كيف أثرت الأهوال النازية على الأدب العبري؟

اغتراب وقلق وعدم ثقة بالآخر

كيف أثرت الأهوال النازية على الأدب العبري؟
TT

كيف أثرت الأهوال النازية على الأدب العبري؟

كيف أثرت الأهوال النازية على الأدب العبري؟

في كتابه «النازية في الأدب العبري الحديث» الصادر مؤخراً عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، يقسم الباحث المصري الدكتور جمال عبد السميع الشاذلي، أدب النازية إلى قسمين: الأول يعود لما قبل إقامة إسرائيل، ويعبر عن الأحداث النازية حسبما تناولها كتاب يهود كانوا يعيشون تحت وطأة النازية في أوروبا، ما بين 1933 - 1945، وتنوعت كتاباتهم بين القصص والشعر والمسرحيات وأدب الأطفال، وجاءت باليديشية والعبرية، ومنها 546 قصيدة كتبها 121 شاعراً، أغلبهم معرفون. وكانت أكثر المدن إنتاجاً للإبداعات العبرية المختلفة: «فيلنا»، و«لوداج»، و«وارسو»، و«بيالسيتوك» في بولندا، وتصدى لها - حسب الشاذلي - أكثر من 265 أديباً؛ لكن لم يتم نشر إلا القليل منها.
لكن كيف وصلت إبداعات اليهود إلى النقاد والدارسين؟ يقول الشاذلي: «إن السبيل إلى معرفة تلك الإبداعات جاء بسبب حفظها في أرشيفات خاصة ببعض الأدباء، كما قام النقل الشفاهي للشعر بدور كبير في ذلك؛ حيث كان اليهود ينشدون قصائدهم في جيتوهاتهم والمعسكرات. وكان هناك أيضاً بعض الإنتاج تم العثور عليه متفرقاً لدى بعض الكتاب بعد إطلاق سراحهم، وهناك أعمال طبعت أثناء الحرب، كما احتفظ البولنديون أثناء محنة النازية ببعض الإبداعات، وقاموا بإعادتها لأصحابها بعد إنقاذهم من معسكرات الاحتلال الألماني».
ورغم كل ذلك يشير الشاذلي إلى أن الجزء الأعظم من الإنتاج الأدبي العبري فقده أصحابه أثناء الحرب العالمية الثانية.
ولفت الشاذلي إلى أن الأدب المكتوب داخل فلسطين، في تلك الفترة، جاء على يد أدباء سمعوا عن الأحداث فاتجهوا إلى الكتابة عنها؛ لكن أعمالهم لم تكن كافية لتشكل أدباً معبراً عن الأحداث النازية، وقد كان تعرض الأدباء لها بصورة هامشية، كما أن بعضهم مثل حاييم هزاز (1898 – 1973) أهملها تماماً، ولم يلتفت لها في إبداعاته رغم وجوده في ذروة الأحداث، وقد كتب وقتها قصة «موعظة»، وموضوعها بعيد تماماً عن القضية النازية.
أما أدب النازية العبري الذي ظهر بعد إقامة دولة إسرائيل، فقد راح يتجه اتجاهاً آخر، وبدت موضوعاته تغزو معظم الأجناس الأدبية، وتركز في الدول الأوروبية التي خضعت للسيطرة النازية وكان اليهود يعيشون فيها. وقد برز من هؤلاء الشاعر البولندي يعقوب جلات شتاين، والليتواني سيزولاو ميلوشر، والمجري كانوي بيلنكس، والألماني ليو بائك، ومواطنته نيلي ساكس التي حصلت على جائزة «نوبل» في الآداب عام 1966. كما برز في مجال القصة الأميركي برونو بيتلهايم، والفرنسي أندريه شفارتس بارت، أما إيلي فيزل فيعتبر أبرز من اهتم في إبداعاته بقضايا النازية التي كان يعيش في أحد معسكرات اعتقالها وهو في الرابعة عشرة من عمره، والمدهش أنه كان يكتب بالفرنسية رغم أنه أميركي يعرف الإنجليزية، والأكثر إدهاشاً أنه ظل يكرر ما يقول إنه رآه بعينه من إلقاء الأطفال أحياء في حفر النازية، في محاولة منه لإقناع القارئ بأن ما يكتبه حقيقة وليس خيالاً إبداعياً. وقد كتب فيزل عدداً كبيراً من الروايات، أهمها «الليل»، وفيها يحكي ما كان يحدث لليهود على أيدي النازيين، و«الفجر» التي يصور فيها أثر النازية على شخصية يهودي نجا من أحد المعسكرات.
