المثقفون المصريون يحتفون بيوسف الشاروني

لا يزال منتجا.. وآخر كتبه عن مباهج التسعين

يوسف الشاروني
يوسف الشاروني
TT

المثقفون المصريون يحتفون بيوسف الشاروني

يوسف الشاروني
يوسف الشاروني

احتفل المثقفون المصريون في الخامس من هذا الشهر ببلوغ الكاتب يوسف الشاروني عامة الـ90. في أمسية نُظمت بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، ضمت مجموعة من الأدباء والكتاب والنقاد المصريين. وأدار الاحتفالية الكاتب والمترجم ربيع مفتاح. تحدث المشاركون عن إبداع يوسف الشاروني ومدى تطور اللغة في أعماله، فضلا عن أعماله النقدية الأخرى واهتمامه بشباب المبدعين ومسيرته في نادي القصة.
ولا يزال الشاروني، رغم الـ90، منتِجا، وقد صدر له أخيرا كتاب جديد بعنوان «الشاروني.. ومباهج التسعين»، الذي يتأمل فيه علاقاته الإنسانية وكل ما كتبه وكُتب عنه، ويتحدث عن سيرته من الطفولة إلى الكهولة. يقول الكاتب الكبير لـ«الشرق الأوسط»: «لا أكف عن فعل الكتابة كل يوم، طالما هناك قلب ينبض، فأنا أجبر نفسي على الإمساك بالقلم والكتابة، وهو أمر في حد ذاته يبعث فيّ الحياة».
ولد الشاروني في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1924. ويُعد أحد أهم كتّاب القصة القصيرة في جيل ما بعد يوسف إدريس، حصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة - جامعة القاهرة عام 1945. وأُحيل على المعاش وكيلا لوزارة الثقافة، وأصبح رئيسا لنادي القصة بالقاهرة من 2001 إلى 2006 ثم رئيس شرف، وهو عضو لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة. ولجنة الأدب بمكتبة الإسكندرية. وكان أيضا عضوا في هيئة تحرير مجلة «المجلة» بالقاهرة، وأستاذا غير متفرغ للنقد الأدبي في كلية الإعلام بجامعة القاهرة بين عامي 1980 و1982. عمل في سلطنة عمان مستشارا ثقافيا من 1983 إلى 1990.
من أهم مجموعاته القصصية «العشاق الخمسة» (1954)، و«رسالة إلى امرأة» (1960)، و«الزحام» (1969)، و«حلاوة الروح» (1971)، و«مطاردة منتصف الليل» (1973)، و«آخر العنقود» (1982) و«الأم والوحش» (1982)، وله رواية وحيدة هي «الغرق» (2006). وله تجربة في النثر الغنائي «المساء الأخير» (1963)، وكتب سيرته الذاتية بعنوان «ومضات الذاكرة» (2003).
أثرى الحياة الثقافية المصرية بأكثر من 50 كتابا في النقد النظري والتطبيقي، وتحقيق التراث، وهو حائز على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 2001، والتشجيعية في القصة القصيرة في 1969، والتشجيعية في النقد الأدبي 1979، وجائزة العويس في 2007، وحاصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1970، ووسام الجمهورية من الطبقة الثانية 1979.
تُرجمت أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية.
وتحدث في الندوة التي احتفت بالشاروني الكاتب المصري شعبان يوسف، الذي قال: «المبدع هو في الأساس ناقد.. والشاروني مبدع من نوع خاص. وهو لا يفتعل المعارك الأدبية والثقافية، بل يعيش في سلام ويقدم رؤى إيجابية في كل ما حوله».
وتطرقت الناقدة أماني فؤاد إلى الملامح الأساسية في أعمال يوسف الشاروني، قائلة: «أهم ملامح كتابته للقصة هي أنه يهدم المنظور الطبيعي للواقع، والترتيب المنطقي لتسلسل الأحداث، التي تبدو في ظاهرها أحداثا يومية عادية، ومن خلال بؤرة ما يبدأ في إخراج تسلسل تاريخي ومجتمعي شديدة المصرية. وكان المثلث الذي يعالج منه مجموعاته القصصية هو (الفقر والجهل والمرض)، لكن لا تزال أعماله بعيدة عن الذائقة المصرية والعربية في تقبله، وهو بحق رائد الاتجاه التعبيري». وأضافت: «يهتم الشاروني بعالمية الإنسان وكونيته، وكل عمل برغم بساطته الظاهرية فإنه يحمل في طياته رؤية فلسفية عميقة للعالم من حوله».
وترى الناقدة د. عزة بدر أن «الشاروني ارتبط بالناس رفقاء في مسيرة الحياة، وأسهم بكتاباته في كل مجال، وكان ساحر القصة بحق ليس له شبيه وكل قصة له فيها خلق جديد، فأثرى الحياة الأدبية بمجموعات قصصية منها (الزحام) و(رسالة إلى امرأة)، إضافة إلى الرواية وكتب السيرة الذاتية والدراسات الأدبية والنقدية».
أما شقيقه الأصغر يعقوب الشاروني، فتحدث عن مراحل حياة الكاتب الكبير ونضاله السياسي الذي بدأ منذ أن بلغ 17 عاما، حين اتهم بقلب نظام الحكم. وبعد أن اعتقل استمر بعد خروجه في الكتابة دون خوف في عدد من المجلات التي أغلقها آنذاك رئيس الوزراء الأسبق إسماعيل صدقي.
وأشار الروائي يوسف القعيد مقرر لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة إلى أن «يوسف الشاروني هو أول من أوجد التناص بين القصة القصيرة والرواية، ويُحسب له أنه كان أيضا أول من امتلك الشجاعة لكتابة التحقيق الروائي في العالم العربي، أما على الجانب الإنساني فهو يثبت لنا دائما أن الحياة إرادة، وأن الكتابة هي شعلة الحياة».
وقال الكاتب سعيد الكفراوي إن «يوسف الشاروني ابن زمن الأسئلة المهمة، زمن طه حسين، وعاش ضمن منظومة لويس عوض، اطلع على الأدب العالمي بلغاته الأصلية، وهو يمتلك إرادة الفعل الثقافي، وهو معني بالتقاط الوجودي من الواقع المصري، ومشغول بحرية الكائن للخروج من الهم السياسي وزحمة الشارع، وظل مشغولا بالنظر لمجمل ما يجري في هامش ما يعيشه وتحويله إلى فن».
ويتذكر الناقد د. حسين حمودة بداية تعرفه على يوسف الشاروني بقوله: «قرأت مجموعته الأولى (العشاق الخمسة)، وهي قصة كانت مغايرة لكل ما قرأته في ذلك الزمن، لكن أعماله الباقية تتنوع وتتسع دائما لتكشف عن جوانب عديدة في شخصيته الأدبية. فإلى جانب كتاباته القصصية العديدة والدراسات المهمة التي ترقى لمستوى الأطروحات العلمية حول القصة والأدب المعاصر والتراث العربي، كانت له ترجمات وكتاب فريد من نوعه وهو (التربية في علم التغذية). إنه كاتب موسوعي، وأتصور أنه لا يطل على الحياة إلا من خلال حرصه على القراءة والتأمل. ويمكن تلخيص شخصية يوسف الشاروني في كلمات بسيطة هي (المعرفة والإبداع والتجرد والتأمل)».



