الأردن والمؤسسة المالية الدولية: علاقة طويلة ولكن!

ثلاثة عقود مرت، بالتمام والكمال، على العلاقة بين الأردن وصندوق النقد الدولي؛ فإثر الأزمة الاقتصادية الحادة التي واجهت المملكة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، اضطرت الحكومة إلى اللجوء للصندوق لمساعدتها في الخروج من أزمتها؛ حيث تم التوقيع على أول اتفاقية للاستعداد الائتماني للفترة 1989-1993. ولكن احتلال العراق للكويت في عام 1990 أدى إلى وقف العمل بها! ومنذ ذلك التاريخ، تم توقيع 6 برامج بين الطرفين؛ كان آخرها برنامج التسهيل الممتد للسنوات 2016-2019.
وقد تم في ظل البرامج المذكورة تنفيذ كثير من الإصلاحات المالية والهيكلية، وإصدار أو تعديل كثير من التشريعات، وخاصة في مجال المالية العامة، بهدف تقليص الدعم وتنويع الإيرادات المحلية وتنميتها من جانب، وتقليص النفقات العامة من جانب آخر؛ بما يسهم في تقليص العجز المالي، وتوفير الموارد التي تمكّن الحكومة من الوفاء بالتزاماتها تجاه مجتمع الدائنين الذي يسعى الصندوق، في جميع برامجه، للحفاظ على مصالحه!
وفي هذا الإطار، فقد تم رفع الدعم عن كثير من السلع الأساسية، كالمشتقات النفطية والحبوب والخبز والمواد الغذائية. كما تم إخضاع مئات السلع لضريبة القيمة المضافة التي تحولت إلى ضريبة عامة على المبيعات، بدءاً من عام 1994، من خلال مساعدة فنية قدمها الصندوق، لتحتل عائداتها منذ ذلك الحين موقع الصدارة بين مكونات الإيرادات المحلية.
إلى جانب ذلك، فقد نفذت الحكومة برنامجاً واسعاً للتخاصية بهدف توسيع دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، وزيادة الإيرادات المالية. وقد وصلت عوائد صندوق التخاصية إلى قرابة 2.4 مليار دولار؛ تم استخدام الجزء الأكبر منها في شراء وسداد الديون الخارجية، فيما تم استخدام جزء بسيط لتمويل بعض المشاريع التنموية. ومن الجدير ملاحظته أن أعلى معدلات النمو التي حققها الاقتصاد الأردني قد سجلت في السنوات التي غابت عنها برامج الصندوق، وهو ما يثير تساؤلاً حول أسباب العلاقة العكسية بين تلك البرامج وأداء الاقتصادي الكلي!
وعودة إلى برنامج التسهيل الممتد الأخير الذي كان يفترض أن يغطي الفترة بين أغسطس (آب) 2016 وأغسطس (آب) 2019، ويدعمه قرض قيمته 723 مليون دولار، فقد انصبّ تركيز البرنامج على تنفيذ مزيد من الإجراءات المالية، من خلال تعديل قانون ضريبة الدخل ليصبح أكثر تشدداً، وزيادة نسبة الضريبة العامة على المبيعات على مجموعة كبيرة من السلع والخدمات، وفرضها على سلع وخدمات جديدة، بهدف تقليص العجز المالي، وتخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، بحيث لا تتجاوز 93.5 في المائة في عام 2019، على أن تستمر في الانخفاض لتصل إلى 77.0 في المائة بحلول عام 2021!
ولكن جميع الإجراءات المالية المذكورة لم تؤتِ أكلها، بل أثرت سلبياً على جانبي العرض والطلب! حيث أسهمت في انكماش القوة الشرائية للمستهلكين، وزادت من تكاليف الإنتاج، مما أثر على القدرة التنافسية للمنتجات المحلية، وأدى إلى خروج كثير من الشركات من السوق، وهجرة بعضها إلى الخارج؛ الأمر الذي رفع معدل البطالة إلى مستويات قياسية، تجاوزت ما نسبته 19 في المائة. وكانت النتيجة اندلاع موجة واسعة من الاحتجاجات، كان محركها المباشر مشروع قانون ضريبة الدخل الجديد المتضمن خفض الإعفاءات، وتوسيع قاعدة المكلفين، ورفع معدل الضريبة على عدد من القطاعات، مما تسبب في إسقاط الحكومة السابقة، برئاسة هاني الملقي! ورغم أن القانون ذاته قد تم إقراره في عهد الحكومة الحالية، فإنه لم يساعد في الوصول إلى النتائج المستهدفة! إذ سجل عجز الموازنة العامة لسنة 2019 نمواً نسبته 45 في المائة عن مستواه في العام السابق، ووصلت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 96.6 في المائة، كما لم يتجاوز معدل النمو الاقتصادي، بالأسعار الثابتة، ما نسبته 1.9 في المائة خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2019!
وقد توصل الصندوق، من خلال المراجعتين الأولى والثانية، إلى قناعة باستحالة تحقيق النتائج المستهدفة، وبالتالي فقد تم الاتفاق بين الحكومة والصندوق على تمديد البرنامج لنصف سنة إضافية، بحيث ينتهي في شهر مارس (آذار) 2020، بدلاً من شهر أغسطس (آب) 2019، ولكن دون جدوى، حيث أقر الجانبان بعد طول تردد بفشل البرنامج، ولم تتمكن الحكومة من سحب أكثر من 309 ملايين دولار من أصل القرض! وبالتالي، أصبح الأردن أمام خيارين: إما الخروج من عباءة الصندوق، وتحمل تبعات ذلك، ومنها صعوبة الوصول إلى أسواق التمويل الدولية، والحصول على قروض ومساعدات جديدة بسبب تعذر الحصول على «شهادة حسن سلوك من الصندوق»، وتراجع التصنيف الائتماني للاقتصاد، أو الدخول في برنامج جديد مع الصندوق!
وهذا ما تم فعلاً، فقد أعلن وزير المالية عن قرب التوصل لاتفاق حول برنامج جديد مع الصندوق، مدته 4 سنوات، يرافقه قرض مقداره 1.3 مليار دولار. ولكن المختلف هذه المرة هو تأكيد الوزير أن البرنامج الجديد لن يتضمن فرض ضرائب جديدة، ووصفه للبرنامج بـ«التحفيزي»! ناهيك من وصفه للقرض الجديد بـ«القرض الحقيقي»، على العكس من سابقه!
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى تصريحات رئيس بعثة الصندوق التي تحدث فيها عن أهمية تخفيض كلفة الكهرباء على قطاعات الأعمال، وضرورة توجيه دعم الكهرباء «للفئات المستحقة»! حيث رشحت معلومات مفادها أن البرنامج الجديد يتضمن تخفيض تعرفة الكهرباء على قطاعات الأعمال بنسبة 30 في المائة، ونقل العبء إلى المستهلكين المنزليين «غير المستحقين للدعم»! وهذا من شأنه أن يخلق موجة جديدة من الاحتجاجات، حيث يشكو الشارع حالياً من ارتفاع فاتورة الكهرباء! كما يثير هذا تساؤلاً مشروعاً حول ما قصده بـ«عدم فرض ضرائب جديدة»؛ فهل قصد الضرائب بمفهومها «التقني»، وأبقى الباب مفتوحاً أمام رفع «الرسوم» والتعرفة على الكهرباء، وربما المياه أيضاً! ويبقى السؤال الأهم؛ وهو: هل تم أخذ الأثر المحتمل لانتشار وباء كورونا على الأداء الاقتصادي عند إعداد البرنامج المقبل وتحديد مؤشراته؟

- وزير أردني سابق للتخطيط والتعاون الدولي