وتعرض المسرح أيضاً للقضايا نفسها، ففي ألمانيا كتب أرفين سلفانوس مسرحية «كورتشاك»، ومارتن فالسر مسرحية «شجرة البلوط وأنجودا» وخلال أحداثها يصف الكاتب الماضي النازي الذي ما زالت آثاره تظهر بعد الحرب، أما رولف هوكهوت فيدين في مسرحيته «النائب» صمت البابا عما جرى من أحداث، ويبعد الاتهامات عن الألمان، أما المسرح الفرنسي فلم يكن ببعيد عن القضية، وقد شهد تجربتين مسرحيتين، هما «السيد فوج» كتبتها ليليان أتلان، مطلع الستينات من القرن الماضي، و«من يقول الكلمات» للأديبة شارلوت دلبو، وكلتاهما تتعرضان لمخاوف النازية ومعسكرات الاعتقال.
أما عن المسرح الإنجليزي، فلم يكن منعزلاً عما دار، وقدم عدداً من الأعمال، منها: «الرجل في المركب الزجاجية» وكتبها روبرت شو عام 1967، و«هلاك» للكاتب جيم آلان، وقد كتبها بناء على وثائق محاكمة الدكتور رودولف كاستنر في إسرائيل عام 1953، وهو أحد قادة الحركة الصهيونية في هنغاريا، بتهمة التعاون مع النازيين مقابل إنقاذ مئات من أقربائه، والتضحية بأكثر من أربعة آلاف يهودي وإرسالهم إلى غرف الغاز، وقد كان الهدف من العرض المسرحي محاكمة الصهيونية أخلاقياً، من خلال محاكمة كاستنر والدكتور يارون، وإعادة طرح مسألة الصهيونية، من وجهة نظر يسارية أوروبية حديثة متقدمة، بعيداً عن طروحات اليسار التقليدي المتعاطف مع إسرائيل، باعتبارها دولة اليهود المضطهدين، انطلاقاً من عقدة ذنب تاريخية.
وعلى مدى فصول كتابه الستة، تحدث الشاذلي عن المسرح وتصديه لقضايا النازية، سواء في مرحلة ما قبل إسرائيل، أو ما بعد قيامها، ثم أفاض في الحديث عن النازية في القصة القصيرة، واهتمام أبرز كتابها أهارون أبلفلد في مجموعة «دخان» و«في الوادي الخصب» و«عاموس عوز» بالحديث عن تأثير النازية على الشخصية اليهودية، وجعلها جرس إنذار للحديث عن المخاطر التي تتهددها، وهو ما بدا واضحاً في قصتيه «دير الصامتين» و«كل الأنهار» وقد قدم خلالهما شخصيات غير مستقرة، مأزومة ومشوهة، تعيش حياة غربة وعزلة بمنأى عن المجتمع، بسبب ما عانته من تعذيب نفسي وجسدي.
هذه الآثار التي تحدث عنها المؤلف زاد عليها فصلاً آخر في كتابه، عنوانه «النازية والاغتراب»، يذكر فيه أن الأعمال الروائية التي ظهرت بداية من 1965 وعلى مدى عشر سنوات بعدها، ساهمت في تعميق الإحساس بالاغتراب لدى الشخصية اليهودية، كما يظهر في الرواية اليهودية الحديثة، وأدت إلى خلق هوة كبيرة بينها وبين ذاتها من ناحية وبينها وبين غيرها من ناحية أخرى، فضلاً عن فقدان الثقة، وهو ما بدا واضحاً عند روت ألموج في روايتها «أرض القضاء والقدر»، و«الجلد والقميص» للكاتب أهارون أبلفلد، وفيها يصور الإحساس بالعزلة حين يكتب عن الحياة بين زوجين، يسود الصمت بينهما، ويعايش كل منهما ذكرياته النازية، ما يجعل الزوجة تحاول الانتحار من شدة يأسها من حياتها مع زوجها، فقد سيطر عليها نوع من الاغتراب عن ذاتها وعن غيرها، وهو بالطبع يختلف عن الاغتراب المكاني الذي سعى لتصويره الكاتب حانوخ برطوف في روايته «المحتال».


