من التاريخ: صراعات الدولة العباسية

من التاريخ: صراعات الدولة العباسية
TT

من التاريخ: صراعات الدولة العباسية

من التاريخ: صراعات الدولة العباسية

أضعف الخوارج الدولة الأموية وساهموا بشكل أو بآخر في إضعاف السلطة المركزية في دمشق فكانت حروب مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين معهم سبباً في تشتيت جبهته والتي كان من المفترض أن توجه نحو أخطار قادمة، وهو ما تم بالفعل وأزيلت الدولة الأموية عن الحكم بعد 91 عاماً تخللتها الثورات والانتفاضات للخوارج.
وعندما جاءت الدولة العباسية في عام 132 من الهجرة، فإنها لم تكن أسعد حالاً من الدولة الأموية سابقتها فيما يتعلق بالخوارج، فلقد ظل الخوارج على موقفهم الرافض لهذه الدولة أو أي كيان سياسي مرتبط بالسلطة المركزية لأسباب تتعلق بتشددهم وتطرفهم في كل شيء بما في ذلك إدارة الدولة والحكم ومفهوم الشرعية، ولكن العنصر الهام الذي لعب لصالح الدولة العباسية كان إضعاف الأمويين للخوارج وثوراتهم من ناحية، وتفتتهم وتشرذمهم من ناحية أخرى، بالتالي فإن خطر الخوارج منذ أن اعتلى «أبو العباس السفاح» سدة الحكم لم يتحول إلى تهديد مباشر كما كان الحال مع الدولة الأموية، ومن اللافت للنظر أيضا أن خطرهم ظل بعيداً نسبياً عن مركز هذه الخلافة بشكل أو بآخر، ومما ساهم في تخفيف حدة خطورتهم على الدولة الجديدة تفتتهم الفكري وتفرقهم إلى جماعات مختلفة بأشكال وأفكار مختلفة من التطرف وهو ما أضعف فرصهم في التمركز والتوحد ضد الدولة الناشئة، كما أن بعضهم بدأ يميل أكثر للتشدد دون التطرف، ومن هنا كان العباسيون أيسر حالاً عن الأمويين في مهمة مواجهة الخوارج.
وقد بدأت محاولاتهم للاستقلال عن الدولة العباسية في جنوب شرقي الجزيرة العربية في عهد السفاح وأبي جعفر المنصور، أوائل الخلفاء العباسيين، وقد أمروا عليهم الجلندي بن مسعود الأزدي، ولم يكن السفاح أو المنصور من بعده ليتركوا خطر هذه الحركة يستفحل، فقاموا على الفور بتجريد جيش إلى هذه المنطقة وهزموهم، ولكنهم ثاروا مرة أخرى بعدما أمروا عليهم إماماً جديداً ولكن شوكتهم كانت قد قلت وقد تركهم العباسيون بعد ما شعروا بعدم خطورتهم.
ولقد ثار الخوارج مرة أخرى في الجزيرة العربية في عهد هارون الرشيد على أيدي أحد أقوى رجالهم وأشدهم بأساً وهو الوليد بن طريف، وقد حشد الرشيد جيشاً كبيراً وأمر عليه يزيد بن مزيد من قبيلة «وائل» والتي ينسب إليها الوليد بعد ما تصدى الأخير لعدد من جيوش الرشيد، فكتب أحد الشعراء قصيدة جاء فيها (وائل بضعهم يقتل بعضاً....لا يفل الحديد إلا الحديد)، ولكن واقع الأمر أن بأس الوليد كان أكبر من أن يدفع يزيدا للدخول في حرب مفتوحة معه، فلجأ للمناورات والتي استغرقت كثيراً من الوقت، فاستشاط الرشيد غيظاً وأرسل لقائد جيوشه برسالة تحقر من شأنه جاء فيها «.. لو وجهت أحد الخدم لقام بأحسن مما تقوم به»، وهو ما دفع يزيد للتعجيل بالحرب على الوليد وجيوشه، فدخل في صدام مباشر معه في معركة حامية الوطيس انتهت بهزيمة الوليد وقتله.
