ألبير كامو... الطاعون والعبث والحب

ارتفاع كبير في مبيعات روايات تتناول الأوبئة

ألبير كامو
ألبير كامو
TT

ألبير كامو... الطاعون والعبث والحب

ألبير كامو
ألبير كامو

تشير أرقام مبيعات الكتب إلى زيادة ملحوظة في الإقبال على الروايات التي تتحدث عن الأوبئة، وخاصة في إيطاليا، حيث تضاعفت مبيعات مثل هذا الروايات ثلاثة أضعاف.
ومن هذه الروايات، «ستاند» لستيفن كنغ، و«ووهان 44» لدين كونتز، التي صدرت عام 1981 التي، ويا للمفارقة، تتناول حصار مدينة بعدما هاجمها فايروس خيالي.
أما في بريطانيا، فقد سارعت دار «بنغوين» الشهيرة إلى إعادة طبع رواية «الطاعون» لبيير كامو، التي مر أكثر من 70 عاماً على صدورها عام 1947. والمعروف أن أحداثها تجري في وهران الجزائرية. ويصادف هذه الأيام أيضاً مرور 60 عاماً على رحيل كامو بحادث سيارة في العاصمة الفرنسية.
هنا قراءة في روية «الطاعون» ومجمل أعمال كامو وفكره.
بدا لبعض الوقت بأن ألبير كامو (1913 – 1960) الفيلسوف والروائي الفرنسي الشهير وملك أدب العبث المتوّج قد استنفد أغراضه وأصبح أسير الشّحوب، بعدما قتل النقّاد أعماله الأدبيّة تقديماً ومراجعة وتحليلاً، وصارت معاركه الفكريّة والأدبيّة والسياسيّة – بخاصة مع رفاق الوجوديّة الألمع جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار - أرشيفاً لمرحلة سابقة لم تعد اليوم ذات صلة اللهم إلا عند المتخصصين بتاريخ النظريّة والأدب، وثلّة من أسرى نوستالجيا القرن العشرين.
لكن الذّكرى الستين لغيابه المبكّر (عن 44 عاماً) أعادت الرجل إلى دائرة الاهتمام مجدداً، ليس فقط بسبب من تجدد المزاعم التي يرّوجها الكاتب والشاعر الإيطالي جيوفاني كاتيللي حول تآمر مخابراتي سوفياتي – فرنسي للتخلّص من صوت كامو العالي الذي كان يتسبب بصداع للطرفين من خلال انتقاداته المريرة للسياسات السوفياتيّة في وقت كانت فرنسا تحاول تجنّب عداوة موسكو، بل لراهنيّة مستعادة لأعماله الأدبيّة التي تطرح ببرود قاتل عبثيّة تجربة الوجود البشري برمتها وتستدعي كوابيسها، وفوق ذلك كلّه فلسفته بالتمرّد والثورة في مواجهة الأقدار المظلمة المحتمة كالتي انتهينا إليها - فردياً وجماعياً - في ديستوبيا العيش المسمى عصر الرأسماليّة المتأخرة هذا.
كان كامو – الذي حاز جائزة نوبل للآداب عام 1957 – قد ترك عدداً من المسرحيّات والروايات المفصليّة في تاريخ الأدب كـ«الغريب - 1942» و«الطاعون – 1947» و«السقطة 1956»، ضمنّها مواقفه الفلسفيّة الصادمة سرعان ما عُدّت - بعضها على الأقلّ - كلاسيكيّات خالدة تطرح ثيمات إنسانيّة عابرة للحدود والثقافات والأزمنة. عندما كتب مثلاً «الطّاعون» بعد الحرب العالميّة الثانية وقرأها كثيرون بوصفها سجلاً لأجواء مدينة باريس تحت الاحتلال لحظة خضوعها لألمانيا النازيّة - رغم أن مسرحها وفق الرّواية مدينة وهران بالجزائر (الفرنسيّة) المحتلة - رسم كامو – الذي ولد بالجزائر لأبوين فرنسيين وتلقى فيها تعليمه الجامعي - مشاهد قاتمة مستوحاة من أحداث حقيقيّة لتراكم القمامة وجثث الفئران والجراذين في الشوارع العامّة والبنايات السكنيّة متعددة الطوابق ما تلبث تتسبب بانتشار وبائي للطاعون بين سكان المدينة التي تُخضع عندها لحجر صحي عام فلا يسمح لأحد بالدخول إليها أو الخروج منها. وتناضل شخصيات أبطال الروايّة كلٌ على طريقته في مواجهة تكاد تكون عبثيّة مع الأوقات المظلمة فيما تتفاقم صناعة «الأخبار الكاذبة» لدى السلطات وفي الصحافة نكراناً لتفشي الوباء أو ادعاء محدوديّة تأثيره على صيغة «لا توجد فئران في هذه البناية» التي تفوه بها ناطور البناية فيما كان السكان أنفسهم يخرّون موتى من الطاعون. هذه الرّواية ولوهلة تبدو وكأنها تستلهم على المستوى الرّمزي المحض واقعنا المعاصر بكل سلبياته وإيجابياته في مواجهة الوباءات الجديدة من إيبولا إلى سارس، ومن حمى الوادي المتصدّع إلى كورونا.
لكنّها وكما كل عمل عظيم في دنيا الأدب تتجاوز غاية كاتبها المباشرة وتقدّم للأجيال قراءات مفتوحة على مستويات مجازية متعددة عن كل طاعون ممكن: الثّقافة المنحطّة، أو الأفكار الفاشيّة، أو الخزعبلات الدينيّة، أو حتى الرأسماليّة المتوحشة.
لكن ورغم هذا الموت الكثير المتناثر في «الطاعون» – كما غيرها من أعماله -، وكذلك سمعته القاهرة كفيلسوف كئيب يصارحنا بعبث تجربة العيش كلّها، إلا أنّ كامو في الحقيقة كان كمن يرسم شبابيك على السّتار الأسود الثقيل يتسرّب منها الضّوء. فبينما يقع «هاملت» شكسبير مثلاً في الحيرة، والجمود مع مواجهة صخب الحياة انتظاراً للموت المحتّم، فإن أبطال «الطّاعون» يختارون الانخراط في معركة يعلمون أنّها خاسرة بالمطلق، فيتمردون ثائرين على العبث بعيش حياة تستحق الاسم الذي تحمله: تمرّد أخذ في أعمال كامو المتلاحقة أشكالاً مختلفة: في الفنّ، والسياسة، والحبّ أيضاً. ألاّ تتمرد عنده، فتلك حالة «انتحار فلسفيّ» وهزيمة ذاتية تامّة وانحياز إلى العدم.
وإذا كان كامو وجهاً مألوفاً في فضاءات الثّورة والحريّة، فإن للمرء أن يتساءل عن حضوره - وهو من هو بين المتفلسفين المتشائمين - عبر فضاء الحبّ تحديداً، الأمر الذي لا يسهل القبض عليه في أعماله الأدبيّة عموماً. ولذا لا بدّ من التنقيب عبر تراثه المكتوب كلّه للوصول إلى مفهوم واضح لشبّاك الحبّ المقترح هذا، لا سيّما يومياته المنشورة، وحديثاً في رسائله الشخصيّة الكثيرة التي أفرج عنها للعموم حديثاً، ومنها 1400 صفحة من المراسلات الغراميّة الطابع مع عشيقته الإسبانيّة الأصل الممثلة ماريّا سيزاريس التي طُبعت في نسخة أنيقة بباريس، وطرحت احتفاء بالذكرى الستين لوفاته– رفقة ناشره بحادث السيّر المشؤوم - .
كتب كامو «إذا كان علي أن أضع يوماً كتاباً في الأخلاق، فسيكون في مائة صفحة تسع وتسعون منها خالية، وفي الصفحة الأخيرة سأكتب أنني أقرّ بنوع وحيد من الواجب الأخلاقيّ: أن نحبّ». والحبّ هنا لا مناص أبعد من أن يقتصر على مفهومه الرومانسي ليمتد لعلاقة الشغف الإيجابي تجاه الأبناء والأصدقاء والعائلة والمحيط - التي قد تكون أحياناً أكثر تطلباً من الحبّ بين رجل وامرأة - . فكامو سمح لنفسه فيما يبدو بتفسير خاص متفرد للحبّ الرومانسي تحديداً. فهو كان يحتفظ بثلاث عشيقات حسناوات يراوح بينهن بعد أن يطمئن على سفر زوجته وأولاده بالقطار.
ولذلك فإن استعادتنا له في فضاء الحبّ ينبغي أن تؤخذ على السياق الأعم. عنده الحب خيارٌ نقترفه بمحض إرادتنا في مواجهتنا القاسية مع العالم المشغول من عبث ليمنح فعل الحياة قيمة سيفتقدها من دونه بينما نحملق في هاوية الواقع التي تفغر فاهها أمامنا. ولعل شخصيّة سيزيف الأسطوريّة التي جعلها كامو ثيمة مقالته الفلسفيّة الطويلة «أسطورة سيزيف – 1942» تفسّر لنا تلك الصورة عن الحبّ. فملك كورانثوس الذي خَدع – وفق الميثولوجيا اليونانيّة القديمة - إله الموت ثاناتوس مما جلب عليه غضب زيوس كبير الآلهة، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل جبل إلى أعلاه، كلّما وصل القمة تدحرجت منه إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا إلى الأبد، رمزاً لعذاب البشريّة السرمديّ. لكّن كامو يراه أكثر متمرداً على عبث الوجود، اختار عمداً عشق الحياة حتى الثمالة، وهو يعلم أن ثمنها قد يكون باهظاً في حسابات الآلهة - الأسطوريّة -، ومع ذلك فهو يمضي عازماً، ولعله عندئذ لا يجد غضاضة بتقديم متطلبّات حبّه تعباً جميلاً مستمراً، من أجل عيون الحبيب. فالنضال ذاته في رحلة الصعود تلك كفيل بملء قلب الملك بالسعادة ونشوة الانتصار على الموت. فالعطاء المستمر لمن نحبّ – وفق كامو دائماً - ليس نوعاً من تكرار مضن لمهمات فرضتها الأقدار نؤديها بصمت وقبول، بل يجب أن يكون - فلسفياً – اتّباعاً واعياً لمسار مفعم بالشّغف المشتعل والمتجدّد والمعطاء والفخور مهما كانت تبعاته. أن تحبّ - وفق كامو - ليس استسلاماً للهوى، بل هو فعل إرادة تام ورفض إيجابي للانكسار، وانتصار للدمّ على جبروت سيف العبث الذي يهزأ بنا، ولا يتوقع منا إلا خضوعاً نهائيّاً ذليلاً. أن تختار الحبّ وأنت تعلم نهايته – ألماً، أو فاجعة فقدان الذين نحبهم – شجاعة تجعل من الانتصار على الموت ممكناً. هؤلاء الشجعان وحدهم – عند كامو – تليق بهم الحياة، ويليقون بها.


مقالات ذات صلة

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي
يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر
TT

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر

أم كلثوم وإديث بياف تحت مظلة الشعر

يستحضر الشاعر محمود سيف الدين صورة المغنية الفرنسية إديث بياف، ويسمي بها ديوانه «مرآة جديدة لإديت بياف»، وفي ظلال هذه الصورة المراوغة يتكثف فضاء الشجن والحزن في الديوان، بخاصة أن الحزن كان سمة لافتة في مسيرة هذه الفنانة التي تقلبت ما بين الفقر والتشرّد حتى تربعت على عرش الشهرة والمجد، ولقبت بأيقونة الغناء الفرنسي في ستينيات القرن الماضي، وحفزت أغنياتها روح المقاومة للاحتلال الألماني لبلادها إبان الحرب العالمية الثانية، وبالتوازي يستحضر عبر فصله الثاني «في حب الكوكب» صورة كوكب الشرق أم كلثوم، التي تربعت على عرش الغناء العربي أيضاً، ويتناص مع أغانيها في نسيج أغلب القصائد.

تحضر إديث بياف عبر نص وحيد في الديوان، وفي واقع مضطرب يختلط فيه الحزن بعبثية الحياة، بينما تمرح الذات الشاعرة بطفولة في أجواء أغاني أم كلثوم، وتكاد ترقص على إيقاعها، كأن ثمة فجوةً بين الصوتين، لم تنشغل بها الذات الشاعرة، أو تستثمرها شعرياً، في شكل حوار بينهما، الذي تعززه وتحيل إليه ظروف النشأة والروافد المتشابهة بينهما في الكفاح من أجل الفن، علماً بأن بياف أطلق عليها أحد الكتاب الفرنسيين «أم كلثوم فرنسا».

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل أراد الشاعر من وراء ذلك أن يحرر الصورتين معاً من محنة الإطار، ويجعل الغناء بمحمولاته الرمزية المغوية يسبح في هواء الديوان والحياة، تاركاً له حرية تشكيل العلاقة مع صورتيهما، ومع صور أخرى لأغانٍ شهيرة في أفلام سينمائية كلاسيكية يتناص معها الديوان، كأنها روح لحكاية ما، معلقة في فضاء الغرابة التي تشيع دلالتها في أجواء الديوان بطرائق فنية متنوعة تبرز على نحو لافت في بنية الصورة وإيقاع المشهد المسكون دائماً بفعل التذكر والحنين للماضي. فتحت مظلة الغرابة التي تتأرجح بثقلها وخفتها، ما بين الظن واليقين، يتكشف الشعر لنفسه، وتتخفف الأنا اللاهثة بين ضميري المتكلم والمخاطب، من شوائب الاستطراد والتبرير، وتصبح الغرابة مرآة خاصة للذات، ومفتاحاً لطرق أبواب العالم المسكون بها، ما يمنح المشهد الشعري حيوية لافتة في النظر إلى الطبيعة والتعامل مع العناصر والأشياء بإيقاعها اليومي الرتيب المباغت... يطالعنا هذا في نص «مرآة جديدة لإديث بياف»، الذي يمهد له الشاعر بنص يسبقه بعنوان «ضوء مبهم في الكراس» يلعب فيه على وتر الطفولة القصية ومحنة الحلم الدائم بها، فيما يأتي نص «بياف» لطشةً مأساويةً ومرثيةً لمشهد كأنه الأخير على مسرح الحياة... يقول النص الذي وسم عنوان الديوان:

لأنَّ يَدَ الرَّبيعِ مَغلُولةٌ إلى عُنقِهِ

الأيامُ البذيئة تمرُّ من الفتنةِ إلىَ الهَمَجِيَّةِ

وَالأغْنِيَةُ تَنهَارُ بَينَ يَديْنا فِي شِتَاءٍ مَا

المُسعِفُونَ دَائماً فِي الطَّريِقِ

لكنَّهُم لا يَصِلُوُنَ

قلبَانِ فِي نَحِيبٍ يَختَلِطُ مَعَ المطر

هَمْسٌ نَاءٍ وبكاءٌ نَحِيلٌ

وَقتٌ يتقلّصُ

حَيثُمَا نَذهَبُ هُنَاكَ طَوقٌ لأَلعَابِ الهَوَاءِ المَجنُونَةِ

ونَحنُ حَللنَا بهَيئَةٍ تَلعَبُ عَلَى صَخرَةِ اللوْنِ

مُوسِيقَى أخرَى

الأيَّامُ التِي لا نَعرِفُ سِوَاهَا

تُشبهُ فرصةً أخيرةً للوقوفِ على المَسرَحِ.

الحَياةُ ورديّةٌ في الزِّحَامِ المُتلاشْ

الطبيعةُ لا تكفُّ عن الثرثرةِ

الفوضى جُرحٌ هادئٌ في القلبِ

أوَدُّ لو أبصقُ قلبي مرةً

صرخة مُجَرَّدَة

كأنَّ المَدِينةَ ربّةُ الحَربِ

سهمٌ في قبضةٍ هُلامِيَّةٍ

لمَاذا إذن..

نَعتَنِي بالشَّمسِ البَعِيدَةِ عنْ أطرافِ أصَابِعِنَا

عَجينةُ الحبِّ نحنُ والشوارعُ تخبزُ عُيونَنَا

الحبُ الذي نجهلُ ضيَّعَنا

لم يُكلِّف خَاطِراً واحِداً للمُخَاطَرةِ

انْحِنَاءَةُ الطريقِ كاسْتِوَائِهَا

المُجونُ والظُّنونُ

إنها الأرضُ التِي نَظَرَتْ فِي مِرآتِهَا طَوِيل

وشَاهَدتْ فِي كلِّ مرةٍ

شبحاً جميلاً لإديث بياف

عيناً شَاخِصَةً... وحَنجَرةً

تختلط الغرابة باللوعة والأسى والإحساس بالفقد والوحدة، وتبدو إديث بياف التي لم يبق منها سوى «عين شاخصة وحنجرة» كأنها صدى لمرآة الأرض الأكثر اتساعاً ورسوخاً... فيما تومض صورة أخرى خافتة في الظل تبحث فيها الذات الشاعرة عن كينونتها ومرآتها الهاربة في غبار الأيام والفوضى والزحام والجنون، وكأنها تتعثر في حلم مشدود دائماً إلى الماضي، تحاول استعادته بقوة الشعر، وفي الوقت نفسه، تستأنس الغرابة وتلعب معها، كأرجوحة من أراجيح الطفولة والصبا والوجود... يقول في نص بعنوان «مباغتة» تتحول فيه الذات إلى مرآة للآخر:

انظرْ للطَّريقِ بعَينيكَ القَديمَتَينِ

اللَّتينِ تَركتُهُمَا جِوَار كوْمَةٍ منْ ألعَابِ الصِّبَا

تذكرْ؟

كنتَ مُتَعَجِّلاً وَقتَهَا

قَفزتَ إلى القِطَارِ البِلاسْتِيكِي

ولمْ يزَلْ فِي حِجرِكَ

أفلتَّ المَكابِحَ،

وأطلقْتَ نَفيرَ الشَّقَاوَةِ فِي أّذُنِ الأَرضِ

أرقتَها بأظفَارٍ نَبَشَتْ وَجهَ السَّفرِ

وعَبرَ هَذِهِ اللُّعبَةِ القَديمَةِ يَا هَذَا

بَاغَتتَكَ الأيَّامُ....

وجِئتَ إلىَ هُنَا

ببساطة شديدة ولغة سلسلة يتعامل الشاعر مع الغرابة، يرسم صورته وملامحه في ظلالها بلا تعقيدات ومفارقات شاسعة، فالغرابة تتراءى دائماً كصنو للحلم، صنو للأثر والحكاية، تشد الحواس والخيال إلى أفق أبعد وأعمق، مما يساهم في كسر منطق العلاقات التراتبية للزمن والأشياء، بحثاً عما يثير الدهشة وفي الوقت نفسه يثير الغرابة بشكل جديد... فلا بأس أن يرسم الشاعر باسمها هذه الصورة لنفسه التي تطالعنا في نص بعنوان «أحوال» يبدو فيه الشغف والحنين إلى المكان:

رأيتُني بائعَ عرقسوسٍ

في حيٍّ شعبيّ

كلمّا أملتُ الآنيةَ بعيداً عن الأكوابِ

تهدّلت قصائدُ للمِلاءَاتِ اللَّفِ

ونوافذِ العصرِ

والمشربياتِ

رأيتُني ربَابةً فوقَ كَتِفٍ جَنُوبِيِّ

ويداً تلوِّحُ فوقَ حبائلِ الصوتِ

لجدرانٍ تَحكِي مَا فَاتَ

رأيتُني نشيداً سَاحِلياً

على امتدادِ الشاطِئ

تتخفف الأنا اللاهثة في الديوان بين ضميري المتكلم والمخاطب من شوائب الاستطراد والتبرير وتصبح الغرابة مرآة خاصة للذات

الغرابة لا منطق لها، كل ما تفعله رجرجة الجسد وخطف العين إلى ما وراء المشهد، وما يتناثر في طوايا الداخل والخارج، وفي الوقت نفسه توفر فضاءً حيوياً للذات مفتوحاً على براح التخييل، تتصالح في ظلاله مع نفسها وضعفها وهشاشتها، متجنبة الاصطدام بالواقع والعالم الموحش من حولها. هنا تبزغ نقطة التلاقي العصية بينها وبين الشعر، وعلى نحو مكثف ومقطّر في الجزء الثالث الذي يشكل ختام الديوان بعنوان «زفرات معلّقة»، تتسرب كومضات شاردة في أصابع الزمن، وفي لطشات سريعة خاطفة تومض في شكل رسائل برق لا تتجاوز بضعة أسطر، مشكلة ما يمكن تسميته «خلاصة دفتر أحوال الغرابة»، ومنها: أنتيكة، في البدأ، فانوس سحري، لعبة، وفيها يقول:

الهَوَاءُ يَمُرُّ عَبرَ رِئَتِيْ هَذَا المِيزَانِ القَدِيمِ،

الرُّوُحُ فَوقَ كفَّةٍ والجَسَدُ فِي أُخرَىَ

تتأرجَحَانِ بلا وَازِعٍ من إرادَةٍ

وقَفَ أحدُهم فِي قَارِعَةِ السُّوقِ

يَكشِطُ الصَّدأَ مِنْ رَأسِ الزَّمَنِ ويُنَادِي:

مَنْ يَشتَرِي هَذِه الأنتِيكَةَ المُبهِجَة؟

...

الأعينُ الرَّمَادِيَّةُ

التِي سَالتْ منْ أقلامِنَا بيومٍ غَائِمٍ،

كَانتْ فِي البَدءِ عَصَافِيرَ ارتَعَدَتْ

فوقَ أسْلاكِ الكَهربَاءِ.

...

قلبُ الشعرِ فانوسٌ سحريّ

كُلّما مَسَسْتَ جِدَارَه

بلحظةٍ منتحبةٍ

أيقظتَ عِفرِيِتاً

يروي تبدّلَ الأيَّام

هكذا، تقف الغرابة في هذا الديوان الشيق على حافة الحلم بالشعر، بالحب، بالانعتاق من فوضى العالم والاشياء والذكريات، بحثاً عن معنى حقيقي في مرآة الجمال والحرية.