«التنوير الراديكالي» الذي أخفق

مقاربات جوناثان إسرائيل للموضوع استغرقت 20 عاماً وجاءت في 3 مجلدات

جوناثان إسرائيل
جوناثان إسرائيل
TT

«التنوير الراديكالي» الذي أخفق

جوناثان إسرائيل
جوناثان إسرائيل

قضى البروفسور البريطاني جوناثان إسرائيل، أستاذ التاريخ الأوروبي في فترة الحداثة الأولى والمدرّس بجامعة برينستون بالولايات المتحدة نحو الـ20 عاماً الأخيرة، وهو يعيد صياغة تاريخ التنوير الأوروبي في مقاربة جديدة مثيرة احتلت أكثر من 3 آلاف صفحة نشرها تباعاً ضمن 3 مجلدات. ويأتي النّص الجديد الذي صدر مؤخراً (بالإنجليزيّة) عن مطبعة جامعة أكسفورد، ليضيف خلاصة لتلك الصياغة في ألف صفحة إضافيّة، عنونها «التنوير الذي أخفق: الأفكار، والثّورة، وهزيمة الديمقراطيّة 1748 - 1830».
قدّم البروفسور إسرائيل في هذا المعمار الفكري الهائل قراءة واثقة مدعّمة بآلاف التفاصيل والإشارات لفترة التنوير الأوروبي التي لا يختلف اثنان على مفصليتها لأي محاولة جادة لتسجيل تاريخ الغرب الحديث، وبناء تصوّر نظري - تاريخي عمّا انتهى إليه العالم اليوم في اللّحظة المعاصرة. وعن ذلك يذهب إلى الزّعم بأنه علينا التحدث عن تنويرين أوروبيين اثنين، لا عن تنوير واحد: أولهما التنوير الأوروبي - شائع الذكر - وهو يتمحور حول التجربة الفكريّة الفرنسيّة - بمساعدة من مفكرين اسكوتلنديين - التي قادها في ثلاثينات وأربعينات القرن الثامن عشر فلاسفة مثل فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسّو. ويصف المؤلف هذه التجربة بما سماه مأساة الثورة الفرنسيّة، ومرحلة العنف الثوري أيّام ماكسيلميان روبسبير، لتفسح المجال بداية من صعود دولة نابليون بونابرت لـ«تنوير» آخر معتدل مخفف، - أو حتى تنوير مضاد - لا يجرؤ على الابتعاد عن ضفّة الأرستقراطيّة الرجعيّة، ورفيقتها المقرّبة - مؤسسة الكنيسة.
وجهة نظر البروفسور إسرائيل تذهب إلى وصف التنوير الراديكالي بمجموعة من المواقف الفلسفيّة ضمن اتجاه فكري متعاظم نحا تجاه كسر الخرافات المتوارثة، والمفاهيم اللاعقلانيّة، وسعى إلى إطلاق سراح العقل للتشكيك بكل المسلمات، وترجم في عالم السياسة رفضاً للامتيازات الأرستقراطية وحكم النخبة لمصلحة الديمقراطيّة التمثيليّة والجمهوريّات، وعداء عاتياً للمؤسسة الدينية الرسميّة، وما سماه بارون دي هولباخ - المفكّر الألماني الفرنسي (1723 - 1789) وأحد روّاد التنوير الراديكالي - بـ«الخرافات السياسيّة» والموروثات البالية.
يعيد البروفسور إسرائيل جذور التنوير الراديكالي إلى مجموعة مثقفين تجمعوا حول الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا (1632: 1677) واستكشفوا نقد السلطة - الدينية، والسياسيّة والاجتماعية - في مرحلة الجمهوريّة الهولنديّة، حيث كانت الانقسامات المجتمعيّة قد أفرزت ميلاً إلى التوحّد في إطار منظومة ديمقراطيّة - بعكس معاصريهم في قلب أوروبا، الذين استكانوا للحكم الأرستقراطي. ويبدو أن هذه الأفكار تسرّبت مع مرور الوقت إلى مثقفي وسط أوروبا عبر كتابات نخبوية متداولة على نطاق محدود بداية، ولاحقاً عبر كتب واسعة الانتشار. وقد وظّفها هؤلاء في نقدهم للكنيسة والدّولة، وما لبثت أن تبلورت تياراً يدعو للعلمنة، والأممية، وحريّة التعبير والحقوق المتساوية، في موازاة قطيعة صريحة وجريئة مع المفاهيم التقليديّة المشغولة من الخزعبلات التراثيّة. في أجواء هذا التيّار نمت بذور الثورة الفرنسيّة، قبل أن يأتي اليعاقبة الذين صعدوا على أكتاف الثورة - وفق البروفسور إسرائيل دائماً - وأقاموا ديكتاتوريّة شعبويّة ديدنها العنف المفرط والقمع، قضت على كل الأصوات المعارضة، وأبعدت المفكرين والعقلاء لفائدة الدهماء بنهاية التجربة برمتها.
يفرد البروفسور إسرائيل مساحة واسعة من كتابه لاستعراض تلك الحلقة الدمويّة من التاريخ الفرنسي التي وصفها الفيلسوف أنطون ديستو دي تراسي (1754: 1836) بأنها «ثورة عمياء، بلا عقل، ضد العقلانيّة ذاتها»، وتسببت في تقبل الجمهور للحكم الديكتاتوري الملطّف لنابليون بعد أن نجحت سنوات الإرهاب القاسية في زعزعة النبض الديمقراطي الذي أطلقه الهولنديّون. ورغم محاولات متكررة لاستعادة التنوير الراديكالي مجدداً بعد الانقلاب الذي أطاح بروبسبير ورفاقه (1794)، فإن الجهات المحافظة لم توفّر الفرصة لوصم الثورة بالإرهاب، وبذلت غاية جهدها لدفنها نهائياً على نحو يمكن معه القول إن «التنوير الراديكالي» في أوروبا انتهى بلا رجعة منذ عام 1820 تقريباً.
بالطبع فثقافة التنوير وإن خسرت معركتها السياسيّة بسبب اليعاقبة، فقد بقيت أفكارها النبيلة ولم تضمحل كليّة، لكنها انتقلت لملكيّة الثورة المضادة التي استعادت معها الدّين مجدداً إلى الحياة العامّة، والتراتبات الاجتماعية المتمحورة حول هيمنة الطبقة الأرستقراطيّة والعائلات الملكيّة، لينشأ من هذا الخليط ميل إلى التغيير المتدّرج نقيض للثورات الجذريّة، ما لبث أن تمظهر في تيارات السياسة المحافظة التي نجحت عدّة مرّات وفي غير بلد أوروبي (بداية من بريطانيا عام 1815) في استيعاب غضب الفئات الشعبيّة عبر التنازلات الشكليّة دون المساس بأساسيات النّظام الجديد.
وترافقت هذه التمظهرات مع صعود شخصيّات فكريّة مهادنة من أمثال ديفيد هيوم ومونتسكيو التي تجنّبت النقد المباشر للدين، وحرصت على التفاوض مع الموروثات بدل القطيعة التامّة معها. ويلحظ المؤلف هنا أيضاً أن الكنيسة رغم إعادة الاعتبار لها في إطار منظومة الثورة المضادة، فإنها لم تتعافَ قط نتيجة مصادرة معظم أملاكها إبّان الثورة، وتفشي الأفكار التقدميّة للتنوير الراديكالي على نطاق واسع بين الجماهير.
ويتهم البروفسور إسرائيل التيارات الثوريّة الاشتراكيّة في القرن التاسع عشر بخيانة شعلة التنوير الراديكالي رغم انتسابها النظري له. فكارل ماركس وتلامذته انتحوا عن أفكار التنوير الراديكالي الديمقراطيّة الطابع إلى إشعال حروب طبقيّة، وإلى أولويّة لجهات على حساب أخرى في إطار صراع دائم على المصالح الاقتصادية بين أطراف المجتمع الواحد.
بالطبع فإن مشروعاً فكرياً ضخماً في أكثر من 4000 صفحة يدّعي تقديم تصور شمولي لمرحلة تاريخيّة حاسمة كان لها تأثير عميق في تشكيل لحظتنا المعاصرة لا بدّ وأن يتلقى كثير نقد. ومنه محاولة غير مقنعة للمؤلف بربط الثورة الأميركيّة بالثورة الفرنسيّة مستنداً إلى أفكار شخصيّات متنورة (تنويراً راديكاليّاً) مثل بنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون، مع أن أفكار التيار المحافظ والمتدين كانت غالبة على صياغة الدستور الأميركيّ، فيما اضمحلت ثقافة التنوير الراديكالي بعد موت توماس بين في 1809. كذلك انتقده آخرون - لا سيّما داخل فرنسا - لإعطائه وزناً غير مبرر للكتابات النظريّة ومقالات المطبوعات الثوريّة خلال فترة الثورة الفرنسيّة في إطار صياغة استنتاجاته عن المجتمعات، وعلى حساب العوامل الأخرى الممكنة بطبيعة الحال.
ومع ذلك، فإن مهمّة صياغة تصوّر كلي عن مرحلة شديدة التعقيد مثل عصر التنوير لن تسلم من الجدل، لا سيما أن إسرائيل يضع قائمة متخمة بأسماء الشخصيات التاريخيّة، بعضها ليس معروفاً على نطاق واسع، بوصفها شريكة في أحد التنْويرَينِ دون الآخر مع أن مواقف تلك الشخصيات - وفق المصادر التاريخيّة عن المرحلة - قد لا تكون بالضرورة واضحة المعالم على نحو يكفي لتعليب أحدها في ضفّة دون أخرى. وقد اتهمه آخرون أيضاً بأنّه يمنح سبينوزا - على أهميته بالطبع - حجماً أكثر من حقيقة مساهمته الفعليّة في صياغة التنوير.
وفق المؤلف، فإننا اليوم بشكل أو آخر نعيش مرحلة أقرب لنكون فيها عيالاً لديفيد هيوم، الذي انتصر رمزيّاً على سيّد التنوير الراديكالي باروخ سبينوزا. وهي دون شكّ حالة تاريخيّة ستؤدي إلى وقت ضائع كثير للبشريّة في محاولتها التعايش مع التقاليد المتوارثة الجامدة، ومزجها بغرائبيّات ما بعد الحداثة الفاسدة - على حد تعبيره. لقد أُجهض التنوير الراديكالي، وانتصر التنوير المضاد، وهذا الأخير لا يبدو في أي مزاج للانصراف في وقت قريب.



قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»
TT

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

مرت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الأصعدة، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة وطالت لبنان، ولا تزال مشاهدها الدامية تراكم الخراب والدمار على أرض الواقع. في غبار هذا الكابوس تستطلع «الشرق الأوسط» أهم قراءات المثقفين والمبدعين العرب خلال 2024.

في دول الخليج تنوّعت قراءات المثقفين والكتاب ما بين القراءات الشعرية والروائية، مع انفتاح على التجارب الأدبية في العالم العربي، ومقاربات للأعمال التي رصدت التجربة الحداثية وتأثيراتها، وكذلك التجارب النسوية في الرواية والسيرة الذاتية، وبينها كتب في الفكر والفلسفة والتاريخ الاجتماعي.

 

باسمة العنزي: ثوب أزرق وقبيلة تضحك ليلاً!

 

من الكويت، تقول الكاتبة والروائية الكويتية باسمة العنزي: سنة عاصفة مليئة بالأحداث المحبطة والأخبار البائسة! القراءة بدت فيها كاستراحة من لهاث متابعة أخبار الحروب وتردي الأوضاع وانحدار البشرية السريع. المفرح وسط كل هذا أن يقع بين يديك أعمال مبهرة هي الأولى لأصحابها!

قرأت للكاتبة السورية الكردية هيفا نبي «ثوب أزرق بمقاس واحد» الصادر عن دار «جدل» عام 2022، وهي رواية كتبت على شكل مذكرات، تناقش موضوع اكتئاب ما بعد الولادة بسرد جميل ونبرة أنثوية تغلغلت لتفاصيل عالم الأمومة الجديد لدى شابة مهجّرة من مدينتها بسبب الحرب. سرد شفاف يحلّق نحو ذات وحيدة تجتاز أزمتها عبر البوح. وهو عمل - للأسف - لم يحظَ بما يستحقه من اهتمام وانتشار رغم تجلي موهبة الكاتبة وتمكنها اللغوي وقدرتها على اقتناص الحالات النفسية ووصفها بكل تدرجاتها.

أما العمل الثاني فهو للكاتب السعودي سالم الصقور «القبيلة التي تضحك ليلاً» الصادر عن دار «مسكيلياني» عام 2024، وهو أيضاً يتناول موضوعاً جديداً في الرواية العربية عن عدم القدرة على الإنجاب في مجتمع قبلي معاصر، العمل مكتوب بلغة شعرية فذة وبنظرة فلسفية عميقة تضع تحت المجهر مفاهيم مثل الأمل والحرمان وخسارات الحياة القسرية. نوفيلا مكتنزة تدور أحداثها في نجران ليوم واحد يتحدد فيه مصير أبوة البطل المنتظرة!

هيفا نبي وسالم الصقور جاء عملاهما كإضاءة مبشّرة بالكثير في عالم يفقد دهشته ويخفت فيه صوت الحكمة، وقرأتهما في عام شحّت فيه الأشياء المدهشة!

 

د. عبد الرزّاق الربيعي: عودة لعبد الوهاب البياتي

ومن سلطنة عُمان، يقول الشاعر الدكتور عبد الرزاق الربيعي: كتب كثيرة قرأتها هذا العام، والبعض أعدت قراءته، وفق نظرة جديدة أكثر نضجاً، وتمحيصاً، وتذوّقاً، كالأعمال الشعرية لعبد الوهاب البياتي، والذي حفّزني للعودة إليها كتاب صدر عن دار «أبجد» هذا العام ضمن فعاليات مهرجان بابل العالمي للثقافات والفنون والإعلام (دورة 2024)، حمل عنوان «عبد الوهّاب البيّاتي... دراسات وشهادات وحوارات»، حرّره وقدّم له د. سعد التميمي. في بادرة ولمسة وفاء تُحسَب لرئيس المهرجان د. علي الشلاه.

وتأتي أهمية الكتاب كون محرّره د. التميمي، أستاذ النقد والبلاغة بالجامعة المستنصرية، وجّه دعوة ضمنيّة لقراءة البياتي، والكشف عن دوره الريادي، وفحص نتاجه من قبل النقاد الذين صرفت غزارة إنتاجه الشعري أنظارهم عنه، فهذه الغزارة بنظر د. حاتم الصكر «لم تدع فسحةً لقراءة نصيّة مناسِبة، فكثير من منتقدي سيرته السياسية اتبعوا ما أشيع عنه دون تمحيص؛ إذ لم يضعه الشيوعيون العراقيون - كما يشاع - محل السياب حين ارتدّ عنهم، لأنهم ليسوا بحاجة لشاعر، ومعهم مثقفوهم وأدباؤهم، كما أن البياتي ينتهج فكراً يسارياً قبل اصطفافه نصيراً للفكر اليساري التقليدي، وقد عزا ذلك - حين كتب (تجربتي الشعرية) - إلى ما كان يرى وهو صبي، من مظالم ومآسٍ تحيق بالمشردين والفقراء والنازحين للمدينة، وهو يراهم حول مزار الصوفي عبد القادر الجيلاني بوسط بغداد، حيث ولد البياتي ونشأ». وقد شارك في الكتاب كل من: د. حاتم الصكر، ود. بشرى موسى صالح، ود. خالد سالم، ود. محمد عبد الرضا شياع، ود. أناهيد الركابي، والشعراء: علي الشلاه، وهادي الحسيني، ومحمد مظلوم، ومحمد تركي النصار، ود. عبد الرزاق الربيعي، واشتمل على دراسات وشهادات وحوارات مسلطاً الضوء «على الإرث الشعري الذي خلّفه البياتي، وإسهاماته في تحديث القصيدة العربية، ورؤية البياتي للشعر، والحداثة وموقف الشاعر من السلطة والحرية، فضلاً عن تقنية كتابة القصيدة، وفاعليته في الوسط الثقافي».

قسّم التميمي الكتاب إلى ثلاثة فصول: تضمن الأول دراسات وقراءات، والثاني شهادات وذكريات، والثالث حوارات. وقد احتل الفصل الأول مساحة واسعة؛ إذ ضم سبع دراسات هي: القصيدة... المنفى... الموت... مفردات في تجربة البياتي الشعرية، للدكتور حاتم الصكر، وهالة الأسطورة في شعر عبد الوهاب البياتي، للدكتورة بشرى موسى صالح، والمتعاليات النّصّيّة في شعر البياتي، للدكتور محمد عبد الرضا شياع، والتجربة الإسبانية لدى البياتي، للدكتور خالد سالم، والبياتي من فلسفة الرفض إلى استشراف الرؤية، للدكتور سعد التميمي، ومركزية الهامش في شعر البياتي، للدكتورة أناهيد الركابي، ومجد الشعلة الخالدة الآخر في مرآة البياتي الشعرية، لمحمد تركي النصار.

أمّا الفصل الثاني، فقد ضمّ ثلاث شهادات حملت العناوين: «رجاءً عدم الجلوس... عبد الوهّاب البيّاتي قادمٌ بعد قليل» لعبد الرزاق الربيعي، و«في ذكرى البياتي» لهادي الحسيني، و«البياتي وسنواتنا في عمّان» للدكتور علي الشلاه.

وخُصّص الفصل الثالث لحوارات أجريت مع البياتي، وقد تناولت الدراسات الأثر الذي تركه البياتي ليس فقط لدى الشعراء العرب، بل تجاوز ذلك إلى الإسبان، خلال إقامته بمدريد في الفترة (1980-1990).

لقد أعاد هذا الكتاب لنفسي شغفي بقصيدة البياتي، التي تأثّرت بها في بداياتي مطلع الثمانينيات، فوفّر لي فرصة العودة للمنابع الشعرية الأولى.

 

عبد العزيز الصقعبي: أيام الغزو وسير النساء الذاتية

ومن السعودية، يقول الروائي والمسرحي السعودي عبد العزيز الصقعبي: أنا متفرغ حالياً للقراءة والكتابة، فالكتاب وجبة يومية، من الصعوبة تركها، والجميل في زمننا هذا هو سهولة الوصول للكتاب، ورقياً أو إلكترونياً، الحصة الأكبر من قراءاتي دائماً الرواية والقصة ثم الشعر والمسرح، إضافة إلى الكتب الفكرية والدراسات المهمة.

ربما - وأنا أتحدث عن نفسي كروائي - يرد في ذهني أمر ما - ربما وليس أكيداً – أتناوله في مشروع روائي؛ لذا أكثف قراءاتي حول ذلك الموضوع، أطرح لكم بعض الأمثلة «أيام الغزو... يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت»، وهي يوميات للفنان التشكيلي إسماعيل شموط؛ حيث كان لدي اهتمام بتلك الفترة التي لم تؤثر على الكويت فقط، بل على كامل المنطقة وبالأخص المملكة، بالطبع قرأت عدداً من الروايات والكتب حول ذلك ومن أهمها السباعية الروائية «إحداثيات زمن العزلة» للروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، على الرغم من كل الكتابات فتلك الفترة تحتاج إلى مزيد من الكتابة.

وحقيقة من الصعوبة سرد بقية أسماء الكتب التي قرأتها، فهنالك مثلاً روايات، تكون مقبولة وأنتهي منها عند آخر صفحة، ولكن لا تبقى في الذاكرة ولا تشجّع على قراءتها مرة أخرى ناهيكم عن كثير من الكتب وبالذات النصوص السردية التي لا أستطيع إكمالها، اللافت في 2024 دخول عدد من السير الذاتية النسائية في دائرة قراءاتي، بدأتها بسيرة «السنوات» الحائزة جائزة نوبل (أني إرنو)، وبعد ذلك أجد نفسي أمام سيرتين متشابهتين وفي الوقت ذاته مختلفتين؛ «حد الذاكرة» لعائشة محمد المانع، و«حياتي كما عشتها... ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» لثريا التركي، وبكل تأكيد هنالك قائمة طويلة أحتفظ بها لنفسي، من الكتب التي قرأتها أو سأقرأها، أو أتصفحها ربما تشدني للقراءة.

 

كاظم الخليفة: الأدب السعودي والعلاقة بين الأدب والفلسفة

ويقول الكاتب والناقد السعودي كاظم الخليفة: كان مشروعي القرائي لعام 2024 هو استكشاف الأفق الإبداعي للكتاب السعوديين، الذي أتاحه المرور على عناوين وتصفح بعض إصدارات مشروع «1000 كتاب» الذي تقوم عليه دار «أدب للنشر والتوزيع» بدعم من الصندوق الثقافي السعودي، وكذلك قراءة «كتاب أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» - الجزء الثاني - ذلك المشروع الرائد الذي قام بجهد شخصي من الأديب والقاص خالد اليوسف؛ لإبراز المشهد السردي السعودي المعاصر ومدى تقدمه من خلال ممارسة التجريب وتنوع الأدوات السردية. والثالث، كان المشروع الآخر للشاعر عبد الله السفر «رمال تركض بالوقت» الذي كان برعاية من مركز الملك عبد العزيز الثقافي «إثراء»، وهو عبارة عن مختارات لنصوص شعرية تختص بقصيدة النثر السعودية بغية ترجمتها للقارئ الفرنسي.

تعرض تلك الكتب جانباً مهماً من حراك الأدب السعودي المعاصر الذي يتطلب الكثير من الدراسة والتأمل، لكن الانطباع العابر يمكن استخلاصه في أن القصيدة الكلاسيكية السعودية تحاول تجديد ثوبها من خلال جعل «ذات» الشاعر بهواجسه وأحلامه أحد مواضيعها المهمة. أي أن الدافع الذاتي للكتابة، واتخاذ القصيدة وسيلة فضلى للتفكير، قد عمل على تقليص المساحة الكبيرة التي كان يحتلها شعر «المناسبات» في دواوين الشعراء.

والانطباع الثاني عن مستوى التقدم في كتابة قصيدة التفعيلة، التي لم تتقدم وتكتسب نسبة وازنة في دواوين الشعراء المعاصرين بشكل ملحوظ. أما ملمح قصيدة النثر الحديثة فنجد بروزاً لموضوع «الميتاشعرية»؛ حيث سؤال القصيدة ومحرضات كتابتها وجدواها. وفي كلا الجنسين الشعريين: الكلاسيكي والنثري، نلحظ فيهما تجاوز الشواعر النساء أزمة «النِّسوية» وبالتالي الكتابة بروح الأنثى المدركة لكينونتها.

في السرد، نلحظ نمواً لجنس القصة القصيرة جداً واقترابها - في بعض التجارب - من شذرات قصيدة النثر. وما يخص جنس القصة القصيرة، فيمكن ملاحظة أنها اتجهت نحو التنوع - بشكل واضح - في مواضيعها، مع تناول أكبر بالتركيز على الجوانب الوجودية والأزمات النفسية لشخوص حكاياتها. أما الرواية، فيمكننا رؤية اجتذابها للكتاب الشباب بإنتاج متلاحق لبعضهم؛ حيث يفصل بين كل عمل روائي وآخر أقل من عام.

مجال القراءة الحرة كان من نصيب كتب مميزة في بابها، وإن لم تبتعد كثيراً عن الأدب. ولعل أبرزها كتاب حديث للناقد الفرنسي كاميل ديموليي «الأدب والفلسفة... بهجة المعرفة في الأدب» الذي يُعتبر من أواخر من دخلوا في حلبة الصراع والجدل - منذ أفلاطون – عمّن هو الأجدر بتمثيل «الحقيقة»؛ الأدب أم الفلسفة، وكذلك عن طبيعة العلاقة الملتبسة بينهما. ففي هذا الكتاب يستعرض ديموليي الجدل القديم/الجديد عن علاقة الفلسفة بالأدب، ويحاور فيه جميع آراء الأدباء والفلاسفة البارزين، ابتداء بأفلاطون وسقراط، وانتهاء بنيتشه وهايدغر، ثم في خاتمة الكتاب يميل إلى الرأي الذي يقول إن «فكرة الفلسفة هي الأدب»، وذلك بمعنيين: أولاً أن الأدب هو فكرة الفلسفة، أي أنها إبداعه أو ابتداعه؛ ثم إنها مدار دراسته. وهكذا صار الأدب في نتيجته هو منبع الأفكار الفلسفية، وأنها تعود فيه وكأنها تعود إلى أصلها المنسي، كما يقول. بل إن نيتشه والتيار الرومانسي حاولا إعادة الفلسفة والأدب إلى أصلهما الشعري، بصفته نشاطاً خلاقاً؛ حيث الفلسفة - من وجهة النظر هذه - يمكن أن تكون ضرباً من الشعر المتحجر؛ أي خطاباً بواسطة الصور والمجازات.

 

حمد الرشيدي: بين البردوني والأفلاج والزلفي

من الرياض، يقول الشاعر والروائي السعودي حمد حميد الرشيدي: كثيرة هي الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، وكتبت بعض انطباعاتي الشخصية لما قرأته منها، وهي كتب تُعنى بالأدب والشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسات النقدية، وقرأت بعض الكتب التي أثارت اهتماماً من قبل القراء أو النقاد... ومن الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، كتاب «المكان في شعر البردوني» للدكتور خالد اللعبون، وهو دراسة موضوعية تحدث فيها الكاتب عن ظاهرة اكتناز شعر الشاعر العربي اليمني الكبير عبد الله البردوني (رحمه الله) بالمكان وجغرافيته وارتباطه الحسي والمعنوي بالإنسان.

وفي مجال أدب الرحلات، قرأت كتاب «الأفلاج كما رآها فيلبي» وهو من تأليف عبد العزيز المفلح الجذالين. ويتحدث فيه مؤلفه عن أهمية مدينة الأفلاج عبر التاريخ وما ذكره الرحالة الإنجليزي المعروف عبد الله فيلبي عن هذه المدينة عندما زارها زيارة ميدانية سنة 1918م.

وفي مجال علوم التاريخ والاجتماع، قرأت كتاب «الكويت والزلفي» لمؤلفه حمد الحمد، وهو يتحدث عن الصلات التاريخية والاجتماعية بين بعض العوائل والأسر العربية ذات العوامل المشتركة في الاسم والنسب والأرومة في كل من الكويت ومدينة الزلفي.

وفي الفكر والفلسفة، قرأت كتاب «الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها» للدكتور أمين أحمد زين العابدين، وهو كتاب تطرّق فيه المؤلف للحضارة العربية والإسلامية عبر التاريخ وما مرت به من مراحل وتغيرات عبر الزمن وأثرها وتأثيرها في الحضارات الأخرى.

وفي العلوم، قرأت كتاب «في تاريخ العلوم» للدكتور عبد الله محمد العمري، وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم عند العرب القدامى حتى العصر الحديث، وأهم الاكتشافات والاختراعات التي قام بها العرب والمسلمون منذ القدم، ثم تم نقلها عنهم للشعوب الأخرى التي قامت بالاستفادة منها وتطويرها في الوقت الحاضر.

جمانة الطراونة

 

جمانة الطراونة: من «أشجار الكلمات» إلى «غيم على سرير»

الشاعرة الأردنية المقيمة في مسقط (سلطنة عُمان) جمانة الطراونة، تقول: أميل إلى قراءة كتب المختارات الشعرية، كونها تعطي فكرة عن التجارب الشعرية المتحقّقة، وضمن هذا السياق، قرأت كتاب «أشجار الكلمات»؛ وهو مختارات شعرية للشاعر عدنان الصائغ. اختارها وقدم لها: حاتم الصكر، وحسن ناظم، وناظم عودة. وصدر عن دار «صوفيا» للنشر والتوزيع في الكويت، ومما علق في ذهني قوله:

«في الليلِ

أرى شخصاً آخرَ

لا أَعْرِفُـهُ

يَتَعَقَّبُني

فأغذُّ خطايَ،

وأسرعُ

أسمَعُهُ يتوسّلُ خلفي:

– اصحبْني ظلاً

فأنا أخشى أنْ أمشي منفرداً في الطُرُقاتْ».

أما أحدث كتاب قرأته هذا العام من كتب المختارات فهو كتاب «غيم على سرير» وقد ضمّ بين دفتيه مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي، وقد صدر عن دار «شمس» للنشر والإعلام، بالتعاون مع بيت الشعر ببغداد، والنصوص من اختيار الشاعر عماد جبّار، وقدّم لها د. سعد التميمي، الذي قال: «ينفرد الشاعر عبد الرزاق الربيعي من بين شعراء جيل الثمانينات باتّساع تجربته الشعرية وعُمقها وتنوعها، وهو الحاضر باستمرار في الساحة الشعرية والقادر على الانتقال من منطقة إلى أخرى مجدِّداً في القصيدة على مستوى اللغة والأسلوب والمعالجة والمفارقة، كاشفاً ما يحمله من عمق معرفي يتجلى في تناصّاته المتنوعة، (...) فهو القادم من صومعة الشعر حاملاً الوطن المثخن بالجراح والألم وصور الخراب والموت التي يختلط فيها الدم بالدموع»، وعلى الغلاف الأخير للمختارات كتب د. حاتم الصكر شهادة حول تجربة الربيعي، وقد قرأت ديوان الصكر «الهبوط إلى برج القوس» الصادر عن دار «أرومة للدراسات والترجمة والنشر»، وأبحرت مع عوالم الفقد، وأحزان غربته، التي يسرّبها عن طريق الشعر الذي يعتبره ملاذه الأخير ويستثمر الموروث الرافديني حين يرسم «بورتريهات» لعدد من أصدقائه كما في «خُطى جلجامش» التي يهديها إلى الشاعر عبد الرزاق الربيعي.