التنين السعودي في «أوبك»

محمد الماضي محافظ المملكة في «أوبك».. أمام أهم اختبار للمنظمة منذ 1990

التنين السعودي في «أوبك»
TT

التنين السعودي في «أوبك»

التنين السعودي في «أوبك»

في يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2008 كان السعودي محمد الماضي يجلس في مكتبه
في العاصمة الصينية بكين ليتابع أعمال «أرامكو» السعودية في السوق الصينية التي أصبحت ثاني
أهم سوق نفطية في العالم بعد الولايات المتحدة بعد أن أخذت تشتري النفط بدءاً من عام 2000 بكميات مهولة.
وفي نفس ذلك اليوم وعلى بعد آلاف الكيلومترات في مدينة وهران الجزائرية عقد وزراء منظمة البلدان المصدر
ة للبترول (أوبك) اجتماعاً طارئاً غير عادي واتفقوا فيه «وهذه أحد المرات النادرة التي تتفق فيها المنظمة»
على أن يخفضوا الإنتاج بنحو 4.2 مليون برميل يومياً ابتداء من أول أيام السنة الجديدة 2009 لإنقاذ أسعار النفط من الانهيار الكبير الذي ضربها ذلك العام. إذ إن أسعار النفط هبطت من 147 دولاراً في يوليو (تموز)
2008 لتصل إلى أقل من 40 دولاراً قبل وقت الاجتماع في ديسمبر.
لم يترك وزراء النفط «أوبك» في وهران الكثير من المساحة للتفكير أمام الماضي في بكين والذي كان حينها قد أوشك أن يكمل عامه الثاني في الصين رئيسا لفرع «أرامكو» هناك. فمن جهة كان عليه أن يزيد مبيعات «أرامكو» ومن جهة فهو عليه أن يلتزم بالتخفيض الذي أقرته المنظمة، حيث إن المملكة هي القائد الفعلي لـ«أوبك»، لذا عليها الالتزام بتخفيض إنتاجها أكثر من الجميع.
ويقول أحد الأشخاص الذين عملوا معه في تسويق النفط في الصين في تلك الفترة لـ«الشرق الأوسط»: «لقد كان عام 2009 أكبر تحد واجهناه ونحن في الصين فالمطلوب من (أرامكو) بناء على قرار (أوبك) أن تخفض إنتاجها حتى ترتفع الأسعار. لقد كان تحديا كبيرا لنا أن نبيع المزيد من النفط حينها».
* التنين من بكين إلى فيينا
* ووسط هذه الظروف الصعبة نجحت السعودية وباقي «أوبك» في انتشال سعر النفط من الهبوط وبدأت الأسعار تشق طريقها للأعلى خلال 2009 بعد التخفيض الكبير في الإنتاج. ونجح الماضي كذلك هو وفريقه في تحقيق معجزة مماثلة، إذ إن مبيعات «أرامكو» السعودية في الصين زادت سنوياً بين 2008 إلى 2010 رغماً عن الركود العالمي الذي ضرب الأسواق حينها ورغماً عن إبقاء «أوبك» إنتاجها منخفضاً حتى تتوازن السوق وترتفع الأسعار.
ويعلق نفس الشخص على ذلك قائلاً: «لم نصدق أن ذلك سوف يحدث، ولكن الماضي بذل جهداً كبيراً حينها حتى تبيع (أرامكو) نفطاً أكثر. لقد كانت عزيمته على تثبيت قدم (أرامكو) في الصين حينها أكبر من كل الظروف والتحديات».
ويضيف الشخص الذي رفض ذكر اسمه: «الصين بلد التنانين وأن تبيع على الصينيين شيئاً فهذا ليس بالأمر السهل ما لم تكن تنيناً، وهذا ما كان عليه الماضي. لقد كان التنين السعودي في الصين. لقد كان يفكر مثلهم ويتكلم لغتهم الصينية بطلاقة ويعرف أسرارهم».
إلا أن التنين السعودي أو الماضي الذي تأثر كثيراً بقرار «أوبك» لم يدر بخلده حينها أنه بعد مضي 5 سنوات سيترك بكين ويتجه إلى العاصمة النمساوية فيينا مقر الأمانة العامة لـ«أوبك» ليمثل المملكة في نفس المنظمة التي وضعته في 2008 أمام أصعب التحديات.
