الأفلام السينمائية ما بين التصويت الجماهيري والرأي النقدي

منحى تقويمي برز مع صعود سطوة السوشيال ميديا

بوستر فيلم «الجرذي»
بوستر فيلم «الجرذي»
TT

الأفلام السينمائية ما بين التصويت الجماهيري والرأي النقدي

بوستر فيلم «الجرذي»
بوستر فيلم «الجرذي»

في السابع والعشرين من فبراير (شباط) بدأت شبكة نتفليكس عرض (ستة شبابيك على الصحراء) بعد أن استحوذت على حقوق بثها، وهي عبارة عن ستة أفلام سعودية قصيرة من إنتاج استوديوهات (تلفاز11). وقد جاء العرض فرصة ليتعرف الجمهور في السعودية على عينة من تلك الأفلام التي كانت حكراً على العروض المهرجانية، حيث صار بمقدور الجمهور التعليق على مستوى الصناعة السينمائية السعودية وكفاءة المؤلفين والمخرجين والممثلين. وفي هذا الصدد يمكن التمثيل بفيلم (الجرذي) The Rat لكاتبه ومخرجه فيصل العامر. وهو فيلم غرائبي قصير، مدته عشر دقائق، من بطولة زياد العمري، الذي لم يرق له الاستقبال الجماهيري السلبي للفيلم فدخل مع المشاهدين في مشادات كلامية عبر مواقع الـ«سوشيال ميديا».
غرائبية الفيلم، وكثافة العلامات في حيز بصري ضيق، وعدم وجود خط سينمائي واضح هو الذي أوجد سوء الفهم ما بين المشاهدين والفيلم، حيث جاءت التعليقات مخيبة لآمال بطله زياد العمري، الأمر الذي اضطره لمخاطبة الجمهور عبر مقطع فيديو قصير، يصعب الجزم بكونه جاداً أو ساخراً، قال فيه دفاعاً عن الفيلم: «هذه النوعية من الأفلام ليست لك وليست لي مع احترامي لك. هذه الأفلام مقدمة لنقاد الأفلام وعالم الفن والآرتستك. يعني الفيلم مليان آرت، مليان رمزيات. رمزيات بشكل فضيع لا يستوعبها العقل البشري». وقد قوبل تصريحه بمضاعفة السخرية من الفيلم، الأمر الذي اضطره لتوسل الجمهور للدخول إلى موقع تقييم الأفلام الشهير IMDb عبر مقطع آخر ورفع تقييم الفيلم الذي لم يحصل إلا على 1.6 حيث قال: «ما أريده منكم هو الذهاب إلى موقع تقييم الأفلام وتقييم الفيلم بدرجة عشرة، أو على الأقل سبعة ثمانية، وقفتكم يا جماعة الخير».
وبقدر ما يعكس التصريح الأول بؤس وعي بطل الفيلم، الذي أدى دوراً معقداً في فيلم نفسي بالدرجة الأولى، من دون دراية ولا دراسة للشخصية التي يؤديها في فيلم مغاير من الوجهة الفنية، يحيل تصريحه الثاني إلى المعيار الذي صارت الأفلام تحتكم إليه، وهي النقطة الجديرة بالمجادلة. حيث صارت كفاءة الفيلم وجودته تعتمدان على التصويت عوضاً عن صوت الناقد الذي أُعلن موته أدبياً وفنياً، بمقتضى مهبات ما بعد الحداثة التي أعطت صوتاً لكل فرد في إطار ما يعرف بالمساواة الثقافية، وانطفاء صوت المثقف مقابل ما بات يوصف بالخبير، الذي أعطى لنفسه حق إلغاء دور الناقد كوسيط، ليعلن نفسه مستشاراً فنياً يمكن الاعتماد عليه في تقويم الأعمال الأدبية والفنية، حتى وإن لم يمتلك أي رصيد من الخبرة أو التجربة، فهو نتاج عصر الجماهير.
وهنا يمكن التدليل بفيلم الجوكر Joker الذي تبناه الجمهور في كل أنحاء العالم، بمجرد عرضه نهاية العام الماضي. حيث بلغ تقييمه في موقع تقييم الأفلام الشهير IMDb خلال الأشهر الأولى 9.9 بمقياس عشرة، وذلك عبر رافعة تصويت جماهيرية جارفة، ليستقر مؤخراً عند 8.6 كما تجاوزت إيراداته المليار دولار، على إيقاع حملات إعلانية وإعلامية شارك فيها إلى جانب الجمهور بعض المشتغلين بالفلسفة، وأطباء مختصون في علم النفس، لدرجة أنه حظي بالترشيح لإحدى عشرة جائزة أوسكار، لكن لم يحصد سوى جائزتين، في الوقت الذي لم يهبه معظم النقاد أكثر من نجمتين، فقد وصفه بيتر براد شو في صحيفة «الغارديان» بأنه أكثر الأفلام المخيبة للآمال عام 2019. كما اعتبرته آن هوراندي في «واشنطن بوست» بأنه مجرد فيلم، ولا يمكن التعامل معه كفيلم عظيم. كذلك قال عنه أ. و. سكوت في «نيويورك تايمز» بأنه فيلم ضحل وبلا ثقل، ولا يستحق أن يؤخذ على محمل الجد.
هذا التباين الواضح ما بين تصويت الجمهور وآراء النقاد لم يظهر بظهور فيلم الجوكر، فهو منحى تقويمي برز مع صعود سطوة الميديا، حيث يقول جيمس موناكو في كتابه «كيف نقرأ فيلما - الأفلام والوسائط وما بعدها، الفن والتكنولوجيا واللغة والتاريخ والنظرية»، محللاً تلك الأسباب «منذ ظهور الإنترنت، فإن النقد السينمائي في حد ذاته قد تطور في السياق الجماهيري، وأكثر المواقع النقدية نجاحاً تقدم تقييماً إحصائياً، يعتمد على آراء المتفرجين. أو مسحاً لما تبقى من المراجعات النقدية في الصحف، التي لم تتخل بعد عن دورها في هذا المجال. وإذا كنت تؤمن بحكمة الجماهير، فسوف يكون أسلوب التقييم بالعلامات ذا جاذبية. لكن النقد ليس من عادته أن يكون كذلك، فما يجب أن يكون هو تقديم حوار بين الناقد والسينمائي».
بعض المواقع العالمية المخصصة لتقييم الأفلام، خصوصاً تلك التي تفتح صفحاتها لتعليقات المشاهدين وآراء المدونين ولا تكتفي بتعليق نجمات التقييم، تقدم خدمة تفاعلية على درجة من الأهمية في مقاربة الأفلام، حيث تتفوق أحياناً مطالعات بعض المشاهدين على آراء نقاد الصحف والمواقع الإلكترونية. وهي مواقع تتفاوت من حيث الجدية والصرامة، كما يبدو ذلك على درجة من الوضوح في الفارق ما بين الديمقراطية الفارطة في موقع IMDb والتحفظ الفني لموقع الطماطم الفاسدة Rotten Tomatoes الذي يصعب فيه تغليب التصويت على الآراء النقدية. وإن كانت بعض هذه المواقع محتلة بجماعات ضغط جماهيرية، فعلى سبيل المثال ما زال فيلم (خلاص شوشانك) The Shawshank Redemtion يحظى بنسبة تصويت تبلغ 9.3 وهو فيلم رائع بكل المقاييس، وكلما انخفضت نسبته تدخلت قوة جماهيرية تصويتية لترفع من قيمته.
معضلة التصويت كأداة تقييم للأفلام أنها تساوي ما بين رأي روبرت إيبرت، الناقد السينمائي الوحيد الحاصل على جائزة بوليتزر، وتعليق عابر لأحد متصفحي الإنترنت المفتقرين إلى الخبرة والدراية بفن السينما. وهذه معيارية مضللة استفادت منها مؤسسات إنتاجية قادرة على توظيف الميديا، لدرجة دفع الأفلام إلى منصات الجوائز ومضاعفة الإيرادات بشكل خيالي. وذلك في ظل غياب الأصوات النقدية القادرة على فحص الأفلام وعرض قراءات مقنعة. أما التعليقات النقدية العابرة في تلك المواقع فهي إما محمولة على نبرة إعلامية أو رؤية اجتماعية، أي التعامل مع الأفلام كامتداد لحركات سياسية وثقافية واجتماعية، بمعزل عن مرادات الفيلم وتقنياته الفنية.
مع بداية عرض أي فيلم تتجدد المعركة ما بين ميليشيا المصوّتين المحتشدين في مظاهرات تأييد تحركها خيوط تسويقية، وبين وجهات نظر نقدية يظل أثرها محدوداً بين المهتمين. إذ لم تعد سلطة الحكم على جودة الأفلام وجمالياتها بيد المختصين في صناعة السينما، بل صارت بيد المشاهدين الذين صاروا يقترحون قوائم الأفلام الجديرة بالمشاهدة في جميع أنحاء العالم. وهذا هو أحد المخاطر التي تهدد الخطاب السينمائي في السعودية، حيث يزدحم المشهد بكائنات رقمية لم تتعرف على السينما إلا من خلال مقترحات هوليوودية، وللأسف بعض هؤلاء يشاركون في تشييد المشهد السينمائي في السعودية، في ظل غياب أهم ركائز الفعل السينمائي المتمثل في وجود شخصيات نقدية سينمائية مؤثرة وعارفة بأسرار الصناعة السينمائية، وبذلك يبقى التصويت هو المعيارية القاتلة لأي جهد سينمائي.
- ناقد سعودي


مقالات ذات صلة

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».