محاكاة الوباء سردياً

فتحي إمبابي يجسدها في «مستعمرة الجذام»

محاكاة الوباء سردياً
TT

محاكاة الوباء سردياً

محاكاة الوباء سردياً

تهيمن سردية الوباء وتحلل الأفكار والقيمة والمعنى على أجواء المجموعة القصصية «مستعمرة الجذام» للروائي فتحي إمبابي، الصادرة حديثاً عن دار «ابن رشد» بالقاهرة، وتبدو وكأنها محاكاة تهكمية لتداعيات الوباء، مختزلة عبر قصصها الخمس تحولات واقع أصبح مشوهاً ومضطرباً ومخيفاً، لا جدوى فيه للصعود والهبوط بكل دلالتهما الطبقية والنفسية، سوى إحساس ممض بانعدام الأمل والطمأنينة... وقائع وأحداث بعضها واقعي حتى النخاع، يكاد يكون توثيقاً لتجارب خاضها البطل السارد الرئيسي، وأخرى تشارف تخوم الفانتازيا والأسطورة والواقع الافتراضي، مسكونة بروح من العبث والتهكم والسخرية، إنه زمن المسخ، مسخ كل شيء، الكائنات والأحلام والشعارات والنضال والثورات، بينما ينحصر صراع الإنسان وسط كل هذا في مجرد الحافظ على كينونته، وإحساسه بأنه ينتمي لجنس البشر. ومن ثم لا تقتصر رمزية الجذام، هذا الوباء الفتاك، على سكان البرك والمستنقعات الذين تحولوا تحت وطأة المرض إلى زواحف وقوارض، بل تمتد هذه الرمزية إلى سكان الأطراف من الطبقة العليا، المحيطين بحواشي الحكم والسلطة، وسط إحساس بالخوف والهلع يطارد الجميع، بينما تبرز الغرابة المقلقة، وكأنها قانون اللعبة، حيث يتسابق أبطالها في صناعتها وتدويرها لتصبح على مقاسه فقط، وطوع مصالحه ونزواته.
في القصة الأولى «الرجال الطبيعيون» يحدد صراع السطح والأعماق طبيعة الشخوص ونظرتهم للمستقبل وواقع الحياة من حولهم، وسط أجواء تتحول إلى كابوس بين أشخاص طبيعيين ممتلئين بذواتهم وأدوارهم، وآخرين متسلقين يبحثون عن دور، وعبثاً تحاول الذات الساردة فيما يشبه النجوى الداخلية الشجية أن تزيح عن كاهلها ظلال هذا الكابوس، فلا يبقى أمامها سوى السخرية منه، كقناع للتكيف والإذعان، يقول السارد الكاتب بعين الراوي العليم (ص 6): «لعنه الله على الذين ملأوا عقولنا بالآلهة الأبطال. وصراع الطبقات والأخلاق المستقيمة، وتلك الأساطير المسماة بالوطن والشعب، والطبقات الكادحة... الآن يتخبط الجميع هرباً من ذلك الانحدار الدامي وطلباً للصعود. الآن لا ألتقي سوى بالنوع الجديد من الرجال الصاعدين، ونحن لا نزال نتمسك بما يثقلنا عن الصعود لضوء شمس جديدة... إذ قيل لنا إن الشمس التي أمدتنا بالضوء لم تكن سوى شمس كاذبة..
ويستطرد الراوي، متسائلاً:
كيف يمكن؟
منذ أن بدأ هذا السؤال يطرق عقلي، وأنا أحث الجميع على التكيف مع الشمس الجديدة. الوحيد الذي كان متمسكاً بشمس الزيف هو أنا، ربما عن عجز، ربما أن هناك مثلي آخرين لا أعرفهم، وإذا ما التقيت بأحدهم، فسرعان ما تدفعه بعيداً قوة جذب قاهرة..»... لكن، من يملك الحقيقة بالضبط، ومن يصنع الوهم بها أو يتاجر بالاثنين معاً، ثم من يملك الإزاحة عما كان إلى ما سيكون، من يملك صناعة المستقبل، إنهم «الرجال الطبيعيون هم القادرون على أن ينشدوا الحياة من المستنقعات على جثث الضعفاء حين تغرق السفن» وهم أيضاً «الذين يستطيعون أن ينشدوا الحياة حتى لو كان الفساد طريقهم... أما أولئك الذين يقضون حياتهم في سبيل الغير فهم المنكوبون بالبلاد، المباعون في أسواق الوهم والنخاسة، المنسحبون من حلبات الصراع، كي يقل أعداد الناجين في حلبة الحياة، لتعظيم الفائدة... فماذا أبقي عليَّ... في دار الموت هذه... لست أعرف بالضبط».
هذا الشكل المدمر لقدرة الذات، لا يتمثل فقط في عجزها عن الانسحاب من الحياة، التي تحولت في زمن المسخ إلى دار للموت، وإنما يمتد إلى عجزها عن التساؤل والمراجعة. وكمحاولة للفكاك من هذا الكابوس، تطل فكرة القفز خارج المكان، لاستحضار الشبيه أو القرين أو الضد للمكان نفسه، وإضفاء مسحة من المصداقية على أجوائه الواقعية والمتخيلة، كما توسع من رقعة المشهد وسياقه المؤطر في نسيج السرد، ليشتبك مع حالات إنسانية أكثر اتساعاً وتعقيداً، تمنحه صفة الدوام والتناسل في دائرة من المقارنة الضمنية الشفيفة.
هكذا يبدو الحال في قصة «عزيزي تيمور... أيها المنتشر العظيم»، فالأحداث تقفز من المعتقل بحيزه الضيق كمعطى مكاني واقعي، لتشتبك مع حيوات أخرى أكثر رحابة واتساعاً في الخارج وفي الماضي، حيث تبرز القصة مشاهد من نضال الحركة الطلابية، عبر نخبة من رموزها من الطلاب والطالبات على رأسهم «تيمور الملواني»، وكيف يعيشون حياتهم داخل السجن، بما تنطوي عليها من مفارقات إنسانية، تعكس وجهاً آخر للنضال في مواجهة تعسف السلطة وقمعها... قصة عادية، بها نزوع توثيقي، يشبه المرثية للثورة، أو الثورات (ثورة الجوع وثورة الحرية وثورة الهوية) كما يرد في سياق النص. لكن الكاتب يدفع هذه المرثية إلى ما هو أبعد، ليشتبك السرد مع أسئلة الوجود والمصير، وكأنها صدى لجدلية الصعود والهبوط... «تتسع عيوننا بالاستغراب والغربة... يحدونا أمل بأن ثمة قاعاً للهاوية... ثمة لحظة للارتطام بالقاع... للتهشيم... فلا نجد سوى سقوط بلا قرار، سقوط بلا هاوية..»، في آخر النص يوسع القفز خارج المكان من فضاء هذه المرثية المكان، فيعلق في غبارها صور من رموز النضال في الماضي، «الحسين، وأخته السيدة زينب... وجيفارا»، تعضد هذه الرموز زمن القص الراهن، وتمنحه سمة الصيرورة الممتدة في التاريخ، يقول الكاتب مخاطباً رفيقه الملواني (ص28) «هل» مت بهدوء، أم أن جثتك مُثل بها، بعد أن سلخت في دروب مكة؟ هل مت معافى، أم أن إبهامك قُطع، قبل أن ينقل من أحراش بوليفيا إلى دهاليز المخابرات المركزية».
هذا الجو الذي يختلط فيه الوهم بالحقيقة، وتعلو الأسطورة كملاذ للخلاص، لا تسلم منه صبوات الجسد وغرائزه الطبيعية، فيتحول لقاء البطل بالمرأة ذات القوام والجمال الشهي الساحر إلى كابوس من الرعب، يتجرّعه على أنغام الموسيقي والشعر في القصة الثالثة «امرأة من مخمل»، حيث يبرز المشهد مرعباً، ويتناثر في ثنايا السرد، عابراً ضمير المتكلم الحاضر إلى ضمير الغائب المروي عنه كأنه كابوس يتنقل بعفوية وعادية من الداخل للخارج... «من كوة حائط جانبي أطلت رؤوس أطفال تربط بهم صلة دم، وقد بترت أعناقها، يمتصون من إبهامهم لبناً وردياً، خيط أحمر رفيع ينسكب من أفواههم اللينة الصغيرة على الأرض، مشكلاً كتلاً مخروطية لزجة من الدم المخثر... وللعجب كان دم».
إن الأمر لا يتعلق هنا بالمتخيل وطبيعته المرعبة اللامترامية، كما تجسده المجموعة، إنما يتعلق بواقع المتخيل نفسه، فكلاهما يفيض عن الآخر، ويلتصق به، ولا يقل رعباً عنه، كأنهما ابنا علاقة تنهض على التواطؤ، ما بين الماضي والحاضر، ما بين الذات والوجود، ليتسع أفق الغرابة المقلقة، ويصبح سمة طبيعة للكائن البشري.
يبرز هذا المنحى في قصة «المرأة الدينارية»، فالطبيبة الشابة بإحدى شركات الأدوية بجنوب البلاد تتوق للحظة من الحرية، ترفع عنها ربكة الأعراف والتقاليد المتزمتة، بينما يجسد ولع البطل المسؤول المتنفذ بقوامها الباذخ تحت نقابها الأسود الحريري الفضفاض تجسيداً لهذه اللحظ، فيسرب لها ورقة تنقذها هي وشركتها من تهم بالفساد والغش. وبعد أن تأنس له، وتجذبها شخصيته تسدد له ديونه التي طلبها في مقابل ذلك.
من العلامات الفنية اللافتة في هذه المجموعة الشيقة، الاحتفاء بالحضور الإنساني، حتى في أقصى لحظاته تناقضاً وتشوهاً، بخاصة في علاقته بالسلطة. وهو ما يطالعنا في قصة «مستعمرة الجذام» أطول القصص الخمس، حيث يبلغ التهكم والسخرية ذروتهما درامياً، من سلطة شائخة فاسدة تحولت إلى مستعمرة مليئة بالأوبئة والأمراض، لكن دائماً هناك جوقة تتمسح بها، لتنعم برضاها ومنافعها... يفضح التهكم كل هذا ويحوله إلى كرنفال من العبث، ويسرّب الكاتب السارد في طوايا السرد إشارات ورسائل ضمنية شديدة السخرية، عن معنى المثقف الحقيقي، وكيف تتحلل القيم والأفكار، وتصبح مرادفاً للفساد والتشيؤ، في مقابل رسالة أكثر عمقاً ونبلاً حرصت المجموعة على إبرازها، وهي أن سلطة المعرفة لا تنفصل عن سلطة الضمير.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!