كيف انتقلت أوروبا من التدين الظلامي الطائفي القديم إلى التدين التنويري المتسامح الحديث. وهو ما يدعى بنقلة الحداثة. وهي نقلة كلفتهم ثلاثة قرون من النضالات والصراعات والمعارك الفكرية. ولن أستخدم مؤلفات أحد فلاسفة الإلحاد المادي لإيضاح ذلك وإنما أفكار أحد كبار علماء الدين في أوروبا حاليا: عنيت عالم اللاهوت السويسري الشهير هانز كونغ. وهذا يعني أني أطرح مسألة العالم العربي ليس من زاوية الصراع بين الإيمان والإلحاد وإنما من خلال الصراع بين الإيمان والإيمان. فهناك إيمان آخر غير الذي تعرفون. أقصد الفرق بين الإيمان القديم المتكلس المتحنط المتحجر والإيمان الحديث المنبثق المنعش، الإيمان الصاعد من تحت الأنقاض. فهنا في هذه النقطة بالذات حصل الانفجار الكبير الذي أدى إلى ولادة الأزمنة الحديثة. وأكاد أقول هنا بالضبط حصل التفجير النووي التحريري الهائل للحداثة. فالتدين التقليدي كان قد أصبح مرهقا وقمعيا وطائفيا ظلاميا بشكل لا يحتمل ولا يطاق. وكان قد أصبح عائقا أمام التعايش السلمي بين مختلف مكونات الشعب وطوائفه مثلما هو حاصل عندنا حاليا. كان هذا الإيمان الطائفي القديم المتحجر الراسخ في العقليات الجماعية رسوخ الجبال يشكل خطرا على الوحدة الوطنية لفرنسا وألمانيا وإنجلترا وهولندا الخ. وكان يسبب الحروب المذهبية والطائفية الضارية بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين.. ولهذا السبب انفجر فلاسفة أوروبا ضده. وما كانوا ملاحدة على الإطلاق. على العكس كانوا من أكبر المؤمنين. ولكنه إيمان واسع سعة الكون. إنه يختلف كليا عن الإيمان الضيق المتعصب الذي يؤدي مباشرة إلى الذبح على الهوية. إنه إيمان قائم على المقارنة بين جميع الأديان الكبرى للبشرية وليس محصورا داخل دين واحد فقط أو مذهب واحد فقط. وبالتالي فتنطبق عليه كلمة العالم الألماني ماكس مولير: من لا يعرف إلا ديناً واحداً لا يعرف أي دين! ولهذا السبب ندعو إلى فتح كليات لعلوم الأديان المقارنة في كل الجامعات العربية. ثم مقابل كل كلية شريعة ينبغي أن نفتح كلية لفلسفة الدين. ومع الأزهر ذاته ينبغي أن تنهض جامعة ضخمة تحت عنوان: جامعة الإسلام المستنير. أعرف أن هذا الكلام يزعج التقليديين المنغلقين داخل يقينياتهم المتحجرة والعدوانية إن لم نقل التكفيرية.
ولكن لا يهم. المهم إيضاح الحقيقة بعد أن طغت علينا الغمة والظُلمة إلى حد لم يعد السكوت فيه ممكنا. ينبغي العلم بأن البروفسور هانز كونغ لا يعرف فقط تاريخ الفلسفة كلها من أولها إلى آخرها وإنما يعرف أيضا تاريخ العلم الفيزيائي والاكتشافات الكبرى من كوبرنيكوس إلى آينشتاين مرورا بغاليليو ونيوتن وبقية العباقرة. بل وحتى قصة الميكانيك الكمي والموجي يعرفها. وكذلك قصة البغ بانغ أو الانفجار الأعظم الذي أدى إلى ولادة الكون قبل 14 مليار سنة فقط! وهو لا يتحدث عن الدين إلا بعد أن كان قد هضم كل هذا الثقافة العلمية والفلسفية والفلكية الهائلة. فتخيلوا الوضع! هذا رجل دين حقيقي. هذا شخص يحق له أن يتحدث عن موضوع جليل وخطير كالدين. في كتابه الضخم عن كيفية تصور الدين ومسألة وجود الله في الأزمنة الحديثة يستعرض هانز كونغ آراء كبار فلاسفة أوروبا على مدار العصور منذ اليونان وحتى اليوم. وإنه لشيء يدعو للدهشة والإعجاب أن يكون أحد رجال الدين واللاهوت المسيحي قادرا على مناقشة كبار الفلاسفة من موقع الند للند وبكل تمكن واقتدار. بل وقد تمكن من حشر نيتشه في الزاوية بعد مناقشة عويصة، معقدة، بطولية، رائعة.
وقل الأمر ذاته عن كبار فلاسفة الإلحاد الآخرين من أمثال فويرباخ وماركس وفرويد وشوبنهاور وهيدغر.. كلهم يتصدى لهم واحدا واحدا لكي يثبت أن الله موجود وأن الإيمان ممكن حتى في عصر الحداثة بل وما بعد الحداثة! ولكنه إيمان ما بعد التنوير لا ما قبله. لأنه الإيمان الذي ينعش لا الإيمان الذي يقتل. وبالطبع فإنه يستعرض نظريات كبار فلاسفة الإيمان من أمثال باسكال ولايبنتز وكيركيغارد الخ.. ولا ننسى مناقشاته المعمقة لأفكار أفلاطون وأرسطو وكانط وهيغل وعشرات الآخرين. كتاب غني، كتاب عظيم، كتاب من أعلى طراز. والأحلى من كل ذلك أنهم وضعوا على غلاف الكتاب صورة تلك اللوحة الشهيرة لفان غوخ: السماء المرصعة بالنجوم!
7:49 دقيقة
هانز كونغ والإيمان المستنير
https://aawsat.com/home/article/2187656/%D9%87%D8%A7%D9%86%D8%B2-%D9%83%D9%88%D9%86%D8%BA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%86%D9%8A%D8%B1
هانز كونغ والإيمان المستنير
عالم اللاهوت السويسري في جولة فلسفية تغطي التاريخ كله
هانز كونغ والإيمان المستنير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة