بعد 24 يوماً على ظهور الإصابة الأولى بفيروس «كوفيد-19» في إيطاليا، وبعد أن كان الخبراء يميلون إلى الاعتقاد بأن انتشار هذا الوباء سيبقى محصوراً في الصين، حيث كانت نقطة انطلاقه، لم يعد أحد يشكّ اليوم بأن العالم بأسره يواجه أزمة صحّية واقتصادية غير مسبوقة، لا أحد يملك القرائن أو المعطيات الكافية للتكهّن بتطوراتها وفداحة الخسائر التي قد تخلفها.
العقول الراجحة في الاتحاد الأوروبي تنادي منذ أيّام بالإسراع في اعتماد استراتيجية أوروبية موحّدة لمواجهة الأزمة الصحّية التي بات من الواضح أنها تخرج عن قدرة الدول على التصدّي لها منفردة، والاتفاق على حزمة من المساعدات المالية الكافية لمنع الخراب الاقتصادي الذي بدأ طيفه يلوح في الأفق.
وتفيد معلومات بأن المفوضيّة الأوروبية تناقش منذ صباح السبت خطة لإغلاق جميع المنافذ البرّية والجويّة والبحرية لدول الاتحاد، وإخضاعها لمراقبة مشدّدة. وتنكبّ على إعداد برنامج ضخم من المساعدات والتسهيلات المالية للحكومات، بعد أن تيقّنت من أن «كوفيد-19» قد يدفع القارة الأوروبية إلى هاوية اقتصادية لم تشهدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لكن الماكينة الأوروبية ما زالت بطيئة في التحرّك أمام الصدمات، رغم التحذيرات التي أطلقها كثيرون في السنوات الماضية من أنها غير مجهّزة لمواجهة الشدائد في الأيام العصيبة، وعليها الإسراع في اعتماد ما يلزم من إصلاحات لمعالجة هذه الثغرة الإجرائية التي تصبح بالغة الخطورة في الأزمات الصعبة، وتكشف الخاصرة الرخوة للمشروع الأوروبي الذي يترنح تحت وطأة الصدمات منذ سنوات.
إيطاليا، البلد الأوروبي الأقرب إلى بوّابة الخروج من الاتحاد، الذي يدفع الجزية الأكبر حتى الآن لانتشار الفيروس، يستغيث بجيرانه منذ بداية الأزمة، ويكاد يتسوّل مساعدتها. لكن الردّ يأتي، إذا أتى، متأخراً غير كافٍ، ناهيك من العراقيل التي وضعتها معظم الدول في وجه الإيطاليين الذين يشعرون بأنّهم يعاملون كمنبوذين في محيطهم.
رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، إنريكو ليتّا، قال إن «هذه الأزمة أخطر بكثير من كل سابقاتها، وسيتوقّف عليها مستقبل إيطاليا في الاتحاد الأوروبي»، ودعا إلى تشكيل حلف أوروبي تنضمّ إليه مجموعة الدول الصناعية السبع لمواجهة هذه «الحرب العالمية ضد الفيروس»، وحذّر من أن عدم التحرّك بشكل سريع منسّق سيؤدي إلى كارثة.
الأرقام الأخيرة عن انتشار الفيروس في إيطاليا سجّلت ارتفاعاً في عدد حالات الشفاء التام داخل المناطق التي تمّ عزلها في بداية الأزمة، رغم الارتفاع في الإصابات التي بلغت أمس 24700، وأعلى حصيلة يومية للوفيات، بلغت 1809. وأصبحت معظم مستشفيات الشمال على وشك إعلان عدم قدرتها على استقبال مزيد من المرضى. وفي ميلانو، يجري العمل على قدم وساق لإنشاء مستشفى ميداني ينتظر أن يكون جاهزاً نهاية هذه الأسبوع.
ويقول حاكم إقليم لومبارديا إن 10 في المائة من المصابين يحتاجون لعلاج في وحدات العناية الفائقة لفترة لا تقلّ عن 10 أيام بسبب الالتهاب الحاد في القصبات الهوائية، لكن عدد الأسرة في هذه الوحدات لا يتجاوز 950 أوشكت على النفاد، بعد الارتفاع الأخير في عدد الإصابات.
الفريق الطبي الصيني الذي رافق طائرة المساعدات التي قدّمتها بكّين إلى إيطاليا امتدح الإجراءات المعتمدة ضمن خطة الاحتواء الإيطالية، لكنه دعا إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات الصارمة للعزل ومنع التنقّل، وعدم الاكتفاء بدعوة المواطنين إلى التقيّد بها.
وما زالت السلطات الإيطالية تواجه صعوبات في فرض احترام إجراءات العزل وعدم التجوّل في المناطق الجنوبية، حيث يُخشـى ارتفاع عدد الإصابات في الأيام المقبلة. وكانت الحكومة قد ناشدت مواطني الجنوب الذين يعيشون في الشمال عدم السفر للالتحاق بعائلاتهم، بعد أن شهدت الأيام الماضية نزوحاً كثيفاً نحو بعض المدن الجنوبية.
الدولة الأوروبية الثانية من حيث عدد الإصابات، المرشّحة لموجة سريعة واسعة من الانتشار، هي إسبانيا التي أعلنت مساء السبت حالة الطوارئ العامة، وقرّرت عزل البلاد بشكل كلي لفترة 15 يوماً.
وكان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانتشيز قد خاطب مواطنيه، بعد جلسة استثنائية للحكومة دامت أكثر من 7 ساعات، وضعت خلالها خطة شاملة للمساعدات المالية والاقتصادية، وحدّدت تدابير العزل وإجراءات الطوارئ التي تضع جميع الأجهزة الأمنية، بما فيها المحلية والإقليمية، تحت سلطة الدولة المركزية، الأمر الذي أثار استياء الحكومتين الإقليميتين في كاتالونيا وبلاد الباسك، اللتين رغم ذلك أعلنتا عن استعدادهما للتعاون التام مع الحكومة المركزية.
وفي حين اقترب عدد الإصابات في إسبانيا من 8 آلاف، وتضاعف عدد الوفّيات في يوم واحد ليصل إلى 396، انتشرت دوريّات للجيش في المدن الرئيسية والمناطق التي توجد فيها بؤر للوباء، بهدف إنفاذ إجراءات الحجر وحظر التجوّل. وفي مدريد التي أقفرّت شوارعها بشكل تام، تقوم الشرطة بمراقبة الحركة المسموحة لأغراض التسوّق بالمواد الغذائية والأدوية، بعد أن استخدمت الطائرات المسيّرة لتنبيه المواطنين وتذكيرهم بالتدابير الواجب تطبيقها. وينصّ مرسوم إعلان حالة الطوارئ على عقوبات عند المخالفة تصل إلى السجن سنة، في حال تعريض حياة الآخرين للخطر.
وكانت جميع الصحف الإسبانية التي صدرت أمس (الأحد) قد حملت عنواناً واحداً كبيراً، هو «هذا الفيروس... سنوقفه متّحدين»، بينما أعلنت رئاسة الحكومة أن زوجة رئيس الوزراء مصابة بالفيروس، وأنها تخضع وزوجها لإجراءات الحجر الصحي المفروضة. ويذكر أن اثنين من أعضاء الحكومة، هما وزيرة المساواة ووزيرة الإدارة الإقليمية، مصابتان بالفيروس. وكان الديوان الملكي قد أعلن أن الملك فيليبي السادس وزوجته الملكة صوفيّا قد خضعا لاختبار الإصابة بالفيروس، بعد أن كانت الملكة قد التقت بإحدى الوزيرتين المصابتين، لكن لم يُكشف بعد عن نتيجة الاختبار.
وكانت فرنسا، التي اقترحت على المفوضية الأوروبية إقفال الحدود الخارجية للاتحاد، قد استمرّت في إجراء الانتخابات البلدية يوم أمس، رغم تحذيرات كثيرة من مخاطر هذه الخطوة التي أثارت انتقادات شديدة في الأوساط المحلية والأوروبية. وفي حين يُخشى أن تكون فرنسا تتجّه نحو اعتماد استراتيجية شبيهة بتلك التي اعتمدتها الحكومة البريطانية، أي التخلّي عن هدف احتواء الوباء لاعتباره مهمة مستحيلة، والاكتفاء بتأخير انتشاره، ليحصل خلال فترة طويلة تسمح للمنظومة الصحّية بمواجهته ضمن قدرته الاستيعابية، أعرب اختصاصيون أوروبيون عن مخاوفهم من نتائج هذه الاستراتيجية، في حال خروج الانتشار عن السيطرة. وكان وزير التربية الفرنسي قد صرّح بأنه لا يستبعد أن يتعرّض نصف السكّان للإصابة بالفيروس.
وفي حين تستعدّ فرنسا للحد من حركة المواصلات الداخلية البعيدة اعتباراً من مطلع هذا الأسبوع، بما يتيح لجميع المواطنين الراغبين العودة إلى منازلهم، قبل الانتقال إلى المرحلة التالية، كشفت مصادر صحافية بريطانية أن حكومة بوريس جونسون، التي جعلت حظر التجمعات الكبيرة مقصوراً على المسنّين في مرحلة أولى، تستعدّ لفرض حجر إلزامي على من تجاوزوا السبعين لفترة 4 أشهر، حتى في حال عدم إصابتهم بالفيروس. ويقول خبراء إن في ذلك مجازفة كبيرة، وإن خطوة كهذه من شأنها أن تؤثر على الدول الأوروبية الأخرى التي تعتمد خططاً مختلفة كلـياً. وكانت الملكة إليزابيت وزوجه الأمير فيليب قد غادرا قصر باكنغهام إلى قصر وندسور خارج العاصمة البريطانية.
أما النمسا، التي كانت أولى الدول التي فرضت إجراءات شديدة على دخول أراضيها من إيطاليا، فقد قررت أخيراً هي أيضاً اعتماد النموذج الإيطالي، وأعلن المستشار سيباستيان كورتز الإغلاق التام للحدود البرّية والجوّية، واستدعى جنود الاحتياط الذين أدّوا الخدمة العسكرية في السنوات الخمس المنصرمة للانضمام إلى أجهزة الأمن لتطبيق خطة الطوارئ المقررة حتى منتصف الشهر المقبل.
وفي برلين، كشفت صحيفة «بيلد» الواسعة الانتشار، مساء أمس (الأحد)، أن الحكومة الألمانية تدرس إقفال الحدود مع فرنسا وسويسرا والنمسا، بعد أن كانت المستشارة أنجيلا ميركل قد أعلنت عن خطة لا سابقة لها لمواجهة التداعيات الاقتصادية المرتقبة لأزمة «كوفيد-19». وكانت ميركل قد وعدت بتقديم مساعدات مالية بلا حدود للشركات الألمانية، لتمكينها من الصمود أمام الكارثة المعلنة. ويقدّر الخبراء هذه المساعدات بنحو 550 مليار يورو.
المشروع الأوروبي مهدد بتباين استجابة دوله للوباء
إسبانيا والنمسا تميلان للنموذج الإيطالي مع تضاعف الوفيات والإصابات
المشروع الأوروبي مهدد بتباين استجابة دوله للوباء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة