أخيراً، اتضحت معالم السيناريو الذي طال الجدل حوله في روسيا.
كانت الخيارات المطروحة متعددة، وكلها يحاول أن يجيب عن سؤال واحد: ماذا سيفعل فلاديمير بوتين هذه المرة؟ وكيف سيرتّب لبقائه في الكرملين بعد انقضاء ولايته الثانية على التوالي والرابعة منذ أن تسلم مقاليد السلطة في عام 2000؟
ولقد كان واضحاً أن «سيد الكرملين» لن يكون بمقدوره هذه المرة، تكرار سيناريو 2008 عندما تبادل الأدوار مع صديقه المقرّب ديمتري مدفيديف، واضطر إلى الانتظار في مقعد رئيس الوزراء الذي بدا ضيقاً عليه، لكنه تعايش معه لأربع سنوات، قبل أن يتوّج مجدّداً زعيماً للأمة في 2012. هذه المرة لم تعد لعبة تبادل الكراسي تصلح. ولم يعد ثمة بديل عن تعديل الدستور.
كانت الخيارات التي وضعها مقربون من الكرملين متعددة، بينها «سيناريو كازاخستان»، حيث انتقل نور سلطان نزاباييف «الرئيس الخالد» و«الشمس المضيئة» وفقاً للتعابير التي تطلقها عليه الصحافة المحلية، من مقعد الرئاسة، إلى كرسي «أعلى» حمل تسمية رئاسة مجلس الدولة، جرى تفصيله على مقاسه، ليشرف من فوقه على أمور البلاد وهي تدار، وليكون قادراً على التدخل و«تصويب» المسار إذا دعت الحاجة.
لم يكن الخيار الذي يبدو قريب الشبه بفلسفة «المرشد الأعلى» إنما بهالة شخصية خاصة وليس بإسقاط ديني، يصلح لبوتين، الذي اعتاد على مدار عشرين سنة أمضاها في الحكم على الإدارة المباشرة، وإظهار أنه سيد الموقف وصاحب القرار الأوحد. والأمثلة على ذلك كثيرة، بينها أنه كان رئيساً للوزراء عندما اندلعت المواجهات مع جورجيا في صيف عام 2008، ولم يتمكن «الرئيس» مدفيديف خلال 24 ساعة من إعلان موقف واضح، قبل أن يظهر بوتين أمام الكاميرات وكان حينها في الصين للمشاركة في افتتاح دورة ألعاب رياضية، وأعلن للصحافيين أن «المجرم يجب أن يعاقَب» في إشارة إلى الرئيس الجورجي آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي. وعلى الفور بدأت الحرب وخلال خمسة أيام كانت الدبابات الروسية على مشارف العاصمة الجورجية تبليسي.
الخيار الثاني، كان أن يُتوّج بوتين قبل حلول عام 2024، موعد انتهاء ولايته الرئاسية، رئيساً لدولة الوحدة مع بيلاروسيا، عبر عملية اندماج كاملة تتيح وضع دستور جديد، ما يمكّن الرئيس من «المنافسة» على المنصب وفقاً لمعايير انتخابية جديدة. وحقاً، عمدت موسكو منذ نهاية العام الماضي إلى تسريع الاتصالات مع الجارة السوفياتية السابقة التي تربطها بروسيا معاهدة اتحاد منذ عشرين سنة بقيت عملياً حبراً على ورق. وأعلن الكرملين أن خطوات واسعة تُتخذ لتسريع عملية الاندماج. لكن ما أعاق التقدم في هذا المسار هو «عناد» الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاتشينكو، آخر الزعماء السوفيات وآخر «الديكتاتورات» في أوروبا، وفقاً لتعبير أطلقه الأميركيون عليه، قبل أن يخففوا لهجتهم حياله أخيراً، بهدف الضغط على موسكو.
لوكاتشينكو أعلن أنه لن يسمح لـ«حيتان المال» الروس بأن «يلتهموا» بلاده، وأن يكرروا فيها ما حصل في روسيا خلال عهود الخصخصة العشوائية الكارثية في تسعينات القرن الماضي.
علنياً، وقف بعض النقاط الأساسية عقبة أمام الاندماج الكامل، بينها إصرار روسيا على الإبقاء على الروبل عملة لدولة الوحدة، فضلاً عن رفض مينسك بعض آليات دمج المؤسسات السيادية، لكن عملياً كان السؤال الأساسي يتعلق بهوية الرئيس والمنصب الذي سيشغله الرئيس الآخر.
أما الخيار الثالث، فكان تحويل روسيا إلى جمهورية برلمانية، والعودة إلى السلطة عبر غالبية مريحة في مجلس النواب، إلا أن الدراسات دلّت إلى خطورة هذا «السيناريو» على روسيا على المدى البعيد، وكما قال بوتين نفسه، فإن روسيا المترامية الأطراف، والتي تشكل مطمعاً للآخرين كونها تمتلك ثلث ثروات العالم من المواد الخام، لا يمكن أن تُحكم إلا عبر مؤسسة رئاسة قوية، ومركز فيدرالي متماسك يدير أمورها. لم يكن الروس بحاجة إلى كثير من العناء حتى يتذكروا الماضي القريب، إذ أسفر ضعف المركز الفيدرالي في تسعينات القرن الماضي عن بروز النزعات الانفصالية التي وجدت من يدعمها من الخارج.
تعديل الدستور
أمام هذا الواقع، لم يبقَ أمام بوتين إلا تعديل الدستور وشطب فقرة تشدِّد على حصر الترشح بولايتين رئاسيتين متتاليتين، وهذا أمر خطر، لأن التعديلات لن تكون في هذه الحالة مفصَّلَة على مقاس بوتين وحده، وسيكون بمقدور أي رئيس لاحق استخدامها، كما أن سيد الكرملين أكد أكثر من مرة أنه لا يميل إلى «العبث» بالوثيقة الأساسية للبلاد.
لكنّ تضاؤل الخيارات، والرغبة في حسم سريع لهذا الملف، بسبب تداعيات الجمود الاقتصادي، وتراجع شعبية بوتين إلى معدلات غير مسبوقة منذ سنوات طويلة، وتصاعد مزاج التذمر في الشارع، كلها عناصر دفعت إلى تسريع الخطوات للوصول إلى السيناريو النهائي.
وقد تَشكّل خليط مخفف من بعض الأفكار التي طُرحت على طاولة الرئيس. إذ جرى تعديل الدستور، من دون المساس بالفقرات الأساسية. ووسّعت البرلمان مع تأكيد إبقاء النظام الرئاسي القوي في روسيا. ومُنحت الأقاليم صلاحيات أوسع، مع التشديد على سلطة المركز الفيدرالي الحاسمة عليها. وأخيراً لا آخراً، أُبقي على حصر الرئاسة في ولايتين رئاسيتين فقط مع «تصفير العداد» للرئيس الحالي... وهو ما يمكّنه من الترشح مجدداً لولايتين رئاسيتين جديدتين.
هكذا ببساطة سُوّي الموقف عبر اقتراح قُدم في أثناء مناقشات مجلس الدوما لإقرار وثيقة التعديلات في القراءة الثانية. إذ انتقل الحوار بين النواب من بحث التفاصيل الواردة في الوثيقة التي أقرتها اللجنة الدستورية لإقرارها أمام البرلمان، إلى بحث عدد من الملفات المرتبطة بهياكل السلطة الأولى.
أيضاً، أثار بعض النواب فكرة حل مجلس الدوما واللجوء إلى انتخابات برلمانية مبكرة في سبتمبر (أيلول) المقبل، في حين اقترح آخرون «تصفير» فترات الرئاسة لبوتين لتمكينه من خوض السباق الرئاسي مجدداً بعد نهاية ولايته الحالية في عام 2024.
اقتراح تيريشكوفا
الاقتراح الأخير قدمته رائدة الفضاء الشهيرة فالانتينا تيريشكوفا، وهي عضو عن كتلة حزب «روسيا الموحدة» الحاكم. وكان قد بدا أن الاقتراح «لم يأتِ من فوق» بل جرى وضعه خلال المناقشات بشكل عرضي، وقالت تيريشكوفا في وقت لاحق إن من طلب منها تقديم الاقتراح بهذه الطريقة ليست أطرافاً سياسية، بل استمدته من مطالب شعبية.