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

معرض إيطالي لعشرات اللوحات الفنية المصادرة من المافيا (صور)

امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)
امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)
TT

معرض إيطالي لعشرات اللوحات الفنية المصادرة من المافيا (صور)

امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)
امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)

ينطلق في القصر الملكي في ميلانو «بالاتزو رياله»، يوم الثلاثاء، معرض فني يضم أكثر من 80 لوحة، بينها روائع تحمل توقيع سلفادور دالي، وآندي وارهول، وكريستو، وجورجيو دي شيريكو؛ كلها مصادرة من المافيا جرى إنقاذها على يد محققين متمرسين في تعقّب «الأموال القذرة».

وأوضحت المسؤولة المحلية في المنطقة ماريا روزاريا لاغانا، أن «الأعمال التي كان من المفترض أن تظل مدفونة في دوائر الجريمة المنظمة أُعيدت أخيراً إلى المجتمع لتلعب دوراً رمزياً في مقاومة الجريمة».

منذ سبتمبر (أيلول)، تدير لاغانا الوكالة الوطنية لإدارة الممتلكات المصادرة من عصابات الجريمة المنظمة التي توفّر منصة تتيح للمشترين توجيه أنظارهم إلى الممتلكات المصادرة، بما يشمل سيارات «فيراري» أو دراجات نارية من طراز «هارلي ديفيدسون».

وبينما تُباع هذه السلع بمزادات علنية وباتت في متناول الجميع، يُخصص جزء منها؛ مثل: الشقق، والمنازل، والأراضي الزراعية، مجاناً لمنظمات عامة وأخرى غير حكومية.

أما بالنسبة للأعمال المعروضة في ميلانو، «فهذه سلع كان من الممكن بيعها، لكن تم اختيار الاحتفاظ بها في المتاحف، لأن لها قيمة مهمة»، حسبما أوضحت لاغانا لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

«ولادة جديدة»

وقالت لاغانا: «إنها ولادة جديدة لهذه الأعمال، ويبدو الأمر كما لو كنا نُخرجها من الأرض، مثل علماء الآثار، لعرضها في أماكن يمكن للجميع رؤيتها فيها».

يحتوي المعرض الذي يحمل عنوان «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» على أكثر من عشرين عملاً تمت مصادرتها في عام 2016 من زعيم في مافيا «ندرانغيتا» النافذة في كالابريا.

امرأة تقف بجوار لوحتَي «بيازا دي إيطاليا» لجورجيو دي كيريكو و«كابانو سولا ريفا» لكارلو كارا في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (رويترز)

في الغرفة الصغيرة المخصصة للأعمال التي صادرتها محكمة ريجيو كالابريا، مطبوعة حجرية بالحبر الهندي لـ«روميو وجولييت»، بتوقيع الرسام السريالي الإسباني سلفادور دالي (1904 - 1989)، بجانب لوحة «ساحة إيطاليا» الزيتية اللافتة المرسومة على قماش بتوقيع المعلم الإيطالي جيورجيو دي شيريكو (1888 - 1978).

كما أن جدران الموقع مغطاة بقصاصات من صحف تشهد على هذه المضبوطات المذهلة، في حين مقاطع فيديو من الشرطة المالية في ريجيو كالابريا تُعرض بشكل متواصل عند مدخل المعرض.

ويأتي نحو ستين لوحة أخرى من عملية مصادرة أمرت بها محكمة روما في عام 2013 بصفتها جزءاً من عملية احتيال ضخمة مرتبطة بشبكة دولية لغسل الأموال.

ومن بين هذه الأعمال شاشة حريرية لنجم الفن الشعبي الأميركي آندي وارهول (1928 - 1987) بعنوان: «فنون الصيف في الحدائق»، وطباعة حجرية لـ«فينوس مغلفة» بتوقيع الفنان كريستو (1935 - 2020) لفيلا بورغيزي في روما.

امرأة تسير أمام تمثال «قرص به كرة» لأرنالدو بومودورو في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (رويترز)

وقالت لاغانا: «إبداع وجمال (الفن المتحرر) من الأيدي الإجرامية يتم تقديمه للرؤية الجماعية لتعزيز الثقافة، مع تحفيز الوعي بالطبيعة الخبيثة لآفة المافيا».

وتستخدم المافيا الأعمال الفنية المسروقة بوصفها عملة في تهريب المخدرات والأسلحة. ومن بين أبرز السرقات كانت لوحة «الميلاد مع القديسَيْن فرنسيس ولورانس»، وهي لوحة رسمها كارافاجيو، وسُرقت من كنيسة سان لورينزو في باليرمو عام 1969 وبقيت موضع عمليات بحث مذاك.

ويستمر المعرض الذي يمكن دخوله مجاناً حتى 26 يناير (كانون الثاني) في قصر «رياله» في ميلانو، قبل أن ينتقل إلى قصر الثقافة في ريجيو كالابريا، في الفترة من 8 فبراير (شباط) إلى 27 أبريل (نيسان).