعني أن لا شيء يتغير، لكنه يعني أن التغيرات التي تحدث ليست مرتبة في تتابع واحد منظم، فالبنية الزمنية للعالم أكثر تعقيداً من مجرد تتابع خطّي مفرد، وهو لا يعني أن تلك البنية غير موجودة أو وهمية، فالتمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس وهماً، أما السؤال عن: بأي معني من المعاني يوجد شيء ما أو لا يوجد؟ فإن إجابته تتوقف على النظرة التي يمكن من خلالها الرد على وجود الشيء من عدمه.
القسم الثالث من الكتاب والذي أعطاه روفيللي عنوان «مصادر الزمن» سعى خلاله إلى اكتشاف العناصر الأساسية المكونة للزمن المألوف لدينا، ليس كبنى أولية للحقيقة الآن، وإنما بالأحرى كتقريبات مفيدة يستخدمها الإنسان في تحديد ماهيته، ذلك أن لغز الزمن في نهاية المطاف يتعلق بذوات البشر أكثر مما يتعلق بالكون.
وعبر خمسة فصول تكوّن منها هذا القسم حاول روفيللي إعادة بناء الزمن، والبحث عن مصادره، من أجل فهم من أين يأتي، وذكر أن الكون الشاسع يحتوي على عدد لا يُحصى من النظم الفيزيائية وهي تتفاعل ما بينها بطرق لا نهائية، وما يحتاج إليه العالم لكي يستمر في الدوران هو «الإنتروبيا» -التحول- المنخفضة، فمصادر الطاقة ليست لها علاقة بهذا الأمر، ومن دون هذا الإنتروبيا سوف تنخفض الطاقة إلى حرارة موحدة ويدخل العالم في حالة سبات من التوازن الحراري ولن يكون هناك أي تمايز بين الماضي والحاضر، ولن يحدث أي شيء.
ويشير روفيللي إلى أن حقيقة أن الإنتروبيا كانت منخفضة في الماضي، تقودنا إلى حقيقة أخرى حاسمة ومتغلغلة في الفرق بين الماضي والحاضر هي أن الأول يترك أثراً من ذاته في الثاني، ولكي يترك الشيءُ أثراً يلزمه أن يكفّ عن الحركة، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بسيرورة غير قابلة للانعكاس.
ولفت روفيللي إلى أن هناك مكونات مختلفة تجتمع لإنتاج هوية الإنسان، فكل منّا يتماهى مع وجهة نظر ما في العالم الذي ينعكس في كل منّا عبر طيف ثري من العلاقات التبادلية والجوهرية من أجل بقائنا، وهناك مكون آخر تقوم عليه هوية الإنسان، ومفاده أن الإنسان وهو يعكس العالم يرتّبه في كيانات، يصنّفه، ويقوم بتجزئته، بأفضل ما يستطيع في عملية متناسقة وثابتة، من أجل صنع صورة تقريبية له.
الجهاز العصبي للإنسان مصمم لكي يقوم بهذه العملية، فهو يستقبل مثيرات حسية ويراكم المعلومات ويعالجها على نحو مستمر، ثم يخلق منها سلوكاً، وهو يفعل ذلك عبر شبكات من الخلايا العصبية تشكل نظماً ديناميكية مرنة تعدل من نفسها بشكل مستمر، سعياً إلى التنبؤ بقدر الإمكان بتيار المعلومات الواردة إليها، فالذاكرة من وجهة نظر روفيللي هي التي تربط معاً السيرورات المبعثرة عبر الزمن والتي تشكّل وعينا منها، وبهذا المعنى نحن موجودون في الزمن، وفهم ذواتنا يعني التأمل فيه، لكنّ فهمه يتطلب منّا أيضاً أن نتأمل في ذواتنا.
عالم إيطالي يفكك فكرة الزمن
جادل بأن العالم مكوّن من أحداث ولا شيء اسمه «اللحظة نفسها في الكون»
عالم إيطالي يفكك فكرة الزمن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة