الواقعية المفرطة مفهومٌ من مفاهيم الدراسات الثقافية، ويعني التضافر اللامرئي ما بين الواقع والوهم اللذين بهما تبدو الحياة لا متناهية، وقد اكتنفتها التقلبات والمتضادات، فبدت مطوقة وغير مطوقة وهي تعج بما هو غير متوقع وأحياناً أو غالباً غير معقول، مأمول الظفر بحقيقتها تارة وميئوس من ذلك تارة أخرى. وفي كلا الحالين لا يكون هناك احتمال في النجاة من ترهاتها أو تحاشي الوقوع في حبائلها؛ بل هي الاستحالة أو شبهها.
وما جدلية الواقعي - الوهمي التي جذبت أكثر الفلاسفة لتأملها سوى تمرين من تمرينات التفكر الواعي في كنه الحياة. والبغية الوقوف على حقيقة المغزى المراد بلوغه منها ومعرفة ما في واقعيتها المفرطة من يقين يغرينا بالتمسك بها، وبسط أواصر البقاء على قيدها.
والواقعية المفرطة سمة من سمات الثقافة ما بعد الحداثية التي بدأت بوادرها واضحة في كتابات والتر بنيامين؛ بيد أن هناك من يذهب إلى عدها حقلاً معرفياً محدداً من حقول علم الدلالة وليست مفهوماً مرتهناً بالثقافة.
ولعل أدل الحجج على ذلك اكتراثها بإعادة تصنيع الواقع من أجل الحصول على فهم أكثر منطقية وجمالية، أياً كان شكل ذلك الفهم مرعباً يستقطب مخاوفنا أو كان جاذباً يعطينا شعوراً مزيفاً نقتنع به بلا مبالاة أو تحفظات.
وعندها لا يعود الواقع رديف الحياة اليومية المعيشة ولا يغدو التوظيف الجمالي منطوياً على وظيفة تضمينية للموجودات، كونه يتجاوز المعطى الدلالي إلى معطى ثقافي، فيه لا تتحدد القيمة التبادلية للعلامة في علاقة الأشياء بوجودها العياني وغير العياني وإنما في المتاحات التأويلية التي بها نعاين الوجود بمنظار أوسع وأعمق.
وإذا كان في التصور الدلالي للواقعية المفرطة اتباع واضح لنظرية المحاكاة الأفلاطونية وعدم الحياد عن مفاهيم الانعكاس والالتزام والنزوع الاجتماعي بالوعي الممكن والوعي القائم؛ فإن التصور الثقافي لهذه الواقعية سيظل ميزة نظرية ما بعد حداثية، بها يصبح الفكر رهين قضايا المجتمع في تحولاتها المتصلة بالعولمة والإنتاج المادي وغير المادي والاستهلاك والذكاء الصناعي والفاعلية الرقمية للصوت والصورة ووسائل المراقبة البارومترية والفضاء السيبراني وغير ذلك كثير.
وبالواقعية المفرطة لا تتحول صورة العالم من صورة واقعية إلى صورة مجازية لها أصل ومرجع من نموذج أو صورة نمطية سابقة؛ وإنما هو البقاء في الواقع من أجل واقع أشد واقعية من الواقع نفسه. وعندها سيبدو كل شيء مخادعاً بسيرورة إنتاج بديلة تؤدي إلى ما يسميه بودريار (اغتيال الواقع).
وما دامت هذه الواقعية ترفض الواقع؛ فإن سعيها يكمن في اعتماد القوانين الإنسانية وليس القوانين الطبيعية ضمن عالم جديد لا استلاب فيه ولا فوقية مجتمعية وبتاريخية مادية ولا مادية، فيها ـ كما يرى دوركايم في نظريته الأمبريقية حول تقسيم العمل في المجتمع ـ أن المستقبل مكتوب لتوه وأنّ له من يعرف كيف يقرأه.
وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا إن في واقعية روجيه غارودي بوادر الواقعية المفرطة، كونه هو الذي أراد الواقعية عائمة بلا ضفاف، مستشرفاً بذلك المآل الذي ستصير عليه الواقعية لاحقاً حتى أنها قد تصبح عدوة نفسها، صانعة غيرها بإفراط.
ولا شك أن لغارودي إيماناً واضحاً بالفن بوصفه أسلوب حياة للإنسان، وهو عبارة عن عمليتي انعكاس وخلق لا ينفصمان، لكنه لم ينكر أن الإنسان وهو منعزل في عالمه الصغير قد يحوي في انعزاله ثقافة الجنس البشري السابقة عليه بينما يوجد عصره حاضراً في كيانه.
ومثّل على ذلك ببيكاسو الذي وجده يحمل العالم في جنباته وأعماله تحول العالم المفروض علينا إلى عالم يقيمه هو بنفسه. (واقعية بلا ضفاف، ص19)
وهذا التصور يصب بالضبط في باب اللانمطية التي هي أهم سمة من سمات الواقعية المفرطة، انطلاقاً من سعي صميمي إلى اقتلاع الشيء من أصله واستبداله بما هو زائف وآلي، تجاوزاً للمفاهيم المعتادة كالصورة والتصوير والرمزية والسحرية والغرائبية التي هي نتاج جمالي من نتاجات المرحلتين الكلاسيكية والحداثية.
وتتجلى الواقعية المفرطة في ميدان الشعر كما تتجلى في ميدان السرد الذي فيه متاحات جمالية تتمثل خير تمثيل عند القاص الراحل جليل القيسي الذي انبرى في ستينيات القرن العشرين إلى توظيفها في قصصه القصيرة، مؤكداً إمكانات هذا الجنس السردي في التأقلم على وفق متغيرات العصر والتماشي مع ضرورات الحياة ومقتضياتها.
ولا يعني هذا أن القاص كان متقصداً تطبيق الواقعية المفرطة في أعماله، وليس شرطاً أن يعي المبدع ما ستؤول إليه تسمية اجتراحاته فيما بعد؛ وإنما هو هاجس إبداعي قد يكون عفوياً، امتلكه بعمق فمكَّنه من أن يكون ذا خط واقعي نوعي خاص، به عبَّر عن موقفه من جدلية التضاد الواقعي في العالم كنوع من الرفض له والسعي إلى تغييره أو تخطيه.
ولقد تحرى جليل القيسي حقيقة هذا العالم فوجد أن هناك ازدواجاً جدلياً ما بين الوعي بهذا العالم وواقعية هذا الوعي أيضاً. ففي مفتتح قصة (ديوس أكس ماشينا) يقول السارد (في الحلم وفي أعماق الصحو تعلمت أن الإنسان لا يستطيع أن ينتبه بما فيه الكفاية)، فراح يبحث عن مغزى الذات، طامعاً في التصالح مع الوجود بأزمنته كلها، موظفاً إياها داخل القصة الواحدة متقلباً ما بين ضمائر السرد وجامعاً المخاطب والغائب والمتكلم والمتكلمين معاً.
وهو في تمثيله لهذا الازدواج ليس كاتباً يائسا ينغمس في التهويمات من دون أي جذر يربطه بالحياة؛ بل هو كاتب كافكوي النهج يصبو للاندماج بكل كيانه قاصداً المعرفة ومتطلعاً إلى السعادة التي كان كافكا قد وجدها كامنة في الإحساس بأننا عندما نعيش بوعي وندرك بوضوح ارتباطاتنا بالآخرين وواجباتنا إزاءهم يصبح الوطن القديم هو دائماً الوطن المتجدد (نقلا عن يانوش (قال لي كافكا)، ينظر: واقعية بلا ضفاف، ص149). وأغلب خواتيم قصص جليل القيسي القصيرة تجسّد هذا النهج، ففي خاتمة قصته (صهيل المارة حول العالم) يدخل السارد في معركة مع غريمه (فكرت بجدية أن أقبل هذا الحيوان إذا ما قتلته لأنه أشعرني بحقيقة وجودي بنمو قواي بسعادتي ورغم الشلل الذي راح يدب في جسدي كنت أشعر بلذة للاشتباك معه في المعركة من جديد)
وفي قصة (ثلاثة تلال من الجراد) نلمس أملاً بالحاضر واكتراثاً بالآتي (هنا يكمن انتصارنا، قد لا نستطيع التغلب، وفعلاً لن نستطيع، لكننا - وهذا الأهم - انتصرنا على أنفسنا نحن الذين اخترنا، فلا بأس إذن بالنتيجة).
وواقعية جليل القيسي ليست نمطية، ففي الوقت الذي يكون فيه منطوياً وهو يصف الأشياء على وفق علاقات منغلقة وضيقة، مادية ولا مادية، فإن الوجود يغدو متناهياً وغير متناه.
وهذا الإحساس الواقعي المفرط يجعل الإنسان كائناً غريباً في عالم مهجور يشبه إلى حد ما عالم كافكا الغريب والنزّاع إلى الازدواج، عالم مقزز بالظلمات والشروخ، والإنسان واقع في هوة سحيقة تطحنه، حتى لا مجال أمامه سوى الانتحار. ويرجع غارودي هذا التصور الكافكوي للإنسان إلى مسألتين، الأولى هي العندية التي ترفض القياس والأخرى الكينونة التي لا مقاييس لها والمكونة من مسالك خيالية تفتقر إلى نظام أو قانون تنصهر فيه المعاني الحقيقية والأسطورية.
ومن انعكاسات هذا التصور أن الواقع سيغدو عصياً على الفهم غريباً أو ضيقاً أو مهجوراً فيتبرم منه بإفراط، مسرفاً في استعمال الأوصاف التي تشي بالانعزال والصمت. وإذا ما تجسد الواقع أمام الكينونة في صورة ملحمية، فذلك لأنها تسقط عليه كل أوجاعها وشكوكها إسقاطاً أسطورياً.
وبسبب واقعية جليل القيسي المفرطة تغدو القصة بالنسبة إليه قضية يناصر بها الحق وإن كان لوحده، رافضاً الانتماء والتقوقع المجاني مع الآخرين غير متوانٍ عن توبيخ نفسه وإعلان الحرب عليها (هل كنت أكذب على نفسي؟ لم بقيت أكذب على نفسي ببراءة طفل؟ لماذا لم يكلفني الكذب سوى توبيخ ساخن ولوقت قصير؟ كلا... قررت أن أنتحر بوتر ربابة أحد المغنين أو بثدي كبير لإحدى الغجريات بأن أضعه على أنفي الأفطس حتى أختنق، لن أرجع بعد الآن إلى الشوارع والوجوه الكئيبة).
وهذا الربط للواقعية بالوجود يجعل الإنسان ضمير الواقع. أما الفن فليس هو الواقع وإن كان منطلقاً منه. ومع ابتعاد الفن عن الواقع يغدو أكثر واقعية وأكثر خلقاً وإيقاعاً. وبالخلق والإيقاع يمتلك الإنسان وعيه الخاص، فتغدو الواقعية بالنسبة إليه فلسفة ممتدة ولا حتمية، بل هي ملحمية برومثيوسية تخلق الأساطير (كم آلمني أن توجد ثمة أشياء كثيرة أقوى مني وكنت قبل هذا المصير السينمائي أصر بدافع من كبريائي أن هذا الكون خال من القوة... ماذا يعني هذا الاستمرار في التفكير وهو لا يفضي إلى نتيجة ما)
والتسربل في اللغز والحيرة والغيبوبة والهذيان واللامعقول سمات الواقعية المفرطة التي تجعل الفرد مختلياً بنفسه صامتاً ونائياً عن المجتمع الذي ما عاد لديه قدر كبير من المهارة تمكنه من أن يدرك الأحداث ويعيد إنتاجها.
ودائماً ما يصادفنا في مجموعات جليل القيسي القصصية الثلاث: مملكة الانعكاسات الضوئية وصهيل المارة حول العالم وزليخة البعد يقترب، وجود عدو مجهول ولغز محير. وبشكل يؤكد أن واقعية هذا القاص واقعية انحرفت عن الطريق المعتاد واختارت طريقاً لا معتاداً، أساسه واقعية مفرطة في رؤية الواقع ومعاينته ورؤيا العالم والتفكر فيه.
«الواقعية المفرطة» في قصص جليل القيسي
القصة بالنسبة إليه قضية يناصر بها الحق وإن كان وحده
«الواقعية المفرطة» في قصص جليل القيسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة