التنين السعودي في «أوبك»

محمد الماضي محافظ المملكة في «أوبك».. أمام أهم اختبار للمنظمة منذ 1990

التنين السعودي في «أوبك»
TT

التنين السعودي في «أوبك»

التنين السعودي في «أوبك»

في يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2008 كان السعودي محمد الماضي يجلس في مكتبه
في العاصمة الصينية بكين ليتابع أعمال «أرامكو» السعودية في السوق الصينية التي أصبحت ثاني
أهم سوق نفطية في العالم بعد الولايات المتحدة بعد أن أخذت تشتري النفط بدءاً من عام 2000 بكميات مهولة.
وفي نفس ذلك اليوم وعلى بعد آلاف الكيلومترات في مدينة وهران الجزائرية عقد وزراء منظمة البلدان المصدر
ة للبترول (أوبك) اجتماعاً طارئاً غير عادي واتفقوا فيه «وهذه أحد المرات النادرة التي تتفق فيها المنظمة»
على أن يخفضوا الإنتاج بنحو 4.2 مليون برميل يومياً ابتداء من أول أيام السنة الجديدة 2009 لإنقاذ أسعار النفط من الانهيار الكبير الذي ضربها ذلك العام. إذ إن أسعار النفط هبطت من 147 دولاراً في يوليو (تموز)
2008 لتصل إلى أقل من 40 دولاراً قبل وقت الاجتماع في ديسمبر.
لم يترك وزراء النفط «أوبك» في وهران الكثير من المساحة للتفكير أمام الماضي في بكين والذي كان حينها قد أوشك أن يكمل عامه الثاني في الصين رئيسا لفرع «أرامكو» هناك. فمن جهة كان عليه أن يزيد مبيعات «أرامكو» ومن جهة فهو عليه أن يلتزم بالتخفيض الذي أقرته المنظمة، حيث إن المملكة هي القائد الفعلي لـ«أوبك»، لذا عليها الالتزام بتخفيض إنتاجها أكثر من الجميع.
ويقول أحد الأشخاص الذين عملوا معه في تسويق النفط في الصين في تلك الفترة لـ«الشرق الأوسط»: «لقد كان عام 2009 أكبر تحد واجهناه ونحن في الصين فالمطلوب من (أرامكو) بناء على قرار (أوبك) أن تخفض إنتاجها حتى ترتفع الأسعار. لقد كان تحديا كبيرا لنا أن نبيع المزيد من النفط حينها».
* التنين من بكين إلى فيينا
* ووسط هذه الظروف الصعبة نجحت السعودية وباقي «أوبك» في انتشال سعر النفط من الهبوط وبدأت الأسعار تشق طريقها للأعلى خلال 2009 بعد التخفيض الكبير في الإنتاج. ونجح الماضي كذلك هو وفريقه في تحقيق معجزة مماثلة، إذ إن مبيعات «أرامكو» السعودية في الصين زادت سنوياً بين 2008 إلى 2010 رغماً عن الركود العالمي الذي ضرب الأسواق حينها ورغماً عن إبقاء «أوبك» إنتاجها منخفضاً حتى تتوازن السوق وترتفع الأسعار.
ويعلق نفس الشخص على ذلك قائلاً: «لم نصدق أن ذلك سوف يحدث، ولكن الماضي بذل جهداً كبيراً حينها حتى تبيع (أرامكو) نفطاً أكثر. لقد كانت عزيمته على تثبيت قدم (أرامكو) في الصين حينها أكبر من كل الظروف والتحديات».
ويضيف الشخص الذي رفض ذكر اسمه: «الصين بلد التنانين وأن تبيع على الصينيين شيئاً فهذا ليس بالأمر السهل ما لم تكن تنيناً، وهذا ما كان عليه الماضي. لقد كان التنين السعودي في الصين. لقد كان يفكر مثلهم ويتكلم لغتهم الصينية بطلاقة ويعرف أسرارهم».
إلا أن التنين السعودي أو الماضي الذي تأثر كثيراً بقرار «أوبك» لم يدر بخلده حينها أنه بعد مضي 5 سنوات سيترك بكين ويتجه إلى العاصمة النمساوية فيينا مقر الأمانة العامة لـ«أوبك» ليمثل المملكة في نفس المنظمة التي وضعته في 2008 أمام أصعب التحديات.
وفي الخامس من شهر ديسمبر لعام 2013، عينت المملكة الماضي محافظاً جديداً لها في «أوبك» خلفاً للمحافظ السابق ياسر المفتي والذي عاد لبيته الأساسي في «أرامكو» ليتولى مهام الإشراف على استراتيجية التحول المتسارعة التي أطلقتها الشركة لتتحول من منتج للنفط والغاز إلى شركة طاقة متكاملة.
وجاء تعيين الماضي ليعكس أهمية الصين وآسيا بالنسبة لـ«أوبك» عامة وللسعودية خاصة، نظراً لأنها أصبحت الملاذ الآمن لصادرات دول المنظمة في ظل توجه الولايات المتحدة لتقليل وارداتها النفطية والاعتماد على الإنتاج المحلي الذي ازداد هذا العام ليصل لمعدلات لم يصلها منذ عام 1983 بفضل النفط الصخري. وتبدو أهمية آسيا واضحة للسعودية إذ من بين كل 10 براميل تنتجها «أرامكو» يتم شحن 5 ونصف منها إلى أسواق آسيا.
السنوات الصعبة في الصين
وعندما أعلنت السعودية عن تعيينها للماضي في «أوبك» لم يكن هناك كثير ممن يعرفونه لأنه قضى سبع سنوات في آسيا بعيداً عن أعين الجميع، وهناك من تصور أن الماضي الذي تم تعيينه هو نفسه الرئيس التنفيذي لشركة «سابك» والذي يحمل نفس الاسم الأول واسم العائلة.
وذهب الماضي إلى آسيا في عام 2007 مديرا عاما لفرع «أرامكو» السعودية في الصين وبعد 5 سنوات انتقل إلى كوريا الجنوبية في 2012 مديرا عاما لفرع الشركة، وهو المنصب الذي شغله حتى تم تعيينه في «أوبك».
وسألت «الشرق الأوسط» شخصاً آخر ممن عملوا معه عن أهم إنجازات الماضي خلال السنوات التي عمل فيها الصين فقال: «انظر إلى أرقام مبيعات النفط الخام السعودي في الصين خلال تلك الفترة حتى تعرف إنجازاته فالأرقام لا تكذب».
وبناء على أرقام الجمارك الصينية التي قامت «الشرق الأوسط» بجمعها وتحليلها فإن واردات البلد الآسيوي من النفط السعودي كانت تنمو بصورة بسيطة حتى 2007 وهي السنة التي تسلم فيها الماضي زمام الأمور هناك.
ففي عام 2004 كانت الصين تستورد في المتوسط نحو 346 ألف برميل يومياً من النفط السعودي ثم ارتفعت في العام الذي يليه إلى 445 ألف برميل يومياً وواصلت النمو لتصل إلى 479 ألف برميل يومياً في 2006 وهو العام الذي سبق وصول الماضي إلى الصين.
وفي أول عام له في الصين لم تزد واردات النفط الخام كثيراً، إذ ارتفعت 49 ألف عن العام الذي سبقه لتصل إلى 528 ألف برميل في المتوسط بنهاية 2007. ولكنها في العام الثاني له أي في 2008 قفزت قفزة كبيرة جداً لترتفع إلى 730 ألف برميل يومياً.
وفي عام 2009 وهو العام الذي التزمت فيه المملكة مع الـ«أوبك» بتخفيض إنتاجها بشكل كبير، زادت واردات الصين من النفط السعودي رغم أن صادرات المملكة من النفط شهدت انخفاضاً كبيراً. وأظهرت بيانات السعودية الرسمية أن إجمالي صادرات المملكة إلى كل بلدان العالم من النفط الخام انخفضت بنحو مليون برميل من 6.55 مليون برميل يومياً في يناير (كانون الثاني) لتصل إلى 5.55 مليون برميل يومياً في يونيو (حزيران).
وارتفعت واردات الصين خلال 2009 إلى 842 ألف برميل يومياً في المتوسط من 730 ألف برميل يومياً في 2008 ولم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت في النمو إلى 896 ألف برميل يومياً في 2010 ثم تجاوزت سقف المليون برميل يومياً في 2011 وهو المستوى الذي ظلت عليه حتى 2013. لكن واردات الصين من النفط السعودي لم تتغير كثيراً بين 2012 و2013 وظلت ثابتة عند نفس الرقم في شكل خط مستقيم.

* الثقافة قبل بيع النفط
* ولكن ما السر وراء نمو مبيعات النفط السعودي في الفترة التي تولى فيها الماضي إدارة الصين؟ وهل كان الماضي فعلاً نقطة تحول في المبيعات هناك أم أن الصين كانت ستزيد وارداتها من السعودية بشكل طبيعي دون تدخل أحد، نظراً للنمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته خلال الأعوام التي قضاها الماضي هناك؟
الإجابة على السؤال الأول يرويها أحد الأشخاص الذين عملوا معه في تلك الفترة والذي يقول: «السر في اهتمام الصينيين في الماضي يكمن في أنه أصبح صينياً في وقت بسيط جداً وبذلك اقترب منهم».
ويضيف قائلاً: «لقد جاء الماضي في 2007 إلى الصين ولكنه بدلاً من أن يبدأ في البيع، فقد كرس أغلب وقته لتعلم اللغة الصينية ومراقبة الناس والمجتمع والانخراط فيه وتعلم ثقافاتهم. بهذا تمكن من اختراق الزبائن الصينيين».
وتمكن الماضي من إتقان اللغة الصينية خلال الخمس سنوات التي قضاها هناك، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل حصل على الدكتوراه في هندسة البترول من جامعة بكين. وهنا يقول زميله في المكتب: «لقد كنت أراه في بعض الأحيان وهو يدرس بعد انتهاء ساعات العمل. لقد اجتهد كثيراً ولم يضع وقته في الصين غير في العمل أو التعلم. والأهم من هذا أنه كان يقرأ بنهم شديد جداً ويقرأ تقريباً عن كل شيء».
ويقدم المحلل النفطي الكويتي والرئيس التنفيذي السابق لشركة البترول الكويتية العالمية كامل الحرمي إجابة على السؤال الثاني في حديثه إلى «الشرق الأوسط» قائلاً: «(أرامكو) أكبر شركة منتجة للنفط والصين أكبر مستورد للنفط في آسيا ولهذا كلاهما يحتاج للآخر».
ويستطرد الحرمي قائلاً: «إلا أن عضلات (أرامكو) لن تفيد بمفردها في السوق الصينية ما لم يكن هناك مخ يساعدها. ففي الصين التجار عقليتهم واحدة وهي الحصول على الأفضل بالسعر الأقل وكل الدول تريد أن تبيع لهم، ولهذا فإن الأسماء لا تعني لهم كثيراً». ويضيف الحرمي: «أنا لا أعرف الماضي شخصياً ولكني واثق من أن (أرامكو) لن تضع في الصين إلا أقوى رجالها».
وتشهد السوق الصينية منافسة شديدة من كل الدول المصدرة للبترول. فهناك دول مثل أنغولا بدأت في الاقتراب كثيراً من المستوى الذي تصدر به السعودية إلى الصين. وهناك دولة قادمة من الخلق بقوة مثل عمان التي تضاعفت واردات الصين منها خلال عامين فقط.
ولم تكن مساهمة الماضي محصورة في تسويق النفط السعودي، إذ إنه ذهب إلى أبعد من ذلك بحسب ما يوضحه زملاؤه السابقون في الصين، حيث استخدم الماضي لغته الصينية وكل فنون الإقناع التي اكتسبها خلال سنوات عمله في الصين في إقناع شركة «ساينوبك» الصينية في الدخول شريكا في مشروع مصفاة ياسرف الواقعة في مدينة ينبع على ساحل البحر الأحمر بعد أن أعلنت شركة «كونوكو فيلبس» الأميركية انسحابها منه في عام 2010.
وبحسب ما أوضحه زملاء الماضي فإنه هو الذي فتح باب المفاوضات لـ«أرامكو» للدخول شريكا مع شركة بتروتشاينا المملوكة للحكومة الصينية في مشروع مصفاة في إقليم يونان طاقتها التكريرية تقارب 300 ألف برميل يومياً، وهو المشروع الذي لم ينتهِ الطرفان من التفاوض حوله حتى الآن.
ويتمتع الماضي بعلاقات قوية جداً مع رؤساء شركات النفط الصينية ليس فقط لكونه ممثلاً لـ«أرامكو» السعودية، بل لأن الصينيين يحترمون فيه اهتمامه بلغتهم وثقافتهم، بحسب زملائه، الذين أوضحوا كذلك أنه كان قادراً على الحصول على موعد مع رؤساء أكبر الشركات بكل سهولة، وهو أمر افتقر إليه كثير من ممثلي الشركات الخليجية على حد تعبيرهم.

* الماضي «الغورو» و«العراب»
* أما على صعيد العمل فيقول عنه زملاؤه السابقون في الصين، إن أكثر ما يميز الماضي هو التزامه بتحقيق أي هدف يضعه لهم. ويقول أحدهم: «قد أبدو مبالغاً لو قلت إن هذا الرجل لا يحب الاعتراف بكلمة المستحيل ولكن هذه هي الحقيقة. فقط جرب أن تعطيه مهمة وتطلب منه تنفيذها وسترى بنفسك».
ومن بين الأمور الأخرى التي يتميز بها الماضي هو أنه مقاتل عن حقوق زملائه ومرؤوسيه كما يقولون عنه. وهنا يضيف أحد الشباب الذين عملوا معه في مكتب الصين: «أنا شخصياً أعتبره عرابي في الشركة، لأسباب كثيرة أولاً لأنه يقدر كل الأشخاص الذي يعملون بجد ويحارب من أجلهم، وثانياً لأنه كان يتبنى الشباب ويرعانا بصورة شخصية. وحتى عندما أخطئ كان لا يوبخني بل يقول لي الأخطاء لا تهم طالما أننا نتعلم منها ولا نكررها».
وأجمع زملاؤه أن ميزته الأهم هو أنه مفكر استراتيجي ومسوق في نفس الوقت. ويصفه أحدهم بقوله: «الماضي ابن السوق ويجيد مهنة المبيعات والتسويق ولكن الكثيرين غير الماضي يجيدونها مثله، إلا أن ما يميزه عن غيره أنه كان مخططا استراتيجيا ويبني التسويق على أساس استراتيجيات وخطط طويلة المدى».
وتحمل السيرة الذاتية للماضي الكثير من الأمور الغريبة أولها هو أنه بدأ حياته العملية بعيداً عن قطاع النفط، وثانيها هو أنه نادرا ما استمر في وظيفة ما لأكثر من 5 سنوات ولعل هذه هي السمة الأبرز في مشواره العملي. وبدأ الماضي مشواره العملي في القطاع المصرفي عندما التحق بفرع البنك السعودي الفرنسي في الدمام في عام 1983 على وظيفة مسؤول الائتمان بعد تخرجه في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
وفي عام 1988 التحق بالشركة السعودية للكهرباء منسقا للميزانيات الرأسمالية، ليقترب بذلك خطوة من «أرامكو» السعودية التي التحق بها في عام 1991 في قسم التخطيط بعيد المدى بنفس مسمى وظيفته السابقة. وفي عام 1996 انتقل إلى وحدة تحليل الأعمال التابعة للشركة محللا أعلى للطاقة.
وفي عام 2001، أي في بدايات نمو الطلب الصيني على النفط السعودي، انتقل الماضي إلى قسم تسويق وإمدادات النفط على وظيفة مدير التسويق، ولعل هذه الوظيفة هي التي فتحت عينه على سوق النفط الآسيوي وعلى زبائن المملكة. ويقول أحد الأشخاص الذين عملوا معه في التسويق في تلك الفترة: «كان من أفضل الأشخاص الذين يسعرون النفط السعودي، ولذلك كان البعض يلقبه بـ(الغورو) أي المعلم».
وفي عام 2007 بدأ الماضي رحلته الآسيوية واقترب أكثر من زبائن «أرامكو» عندما التحق بشركة البترول السعودية الصينية التابعة لـ«أرامكو» نائبا للرئيس الإقليمي قبل أن يحط رحاله في كوريا في عام 2012.
والآن يجلس الماضي على كرسي محافظ السعودية في «أوبك» ساحباً معه سنوات طويلة من تسويق وتسعير وبيع النفط في السوق، وهو أمر لم يتوفر في أخر ثلاثة محافظين سبقوه إلى المنصب، وهم ياسر المفتي الذي كانت خلفيته في معظمها فنية في إنتاج النفط والغاز، أو الدكتور ماجد المنيف والذي كان اقتصادياً، أو سليمان الحربش الذي دخل لمنصب محافظ الأوبك من خلال بوابة وزارة البترول واستمر فيه لمدة 13 عاماً.
ومجلس المحافظين هو أعلى جهاز في «أوبك» بعد المؤتمر الوزاري والذي يتكون من وزراء المنظمة. ومهمة المجلس هي تطبيق كل قرارات وتوصيات الوزراء، والموافقة على ميزانية والتعيينات في المنظمة إضافة إلى تقديم توصيات للوزراء بكل ما يخص المنظمة ومراجعة أي تقرير من الأمين العام مقدم للوزراء.
إذن ماذا سيضيف شخص مثل الماضي للمنظمة ولمجلس المحافظين؟ يجيبب أحد زملائه على هذا السؤال قائلاً: «من الصعب التكهن بماذا يمكن أن يضيفه، فهو لم يكمل عامه الأول في (أوبك) ولكن أفضل ما يجيده الماضي هو التفكير الاستراتيجي والتخطيط المستقبلي ومعرفة اتجاهات السوق بناء على انطباعات الزبائن. وإذا وضعت هذه الأمور في ممثل أكبر منتج نفطي في مجلس المحافظين في (أوبك) فإن المجلس سيقترب أكثر من السوق وسيضع يده على نبضه». ويبقى السؤال الأخير هو هل سيكون الماضي موجوداً في مجلس محافظي «أوبك» في 2020 أم أنه سيمارس هوايته المفضلة وينتقل إلى وظيفة أخرى عقب 5 سنوات من الآن؟



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.