«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
TT

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007
سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام. صارا صديقين، لا بل رفيقين، جمعتهما المقاهي والجلسات الشعرية والعائلية. وفي منزل سعادة، في بلدة شبطين اللبنانية، كتب بولص واحدة من أجمل قصائده «آلام بودلير وصلتْ». لكن بولص سيغادر إلى الولايات المتحدة عام 1971، وتصبح الرسائل هي صلة الوصل الوحيدة بين الصديقين، إضافة إلى تلك اللقاءات العابرة، التي سيكون آخرها في «مهرجان لوديف» في فرنسا عام 2007؛ أي قبل أن يرحل بولص عن عالمنا بنحو شهر واحد.

الرسائل التي تبادلها الشاعران، بقيت طي الأدراج إلى أن أفرج وديع سعادة عما في حوزته منها، إضافة إلى بعض ما كتب إلى بولص وعنه، وصدرت مؤخراً عن «دار نلسن» في بيروت، في كتاب يحمل عنوان «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة». هي في أغلبها تلك الرسائل التي كتبها بولص بعد وصوله إلى الولايات المتحدة، مباشرة، ولا يزال قلبه معلقاً بأصدقائه الذين تركهم خلفه. في هذه الرسائل يسأل بولص عن الأصدقاء، يذكرهم واحداً واحداً، ويطلب من سعادة أن ينقل إليهم تحياته: «إلى أدونيس وجاد الحاج ورياض فاخوري وجان دمو والأب يوسف وخليل الخوري ودلال ونهى»؛ ذلك أنه «كلُّ تذكُّرٍ، مطهّر. الأصدقاء البعيدون ليسوا أشباحاً أبداً. بعض القريبين هنا، أشباح».

إنها الغربة التي تتأكّل الشاعر وتشعره بالألم. يتمسك بالشعر لعل به يكون الخلاص، وهو بالفعل كذلك؛ لقد «ساعد الشعر على إنقاذي كثيراً. منذ أن وطئت هذه الأرض الأجنبية والشعر يلتهب في باطني ليوازن بين البرد المسموم في الخارج واليقظة العنيفة في الداخل». وتزيد من غربته اللغة، وصعوبة العثور على كتب ليصبح مستعداً «أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر، فأنا أقرأ ليل نهار هذه اللغة اللاشعرية، بفضائلها التي لا تمسّني إطلاقاً: لغة البرد والأعصاب».

الكتاب يضم في أغلبه رسائل بولص، في حين أن رسائل سعادة بقيت في يد من يمتلكون أرشيف الشاعر العراقي، ولا ندري إن كنا سنصل إليها، وعوضاً عنها نجد في المؤلّف تلك القصائد التي كتبها سعادة لصديقه، إضافة إلى مرثيتين كتبهما فيه بعد وفاته، ونبذة عن حياة الشاعرين، وصوراً تجمعهما.

يكتب وديع سعادة أن «العلاقة المتينة بيني وبين سركون بولص لم تكن علاقة صداقة، بل علاقة شعرية عميقة في فهمنا المشترك للشعر، بما هو ليس عملية كتابية فحسب، بل أسلوب حياة أيضاً. لم يكن سركون شاعراً فقط في الكتابة، بل كذلك في أسلوب حياته. لم يكتب الشعر فحسب، بل عاشه أيضاً».

ويصف الناشر سليمان بختي الكتاب بأنه «قطعة من حياة ربطت شاعرين... ولربما آخر ما تصفّى من أدب التراسل على الورق بين الشعراء والأدباء».

ويعتبر بختي في مقدمته أن الشاعرين من أركان جيل ما بعد مجلة «شعر» وروادها الذين غيّروا وجه الشعر العربي الحديث وأسّسوا قصيدة النثر. وهما من الجيل الذي رسّخ قصيدة النثر في الشعر العربي الحديث. و«من خلال رسائل سركون بولص (1944-2007) إلى وديع، أو من خلال الكلمات والقصائد التي كتبها وديع سعادة مهداة إليه، أو في وداعه ورثائه، نلمس مبلغ عمق الصداقة والهم الواحد والنظرة المشتركة إلى الوجود والحياة والشعر». ويشيد بختي بتلك الشفافية الجارحة والنبرة العالية، فيما يخطه بولص لصديقه.

واحدة من المسائل اللافتة التي عادة ما يعود إليها بولص في رسائله هي دور المثقف، واستقلاليته، وصدقه. يكتب لصديقه غاضباً، بعبارات متمردة: «لا تكن مثقفاً يجمع أقنعة ويقرأ المشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج، أو لست أعرف من، أو كامو أو بودلير أو بوذا أو الشيطان... ولا تكن حتى أنت! وابصق على المثقف الغبي الذي يحاضرك عن (معرفة النفس) وباقي الخرق الثقافية الأخرى».

تدهشك هذه النزعة الطوباوية الأخاذة، وهو يريد للمثقف ألا يكون شيئاً آخر غير «أناه» المطهّرة من كل ما حولها، راغباً في التخفف من الأحمال. يكتب في إحدى رسائله عن غضب لا يستطيع أن يقاومه، حين تخطر له «جميع الأفكار الخاطئة التي تتسرب في وطننا وبين مثقفينا عن الفكر الأوروبي وعن الثقافة الأوروبية، وذلك عن طريق مجموعة معدودة من الكتاب المسيطرين على المجلات والذين ليس لهم حق في ذلك». ويعتبر أن «الثقافة» هي «حلم يتغذّى عليه تلاميذ الجامعة ذوو النظارات الطبية والشعراء الذين يعالجون (مسائل العصر) بجبين مقطب». أما الشيء الوحيد الذي يستحق المعالجة في رأيه فهو «أن تفتح فمك فجأة وأنت في الشارع ومن حولك طنين الخلية الإنسانية وتقذف من أحشائك ذلك البركان الذي هو أنت. وبعد ذلك تستطيع أن تقف لمدة نصف ساعة مراقباً بدهشة (أناك) المحترقة وهي تتسلق أكتاف البشر وتدخل أنوفهم الضائعة».

أي سخط حمله هذا الشاعر؟ وأي عبثية؟ وأي شعور عميق بالمسؤولية؟ يذكرنا ما كتبه بولص حول دور المثقف، بتلك المُثل ونبل المبادئ التي سادت في سبعينات القرن الماضي؛ إذ يقول عن واجب الكاتب تجاه نفسه أولاً، بحثاً عن النور: «علينا أن نخترق هذا الدرع المميت؛ ثقب أو ثقبان ينبثق منهما الضوء ونعرف بيقين أن النهار هناك، إنه هناك! هذا ما حدث لي، ويمكنني القول إنني قد رأيت عدة ثقوب في ذلك الدرع، وعلى النور المتسرب منها أحيا الآن». شيء من الصوفية، وكثير من الغضب، والرغبة في التغيير، والانقلاب على الذات.

ومن جميل ما نقرأه في الرسائل هو حديثه عن مشاريعه الأدبية، وكثير منها لا أثر لها؛ رواية يكتبها بعنوان «صحراء العالم»، وتحضيره لدراسة عن الرواية الحديثة، ومجموعة من القصص، ورسالة طويلة عن السياسة والفكر في أميركا لتنشر في مجلة «مواقف»، ومجموعة شعرية بالإنجليزية.

في الجزء الثاني من الكتاب، عوضاً عن رسائل وديع الضائعة، نقرأ قصائده في صديقه سركون، يقول في إحداها:

أعطني رداءك يا سركون

بردتُ

أَدفئني قليلاً بترابك

ويعتبر أن بولص «هو شاعر اللامكان، الذي عبر أمكنة كثيرة (العراق، ولبنان، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا...)، لم يكن يعبر في الجغرافيا. كان يعبر في ذاته، عمودياً في الأعماق، وفي الغور هناك يحاول هدم الحدود بين الحلم والواقع».

ولأن اللغة أصبحت وطنه الافتراضي الوحيد المتبقي؛ فقد «حفر فيها عميقاً علّه يجد نفسه». ويتحدث سعادة عن العلاقة الحميمة بين سركون بولص وآلام شارل بودلير.

«بودلير الذي أبحر في باخرة نحو آسيا حاملاً آلامه، وكادت الباخرة تغرق به وبمن فيها، وصلت آلامه إلى سركون باكراً. فمن أوائل قصائده (آلام بودلير وصلتْ). إلا أن باخرة سركون لم تكن في البحر، بل في أحشائه: (هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي)».

إنني مستعد أن أشنق أميركياً مقابل صفحة واحدة عربية من الشعر!

سركون

واختار وديع سعادة قصائد مختارة اعتبر أنها تحمل في كلماتها أصداء من حكاية الصداقة التي جمعته ببولص، من بينها قصيدة «رفاق» التي يقول فيها:

لديك ما يكفي من ذكريات

كي يكون معك رفاق على هذا الحجر

اقعدْ

وسَلِّهمْ بالقصص

فهم مثلك شاخوا

وضجرون

قُصَّ عليهم حكاية المسافات

التي مهما مشت

تبقى في مكانها

أخبرْهم عن الجنّ الذي يلتهم أطفال القلب

عن القلب الذي مهما حَبِلَ

يبقى عاقراً

حدِّثْهم عن العشب الذي له عيون

وعن التراب الأعمى

عن الرياح التي كانت تريد أن تقول شيئاً

ولم تقلْ

وعن الفراشة البيضاء الصغيرة التي دقَّت على بابك في ذاك الشتاء

كي تدخل وتتدفأ...

وفي قصيدة «غيوم» يكتب وديع سعادة:

في عيونه غيوم

ويحدِّق في الأرض

علَّها تمطر

الكتاب لطيف؛ لأنه يجمع بين شاعرين، لكل منهما فرادته ومزاجه وشطحاته وسورياليته، لكنهما يلتقيان في اعتناقهما الشعر كأسلوب حياة، وليس كرديف أو موازٍ لها. ومع أن الكتاب يبقى ناقصاً تلك الرسائل التي سطّرها وديع في ردّه على سركون، فإن الوقت قد يكون كفيلاً بإظهار الضائع، وإعادة المفقود.