هكذا اتضحت معالم التعديلات الدستورية وأسباب توقيتها، التي بدأت بقرارات لتحسين الأوضاع للأسرة والطفل وانتهت بتعديل «طارئ» خلال المناقشات، يُبقي الرئيس لسنوات طويلة مقبلة.
ولم يكن صعباً ملاحظة أن السيناريو تم إعداده بشكل مسبق، إذ قطع رئيس البرلمان فيتشيسلاف فولودين، لإجراء مشاورات مع زعماء الكتل النيابية حول هذه الاقتراحات. وأشار إلى أنه من الضروري معرفة رأي الرئيس في هذه القضايا، ثم أعلن أن بوتين سوف يلقي كلمة أمام البرلمان حول هذا الموضوع، وهو أمر لم يكن مدرجاً مسبقاً على جدول الأعمال، ما شكّل مفاجأة لكثيرين. وحملت عبارات الرئيس الروسي أمام الهيئة التشريعية مفاجأة أخرى، فهو عارَض الذهاب نحو انتخابات نيابية مبكرة، لكنه وافق على إقرار التعديل الدستوري بصيغته المقترحة، مشترطاً لتنفيذ ذلك موافقة مجلس الدوما وموافقة المحكمة الدستورية الروسية عبر تأكيد أن هذا الإجراء لن يشكّل مخالفة للقانون الأساسي للبلاد.
عارض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في دوما الدولة، كما وصفها، بأنه من غير المناسب إزالة القيود المفروضة على عدد الفترات الرئاسية من دستور الاتحاد الروسي.
وبرر موقفه حول معارضة الانتخابات المبكرة بأنه «عندما يتوجه المواطنون الروس في 22 أبريل (نيسان) المقبل للتصويت على التعديلات المقترحة على القانون الأساسي، فإن هذه التغييرات سوف تدخل حيز التنفيذ بعد نشر التعديلات؛ مما يعني أن مجلس الدوما سوف يحصل تلقائياً على سلطات موسعة وعلى تجديد للثقة به؛ لذلك لا أرى ضرورة لإجراء انتخابات مبكرة لمجلس الدوما».
تسارع الخطى
وكان من الطبيعي أن تتسارع الخطوات بعد ذلك، إذ سرعان ما أقر مجلس الدوما التعديلات بصيغتها الأخيرة، ومن دون معارضة أي عضو، مع امتناع نواب كتلة الحزب الشيوعي عن التصويت. وفي مجلس الشيوخ، في اليوم التالي، تم إقرار الوثيقة بالإجماع. كما أقرتها المحكمة الدستورية سريعاً لتزول بذلك العقبة الأخيرة أمام دفع الوثيقة للتصويت عليها كـ«رزمة واحدة» في الاستفتاء. وهذه النقطة أثارت استياء لدى أوساط في الشارع، رأت أن الوثيقة سوف تحصل على عدد الأصوات اللازم، لأن المواطنين لن تكون أمامهم فرصة لقبول بعض الإصلاحات المتعلقة بزيادة معاشات أو تحسين أوضاع الأسرة، ورفض التعديلات الأخرى التي تتعلق بالرئاسة وهياكل السلطة.
في كل الأحوال كان من الطبيعي أن يندلع سجال واسع في الشارع، وأن تبدأ المعارضة في لملمة صفوفها للنزول إلى الشارع. وجهّزت بالفعل لاعتصامات حاشدة متزامنة في عشرين إقليماً روسياً، لكنّ التدابير المتخَذة في مواجهة انتشار فيروس «كورونا»، وضعت هذه الخطط في مهبّ الريح.
بوتين... أو الفوضى
يدور السجال في روسيا بين موقفين، يرفع أولهما لواء «الاستقرار السياسي»، وأن بوتين هو الشخص القادر على إمساك الأمور بيد قوية والمحافظة على الإنجازات التي تم تحقيقها على مدار سنوات. كما أنه الزعيم القادر على مواجهة خطط الغرب المتواصلة لإضعاف روسيا وتطويقها عسكرياً وإنهاكها اقتصادياً.
الرئيس الروسي نفسه، فضّل أن يترك النقاش في هذا الاتجاه للخبراء والماكينة الإعلامية الضخمة، وأعلن أنه يثق بإرادة الناس. إذ قال بوتين في اجتماع مع برلمانيين إنه من الضروري أن يوحّد الدستور الناس بغضّ النظر عن الجنس والثروة والدين والمنطقة.
وتابع الرئيس: «أعتقد أننا سنتمكن من تقديم مسودة تعديل الدستور للتصويت على جميع الروس»، مضيفاً أن «الروس أنفسهم» يجب أن يصبحوا واضعي القانون.
اللافت أنه في زحمة السجالات حول الشق المتعلق بولاية بوتين المتجددة في الكرملين، غابت تفاصيل كثيرة في التعديلات الدستورية المقترحة، أثارت جدلاً لا يقل عنفاً، بينها فقرات حول تعريف روسيا والشعب الروسي تضع روابط دينية وتاريخية لا يبدو كل الروس متفقين عليها. فضلاً عن فكرة الانتماء إلى «الأسلاف الذين نقلوا إلى الأجيال الإيمان الحي بالله» وهي فكرة قال بعضهم إنها لا تنطبق على روسيا التي اعتنقت المسيحية قبل ألف عام فقط، وإشارة أخرى إلى روسيا الحالية تعد «وريثة من الاتحاد السوفياتي» وهي أيضاً مختلَف عليها لأن البعض رأى فيها أمراً وقتياً مرتبطاً بمعالجة ملفات سياسية وطموحات محددة، ولا يمكن أن تكون في وثيقة تشكّل العقد الأساسي للمجتمع والدولة في المستقبل.
وهنا يقول خبراء مقربون من الكرملين: «لسوء الحظ، فإن جميع هذه المناقشات تشترك في شيء واحد: فهي مكثفة للغاية، ولكنها ليست بنّاءة على الإطلاق، أي إن أياً من قادة النقاشات لا يحاول (توضيح التعريفات)، كما لا يضع هدف إزالة التناقضات على الإطلاق. يرى المناقشون، كقاعدة عامة، هدفهم في الاتجاه المعاكس تماماً: تحديد التناقضات أكثر إثارة».
هكذا يتحدث مقربون من الكرملين عن «استعراضات بلاغية معلبة وعاطفية»، يقوم بها من حاول التخفيف من حدة اندفاع وسرعة النواب في تبني وثيقة فيها، فضلاً عن الخلاف على موضوع الرئاسة، الكثير من القضايا الجدلية.
في المقابل، لا تكاد تهدأ اعتراضات الطرف الآخر، الذي رأى أن تعجّل الكرملين في حسم عملية تمرير الوثيقة بهدف حسم ملف بقاء بوتين في السلطة، سوف تكون له تداعيات كثيرة، ليس فقط من بوابة عودة روسيا إلى النموذج السوفياتي لزعماء يحكمون إلى الأبد، مع إغلاق الطريق نهائياً في هذه المرحلة أمام أي محاولة لإصلاح سياسي في البلاد، فالأخطر من ذلك من وجهة نظرهم أن التسرع في تمرير الوثيقة وهي محملة بألغام وأعباء جدلية، سوف تكون له عواقب لاحقاً، وسوف تكون روسيا مضطرة في غضون سنوات للعودة مجدداً إلى تعديل الدستور لإصلاح ما تم وضعه، أو لوضع دستور جديد كامل للبلاد، وهو أمر اقتُرح أكثر من مرة خلال السنوات الأخيرة، انطلاقاً من فكرة أن الدستور الحالي وُضع في فترة فوضى شاملة في البلاد، وأن تبدلات كثيرة طرأت على روسيا والعالم منذ ذلك الحين. لكنّ بوتين عارض بحزم طرح فكرة وضع دستور جديد.