وبهزيمة الوليد انتهت فتنة الخوارج في الجزيرة العربية وإن كانوا قد ثاروا مرة أخرى في عهد الخليفة المهدي ولكنه هزمهم وشتت فلولهم، وبهذا النصر قضى العباسيون على الحركات الخارجية في المرحلة التالية، ولكن واقع الأمر أن التمركز الأساسي للخوارج كان في شمال أفريقيا، فلقد فر الخوارج من الهزائم المتتالية في الجزيرة العربية والعراق وفارس، ولجأوا لشمال أفريقيا، وهنا ساهم عاملان أساسيان في الانتشار النسبي لهم، الأول البُعد الجغرافي لهذه المنطقة عن مركز السلطة والفكر المعتدل في العراق وهو ما خلق لهم مساحة من السلطة والفكر، ويضاف إلى ذلك أن بعض هذه الفرق استمالت كثيراً من عناصر البربر ذوي البأس الشديد، فكان هذان العاملان حاسمان لصالح انتشار الوجود للخوارج هناك.
وقد لجأت بعض الفرق إلى الاستقلال التدريجي عن السلطة العباسية المركزية، أي بنوع من الحكم الذاتي وليس الاستقلال الكامل إلا في حالات متفرقة، وكانت طرابلس الليبية أحد أهم نقاط تمحورهم، وهنا بدأت حركات الحكم الذاتي في الشمال الأفريقي على أيدي عبد الله بن مسعود، فولى الوالي العباسي عبد الرحمن بن حبيب أخيه إلياس حاكماً على طرابلس فكان أول ما فعله هو ضرب عنق عبد الله، فثارت الخوارج وأمَّرت أخيه بدلا منه واشتدت الفتنة هناك إلى أن اضطر عبد الرحمن لعزل أخيه عن طرابلس، وبدأ معهم صراعا ممتدا انتهى لصالح الدولة المركزية، فتفرق الخوارج مرة أخرى نحو الغرب، وتشير المصادر التاريخية إلى أنهم كونوا لهم دولا لعل أهمها كان الدولة «الرستمية» نسبة إلى عبد الرحمن الرستمي، وقد استمرت هذه الدولة حتى عام 269 من الهجرة.
وحقيقة الأمر أن الصراع العباسي مع الخوارج كان أيسر حالاً كما رأينا، ولكن حركاتهم المختلفة كان لها دورها في إضعاف الدولة العباسية، خاصة بعد العصر العباسي الأول عندما بدأت العوامل الداخلية تفتت السلطة المركزية العباسية بسبب الخلافات القوية وضعف خلفاء هذا العصر عن سابقه وسيطرة أطراف خارجية على الخلفاء العباسيين وتلاعبهم بهم، وبضعف الدولة العباسية ضعف عنصران أساسيان، الأول السلطة المركزية الإسلامية، والثاني كان خفوت العنصر العربي من سدة الحكم المركزي للدولة الإسلامية، وهو ما كانت الدولة الأموية حريصة عليه من خلال إعلاء العنصر العربي للإبقاء على الطبيعة العربية للدولة الإسلامية، وهكذا ذهبت الدولة المركزية لصالح دول ودويلات مختلفة، وظل الخليفة العباسي رمزاً «يملك ولا يحكم»، وقد خدم تفتت الدولة المركزية لصالح الدويلات الجديدة إلى سيطرة مراكز الحكم هذه على الأراضي التابعة لها ومواجهتهم مثل هذا الفكر بشكل أكثر بأساً وقوة، كما أن الضربات المتتالية للخوارج أخرجتهم من اللعبة السياسية كعنصر فعال وبقوا في بقاع محاصرة فكرياً وعسكرياً، ومن خلال كل ما تقدم وصراع الخوارج الممتد مع الدول الإسلامية المركزية الثلاث، فإن الملاحظ أن المنهج الأساسي الذي تعاملت به هذه الدول كان المواجهة العسكرية لهذا الفكر المتطرف ولأتباعه، بما لا يفسح المجال له المجال السياسي أو العسكري للانتشار.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.