وفي الخامس من شهر ديسمبر لعام 2013، عينت المملكة الماضي محافظاً جديداً لها في «أوبك» خلفاً للمحافظ السابق ياسر المفتي والذي عاد لبيته الأساسي في «أرامكو» ليتولى مهام الإشراف على استراتيجية التحول المتسارعة التي أطلقتها الشركة لتتحول من منتج للنفط والغاز إلى شركة طاقة متكاملة.
وجاء تعيين الماضي ليعكس أهمية الصين وآسيا بالنسبة لـ«أوبك» عامة وللسعودية خاصة، نظراً لأنها أصبحت الملاذ الآمن لصادرات دول المنظمة في ظل توجه الولايات المتحدة لتقليل وارداتها النفطية والاعتماد على الإنتاج المحلي الذي ازداد هذا العام ليصل لمعدلات لم يصلها منذ عام 1983 بفضل النفط الصخري. وتبدو أهمية آسيا واضحة للسعودية إذ من بين كل 10 براميل تنتجها «أرامكو» يتم شحن 5 ونصف منها إلى أسواق آسيا.
السنوات الصعبة في الصين
وعندما أعلنت السعودية عن تعيينها للماضي في «أوبك» لم يكن هناك كثير ممن يعرفونه لأنه قضى سبع سنوات في آسيا بعيداً عن أعين الجميع، وهناك من تصور أن الماضي الذي تم تعيينه هو نفسه الرئيس التنفيذي لشركة «سابك» والذي يحمل نفس الاسم الأول واسم العائلة.
وذهب الماضي إلى آسيا في عام 2007 مديرا عاما لفرع «أرامكو» السعودية في الصين وبعد 5 سنوات انتقل إلى كوريا الجنوبية في 2012 مديرا عاما لفرع الشركة، وهو المنصب الذي شغله حتى تم تعيينه في «أوبك».
وسألت «الشرق الأوسط» شخصاً آخر ممن عملوا معه عن أهم إنجازات الماضي خلال السنوات التي عمل فيها الصين فقال: «انظر إلى أرقام مبيعات النفط الخام السعودي في الصين خلال تلك الفترة حتى تعرف إنجازاته فالأرقام لا تكذب».
وبناء على أرقام الجمارك الصينية التي قامت «الشرق الأوسط» بجمعها وتحليلها فإن واردات البلد الآسيوي من النفط السعودي كانت تنمو بصورة بسيطة حتى 2007 وهي السنة التي تسلم فيها الماضي زمام الأمور هناك.
ففي عام 2004 كانت الصين تستورد في المتوسط نحو 346 ألف برميل يومياً من النفط السعودي ثم ارتفعت في العام الذي يليه إلى 445 ألف برميل يومياً وواصلت النمو لتصل إلى 479 ألف برميل يومياً في 2006 وهو العام الذي سبق وصول الماضي إلى الصين.
وفي أول عام له في الصين لم تزد واردات النفط الخام كثيراً، إذ ارتفعت 49 ألف عن العام الذي سبقه لتصل إلى 528 ألف برميل في المتوسط بنهاية 2007. ولكنها في العام الثاني له أي في 2008 قفزت قفزة كبيرة جداً لترتفع إلى 730 ألف برميل يومياً.
وفي عام 2009 وهو العام الذي التزمت فيه المملكة مع الـ«أوبك» بتخفيض إنتاجها بشكل كبير، زادت واردات الصين من النفط السعودي رغم أن صادرات المملكة من النفط شهدت انخفاضاً كبيراً. وأظهرت بيانات السعودية الرسمية أن إجمالي صادرات المملكة إلى كل بلدان العالم من النفط الخام انخفضت بنحو مليون برميل من 6.55 مليون برميل يومياً في يناير (كانون الثاني) لتصل إلى 5.55 مليون برميل يومياً في يونيو (حزيران).
وارتفعت واردات الصين خلال 2009 إلى 842 ألف برميل يومياً في المتوسط من 730 ألف برميل يومياً في 2008 ولم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت في النمو إلى 896 ألف برميل يومياً في 2010 ثم تجاوزت سقف المليون برميل يومياً في 2011 وهو المستوى الذي ظلت عليه حتى 2013. لكن واردات الصين من النفط السعودي لم تتغير كثيراً بين 2012 و2013 وظلت ثابتة عند نفس الرقم في شكل خط مستقيم.

* الثقافة قبل بيع النفط
* ولكن ما السر وراء نمو مبيعات النفط السعودي في الفترة التي تولى فيها الماضي إدارة الصين؟ وهل كان الماضي فعلاً نقطة تحول في المبيعات هناك أم أن الصين كانت ستزيد وارداتها من السعودية بشكل طبيعي دون تدخل أحد، نظراً للنمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته خلال الأعوام التي قضاها الماضي هناك؟
الإجابة على السؤال الأول يرويها أحد الأشخاص الذين عملوا معه في تلك الفترة والذي يقول: «السر في اهتمام الصينيين في الماضي يكمن في أنه أصبح صينياً في وقت بسيط جداً وبذلك اقترب منهم».
ويضيف قائلاً: «لقد جاء الماضي في 2007 إلى الصين ولكنه بدلاً من أن يبدأ في البيع، فقد كرس أغلب وقته لتعلم اللغة الصينية ومراقبة الناس والمجتمع والانخراط فيه وتعلم ثقافاتهم. بهذا تمكن من اختراق الزبائن الصينيين».
وتمكن الماضي من إتقان اللغة الصينية خلال الخمس سنوات التي قضاها هناك، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل حصل على الدكتوراه في هندسة البترول من جامعة بكين. وهنا يقول زميله في المكتب: «لقد كنت أراه في بعض الأحيان وهو يدرس بعد انتهاء ساعات العمل. لقد اجتهد كثيراً ولم يضع وقته في الصين غير في العمل أو التعلم. والأهم من هذا أنه كان يقرأ بنهم شديد جداً ويقرأ تقريباً عن كل شيء».
ويقدم المحلل النفطي الكويتي والرئيس التنفيذي السابق لشركة البترول الكويتية العالمية كامل الحرمي إجابة على السؤال الثاني في حديثه إلى «الشرق الأوسط» قائلاً: «(أرامكو) أكبر شركة منتجة للنفط والصين أكبر مستورد للنفط في آسيا ولهذا كلاهما يحتاج للآخر».
ويستطرد الحرمي قائلاً: «إلا أن عضلات (أرامكو) لن تفيد بمفردها في السوق الصينية ما لم يكن هناك مخ يساعدها. ففي الصين التجار عقليتهم واحدة وهي الحصول على الأفضل بالسعر الأقل وكل الدول تريد أن تبيع لهم، ولهذا فإن الأسماء لا تعني لهم كثيراً». ويضيف الحرمي: «أنا لا أعرف الماضي شخصياً ولكني واثق من أن (أرامكو) لن تضع في الصين إلا أقوى رجالها».
وتشهد السوق الصينية منافسة شديدة من كل الدول المصدرة للبترول. فهناك دول مثل أنغولا بدأت في الاقتراب كثيراً من المستوى الذي تصدر به السعودية إلى الصين. وهناك دولة قادمة من الخلق بقوة مثل عمان التي تضاعفت واردات الصين منها خلال عامين فقط.
ولم تكن مساهمة الماضي محصورة في تسويق النفط السعودي، إذ إنه ذهب إلى أبعد من ذلك بحسب ما يوضحه زملاؤه السابقون في الصين، حيث استخدم الماضي لغته الصينية وكل فنون الإقناع التي اكتسبها خلال سنوات عمله في الصين في إقناع شركة «ساينوبك» الصينية في الدخول شريكا في مشروع مصفاة ياسرف الواقعة في مدينة ينبع على ساحل البحر الأحمر بعد أن أعلنت شركة «كونوكو فيلبس» الأميركية انسحابها منه في عام 2010.
وبحسب ما أوضحه زملاء الماضي فإنه هو الذي فتح باب المفاوضات لـ«أرامكو» للدخول شريكا مع شركة بتروتشاينا المملوكة للحكومة الصينية في مشروع مصفاة في إقليم يونان طاقتها التكريرية تقارب 300 ألف برميل يومياً، وهو المشروع الذي لم ينتهِ الطرفان من التفاوض حوله حتى الآن.
ويتمتع الماضي بعلاقات قوية جداً مع رؤساء شركات النفط الصينية ليس فقط لكونه ممثلاً لـ«أرامكو» السعودية، بل لأن الصينيين يحترمون فيه اهتمامه بلغتهم وثقافتهم، بحسب زملائه، الذين أوضحوا كذلك أنه كان قادراً على الحصول على موعد مع رؤساء أكبر الشركات بكل سهولة، وهو أمر افتقر إليه كثير من ممثلي الشركات الخليجية على حد تعبيرهم.

* الماضي «الغورو» و«العراب»
* أما على صعيد العمل فيقول عنه زملاؤه السابقون في الصين، إن أكثر ما يميز الماضي هو التزامه بتحقيق أي هدف يضعه لهم. ويقول أحدهم: «قد أبدو مبالغاً لو قلت إن هذا الرجل لا يحب الاعتراف بكلمة المستحيل ولكن هذه هي الحقيقة. فقط جرب أن تعطيه مهمة وتطلب منه تنفيذها وسترى بنفسك».
ومن بين الأمور الأخرى التي يتميز بها الماضي هو أنه مقاتل عن حقوق زملائه ومرؤوسيه كما يقولون عنه. وهنا يضيف أحد الشباب الذين عملوا معه في مكتب الصين: «أنا شخصياً أعتبره عرابي في الشركة، لأسباب كثيرة أولاً لأنه يقدر كل الأشخاص الذي يعملون بجد ويحارب من أجلهم، وثانياً لأنه كان يتبنى الشباب ويرعانا بصورة شخصية. وحتى عندما أخطئ كان لا يوبخني بل يقول لي الأخطاء لا تهم طالما أننا نتعلم منها ولا نكررها».
وأجمع زملاؤه أن ميزته الأهم هو أنه مفكر استراتيجي ومسوق في نفس الوقت. ويصفه أحدهم بقوله: «الماضي ابن السوق ويجيد مهنة المبيعات والتسويق ولكن الكثيرين غير الماضي يجيدونها مثله، إلا أن ما يميزه عن غيره أنه كان مخططا استراتيجيا ويبني التسويق على أساس استراتيجيات وخطط طويلة المدى».
وتحمل السيرة الذاتية للماضي الكثير من الأمور الغريبة أولها هو أنه بدأ حياته العملية بعيداً عن قطاع النفط، وثانيها هو أنه نادرا ما استمر في وظيفة ما لأكثر من 5 سنوات ولعل هذه هي السمة الأبرز في مشواره العملي. وبدأ الماضي مشواره العملي في القطاع المصرفي عندما التحق بفرع البنك السعودي الفرنسي في الدمام في عام 1983 على وظيفة مسؤول الائتمان بعد تخرجه في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
وفي عام 1988 التحق بالشركة السعودية للكهرباء منسقا للميزانيات الرأسمالية، ليقترب بذلك خطوة من «أرامكو» السعودية التي التحق بها في عام 1991 في قسم التخطيط بعيد المدى بنفس مسمى وظيفته السابقة. وفي عام 1996 انتقل إلى وحدة تحليل الأعمال التابعة للشركة محللا أعلى للطاقة.
وفي عام 2001، أي في بدايات نمو الطلب الصيني على النفط السعودي، انتقل الماضي إلى قسم تسويق وإمدادات النفط على وظيفة مدير التسويق، ولعل هذه الوظيفة هي التي فتحت عينه على سوق النفط الآسيوي وعلى زبائن المملكة. ويقول أحد الأشخاص الذين عملوا معه في التسويق في تلك الفترة: «كان من أفضل الأشخاص الذين يسعرون النفط السعودي، ولذلك كان البعض يلقبه بـ(الغورو) أي المعلم».
وفي عام 2007 بدأ الماضي رحلته الآسيوية واقترب أكثر من زبائن «أرامكو» عندما التحق بشركة البترول السعودية الصينية التابعة لـ«أرامكو» نائبا للرئيس الإقليمي قبل أن يحط رحاله في كوريا في عام 2012.
والآن يجلس الماضي على كرسي محافظ السعودية في «أوبك» ساحباً معه سنوات طويلة من تسويق وتسعير وبيع النفط في السوق، وهو أمر لم يتوفر في أخر ثلاثة محافظين سبقوه إلى المنصب، وهم ياسر المفتي الذي كانت خلفيته في معظمها فنية في إنتاج النفط والغاز، أو الدكتور ماجد المنيف والذي كان اقتصادياً، أو سليمان الحربش الذي دخل لمنصب محافظ الأوبك من خلال بوابة وزارة البترول واستمر فيه لمدة 13 عاماً.
ومجلس المحافظين هو أعلى جهاز في «أوبك» بعد المؤتمر الوزاري والذي يتكون من وزراء المنظمة. ومهمة المجلس هي تطبيق كل قرارات وتوصيات الوزراء، والموافقة على ميزانية والتعيينات في المنظمة إضافة إلى تقديم توصيات للوزراء بكل ما يخص المنظمة ومراجعة أي تقرير من الأمين العام مقدم للوزراء.
إذن ماذا سيضيف شخص مثل الماضي للمنظمة ولمجلس المحافظين؟ يجيبب أحد زملائه على هذا السؤال قائلاً: «من الصعب التكهن بماذا يمكن أن يضيفه، فهو لم يكمل عامه الأول في (أوبك) ولكن أفضل ما يجيده الماضي هو التفكير الاستراتيجي والتخطيط المستقبلي ومعرفة اتجاهات السوق بناء على انطباعات الزبائن. وإذا وضعت هذه الأمور في ممثل أكبر منتج نفطي في مجلس المحافظين في (أوبك) فإن المجلس سيقترب أكثر من السوق وسيضع يده على نبضه». ويبقى السؤال الأخير هو هل سيكون الماضي موجوداً في مجلس محافظي «أوبك» في 2020 أم أنه سيمارس هوايته المفضلة وينتقل إلى وظيفة أخرى عقب 5 سنوات من الآن؟



عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
TT

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» عن مواصلة العمل لتحقيق حلمه. إذ تفتحت عينا «عرّو» في مدينة هرجيسا، عاصمة إقليم «أرض الصومال» وكبرى مدنه، يوم 29 أبريل (نيسان) 1955، على نداءات للاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وتحقّق ذلك وعمره نحو 5 سنوات... وهو الآن يأمل باعتراف دولي للإقليم - الذي كان يُعرف سابقاً بـ«الصومال البريطاني» - وهو يترأسه بعمر الـ69 كسادس رئيس منذ انفصاله عن الجمهورية الصومالية عام 1991.

عاش عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» حياته بين دهاليز الدبلوماسية وسنوات غربة وتقلبات السياسة، وسجل أرقاماً قياسية، أبرزها أنه كان أطول رؤساء مجلس نواب إقليم «أرض الصومال» (صوماليلاند) عهداً مسجّلاً 12 سنة.

وجاء إعلان انتخابه رئيساً للإقليم في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المودّع، في ظرف تاريخي وتوقيت مصيري يواجهان بلاده وسط توترات حادة، أبرزها مع الحكومة الصومالية الفيدرالية - التي لا تعترف بانفصاله - وترفض اتفاقاً مبدئياً أقرّه سلفه موسى بيحي عبدي مطلع 2024 مع إثيوبيا اعتبرت أنه يهدّد سيادة البلاد.

المولد والنشأة

وُلد عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» وفق مصادر «الشرق الأوسط»، في عائلة مكوّنة من 7 فتيات و3 أولاد، وهو حالياً متزوج ولديه 5 أبناء.

بدأ تعليمه الابتدائي في مدينة بربرة، ثاني كبرى مدن الإقليم وميناؤه الرئيس. وتابع تعليمه الثانوي في هرجيسا، منتقلاً إلى المدرسة الثانوية عام 1977. وبعد ذلك، انتقل إلى العاصمة الصومالية الفيدرالية مقديشو، حيث التحق بكلية سيدام ومنها حصل على درجة البكالوريوس في المحاسبة، وتضم شهاداته أيضاً درجة الماجستير في إدارة الأعمال ودبلوماً في حل النزاعات.

بين عامي 1978 و1981، عمل «عرّو» في منظمة معنية بالتنمية الاجتماعية في مقديشو. وبين عامي 1981 و1988 شغل منصباً دبلوماسياً في وزارة الخارجية الصومالية بإدارة التعاون الاقتصادي. ومن مايو (أيار) 1988 إلى عام 1996، قبل أن يعمل مستشاراً للسفارة الصومالية في موسكو ثم نائب السفير والقائم بالأعمال.

العيش في الخارج

بعد انهيار الحكومة الصومالية، انتقل «عرّو» عام 1996 إلى فنلندا، التي كانت عائلته تقيم فيها منذ سنوات عدة وحصل على جنسيتها وظل مقيماً فيها حتى عام 1999.

للعلم، خلال عامي 1997 و1998 كان مساعد المنظمة الدولية للهجرة في فنلندا. بيد أنه عاد إلى إقليم أرض الصومال عام 1999، وبعد أقل من سنتين، أصبح «عرّو» أحد مؤسسي «حزب العدالة والتنمية» UCID - حزب المعارضة البارز - مع فيصل علي وارابي منافسه في الانتخابات الرئاسية هذا العام، وحينذاك شغل منصب نائب الأمين العام للحزب.

إقليم أرض الصومال شهد انتخابات لمجلس النواب، المكوّن من 82 نائباً، يوم 29 سبتمبر (أيلول) 2005. وكانت تلك أول انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب تنظَّم في الإقليم منذ انفصاله عن جمهورية الصومال (الصومال الإيطالي سابقاً) عام 1991. ولقد انتخب «عرو» نائباً عن منطقة ساحل بربرة، وانتُخب لاحقاً رئيساً للبرلمان (مجلس النواب)، وإبّان فترة ولايته سُنّت معظم قوانين الإقليم وتشريعاته.

لكن، بعد نحو 6 سنوات، وإثر خلاف تفجّر مع وارابي، أسّس «عرّو» الذي يتكلم اللغات الإنجليزية والعربية والروسية، «الحزب الوطني» - أو حزب «وداني» (الوطني) - المعارض الذي يميل إلى اليسار المعتدل ويحمل رؤية تقدمية في قضايا الأقليات والحريات كما يدعم المزيد من اللامركزية.

يوم 2 أغسطس (آب) 2017، استقال «عرّو» من رئاسة البرلمان بعدما شغل المنصب لمدة 12 سنة، وهي أطول فترة لرئيس برلمان بتاريخ الإقليم، معلناً أنه يتهيأ لدور أكثر أهمية كرئيس لأرض الصومال. غير أن آماله تحطمت على صخرة موسى بيحي عبدي، مرشح «حزب السلام والوحدة والتنمية» في المرة الأولى.

لكنه حقق مراده بعدما أعاد الكرَّة وترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت يوم 13 نوفمبر 2024، وحصل فيها على 63.92 في المائة من الأصوات متغلباً على عبدي الذي حل ثانياً بـ34.81 في المائة، لجنة الانتخابات الوطنية الرسمية بالإقليم.

الرئيس السادسانتخابات عام 2024 هي الانتخابات المباشرة الرابعة منذ عام 2003، ومع فوز «عرّو» غدا الرئيس الرابع حسب الانتخابات الرئاسية المباشرة لفترة تمتد إلى 5 سنوات، وكذلك أصبح الرئيس السادس في المجمل منذ انفصال الإقليم 18 مايو 1991. ويذكر أنه عقب إعلان انفصال إقليم أرض الصومال، انتخب السفير عبد الرحمن أحمد علي، رئيس الحركة الوطنية بالبلاد حينها، ليكون أول رئيس للإقليم عبر انتخابات غير مباشرة. وفي 1993 انتخب السياسي محمد إبراهيم عقال رئيساً، وفي عام 1997 وجدّد له لفترة ثانية.

وبعد وفاة عقال عام 2002 أثناء رحلة علاج في جنوب أفريقيا، انتًخب نائبه طاهر ريالي كاهن؛ رئيساً للبلاد لتكملة الفترة الانتقالية. ثم في عام 2003، أجريت أول انتخابات رئاسية مباشرة في الإقليم، أسفرت عن فوز حزب «اتحاد الأمة» بقيادة الرئيس طاهر ريالي كاهن على السياسي أحمد محمد سيلانيو.

وفي يونيو (حزيران) 2010، أُجريت ثاني انتخابات رئاسية مباشرة، وتمكن سيلانيو من الفوز بالرئاسة لفترة خمس سنوات. وانتهت الانتخابات الثالثة التي أجريت في 13 نوفمبر 2017، بفوز موسى بيحي عبدي، الذي حصل على 55 في المائة من الأصوات.

وكان من المقرر أن تُجرى انتخابات الرئاسة الرابعة في الإقليم عام 2022، لكن لجنة الانتخابات الوطنية أجّلتها إلى 2023 ثم إلى نوفمبر 2024 بعد تمديد نيابي لولاية الرئيس عبدي الذي يتولى الرئاسة منذ 2017. وأرجعت اللجنة التأجيلات إلى «قيود زمنية وتقنية ومالية»، وسط انتقادات من المعارضة، قبل أن يفوز «عرّو».

التزامات وتحديات

جاء انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال، لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا مطلع 2024، تسمح للأخيرة بمنفذ بحري على سواحل البحر الأحمر لأغراض تجارية وعسكرية، مقابل الاعتراف بالإقليم بصفته دولةً مستقلة، الأمر الذي عدّته الحكومة الصومالية «اعتداءً على سيادتها وأراضيها».

إذ بجانب تحدّي الميناء، يشكّل الملف الداخلي تحدّياً ثانياً - بالذات - في أبعاده الأمنية والاقتصادية والعشائرية. كذلك تعدّ العلاقات الخارجية، وبخاصة مع إثيوبيا، تحدياً ثالثاً. ويضاف إلى ما سبق تحديان آخران، الرابع يتصل بملف المفاوضات المعلّقة مع الحكومة الصومالية الفيدرالية، والخامس بملف «حركة الشباب» الإرهابية المتطرفة.

هذه التحديات الخمسة، تقابلها التزامات أكّدها الرئيس المنتخب أثناء حملاته الانتخابية، منها التزامه بإعادة فتح وتنفيذ الحوار بين الإقليم والحكومة الفيدرالية الصومالية، وفق ما ذكرته إذاعة «صوت أميركا» باللغة الصومالية عقب مقابلة معه. وخلال حملاته الانتخابية أيضاً، قال «عرّو» إن حزبه سيراجع «مذكرة التفاهم» مع إثيوبيا، من دون أن يرفضها. في حين نقلت «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) عن محمود آدم، الناطق باسم حزب «عرّو»، أن «الاتفاقية لم تُعرض على الحزب أثناء العملية، وأن الحزب لم يراجعها منذ ذلك الحين». وأردف: «بشكل عام، نرحب بأي تعاون عادل ومفيد مع جيراننا. ولقد كانت إثيوبيا على وجه الخصوص صديقاً عظيماً على مرّ السنين. وعندما نتولّى السلطة، سنقيّم ما فعلته الحكومة السابقة».

لكن سبق هذه التعهدات والتحديات برنامج سياسي لحزب «وداني» تضمن خطوطاً عريضة متعلقة بالسياسة الخارجية لانتخاب الرئيس «عرّو» في عام 2024، أبرزها أن تكون الإجراءات القانونية والدبلوماسية لأرض الصومال مبنية على المصالح الوطنية ولا تتورط في نزاعات سياسية واقتصادية مع دول أخرى.

وتتضمن النقاط نقطتي:

- العمل على انضمام أرض الصومال إلى المنظمات الدولية الرئيسة، كالاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، والكومنولث، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، وغيرها.

- وإجراء مراجعة سنوية للسياسة الخارجية، لتعكس التطورات العالمية وتضمن التوافق مع المصالح الوطنية.

خبراء حاورتهم «الشرق الأوسط»، قالوا إنه من الصعب التكهن حالياً بتداعيات فوز مرشح المعارضة على مسار مذكرة التفاهم مع إثيوبيا، لكنهم اعتبروا أن الرئيس المنتخب سيسلك استراتيجية أخرى لنيل الاعتراف الدولي، تقوم على تهدئة الخطاب السياسي تجاه مقديشو، وإرسال رسائل تطمينية لها؛ بغية حثّها على الاعتراف بـ«أرض الصومال» دولةً مستقلة، مقابل الوصول لصيغة قانونية جديدة معترف بها دولياً تحكم العلاقة بين المنطقتين، كصيغة الاتحاد الفيدرالي مثلاً.