«سد النهضة» الإثيوبي و«الخيارات الحرجة»

تعثر مسار المفاوضات دفع مصر لتصعيد النزاع دولياً

«سد النهضة» الإثيوبي و«الخيارات الحرجة»
TT

«سد النهضة» الإثيوبي و«الخيارات الحرجة»

«سد النهضة» الإثيوبي و«الخيارات الحرجة»

يبدو أن انسداد الأفق الذي يواجه المسار التفاوضي بين مصر وإثيوبيا، بشأن «سد النهضة»، قد فتح الباب أمام خيارات عدة، بعضها «حرج» لم يكن مطروحاً من قبل للعلن على مدار السنوات التسع الماضية، منذ إعلان أديس أبابا تدشين السد على الرافد الرئيسي لنهر النيل بمصر. فقد أشعل الرفض الإثيوبي للتوقيع على مسودة اتفاق أميركي نهاية فبراير (شباط) الماضي «حرب تصريحات»، تراشق فيها البلدان بيانات تلقي الاتهامات على الطرف الآخر، وتعلن تمسك كل منهما بما يصفه بـ«حقوقه». وهكذا، أخذ النزاع منحنى تصاعدياً خطيراً، أعاد للأذهان تحذيرات سابقة مما يطلق عليه «حروب المياه»، كما يقول مراقبون لـ«الشرق الأوسط»، طرحوا سيناريوهات سياسية وقانونية أيضاً للحل.

تخلفت إثيوبيا عن حضور اجتماع في العاصمة الأميركية واشنطن نهاية فبراير (شباط) الماضي، كان مخصصاً لإبرام اتفاق نهائي مع مصر والسودان، بخصوص قواعد ملء وتشغيل السد الذي تبينه أديس أبابا منذ 2011.
وحدها مصر، بين الدول الثلاث، أبدت تأييدها للاتفاق، واصفة إياه بأنه «عادل متوازن». وفي حين عدت القاهرة غياب أديس أبابا «متعمداً»، بهدف «إعاقة مسار المفاوضات»، ووصفته بأنه «مخالفة صريحة للقانون والأعراف الدولية، واتفاق إعلان المبادئ المبرم عام 2015».
الرفض الإثيوبي للاتفاق الذي جاء برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي تزامن مع لغة دبلوماسية أعنف لمسؤوليها، بدأت بإعلانها ملء خزان السد في يوليو (تموز) المقبل، أي بعد نحو 4 أشهر فقط، وهو الموقف الذي واجهته مصر بتكثيف تحركاتها الدبلوماسية لحشد دعم دولي لموقفها الرافض لأي إجراء «أحادي» يؤدي لأضرار على حصتها المائية في مياه نهر النيل.
وإمعاناً في التعنت الإثيوبي، قال رئيس الوزراء آبي أحمد إن «سد النهضة أصبح قضية شرف وطني؛ لن نتخلى عنه». وسبق كلامه تصريح لوزير الخارجية الإثيوبي، جاء فيه أن «الأرض أرضنا، والمياه مياهنا، والمال الذي يبنى به سد النهضة مالنا، ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه»، في خطابات شعبوية تستهدف حشد المواطنين.

- عامل توحيد وطني
تنظر إثيوبيا إلى السد بصفته عاملاً موحداً لمواطنيها الذين يعانون من صراعات إثنية وسياسية. وقالت الرئيسة ساهله - ورك زودي إن «سد النهضة الكبير هو نموذج لوحدتنا»، وأضافت: «هو أكثر من مجرد مشروع تنموي... إنه سلاحنا للتغلب على الفقر والأمل في التنمية المستقبلية».
وتقول إثيوبيا إن بناء السد الذي يتكلف نحو 4 مليارات دولار، والذي اكتمل بأكثر من 70 في المائة، ضروري من أجل تزويدها بالكهرباء، بينما تخشى مصر أن يؤثر المشروع على إمداداتها من النيل التي توفّر أكثر من 90 في المائة من المياه التي تحتاج إليها للشرب والري.
وقد شكل الغياب الإثيوبي ضربة قوية للمفاوضات التي ترعاها وزارة الخزانة الأميركية، ومعها البنك الدولي، منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، خاصة بعد التوصل لمسودة اتفاق أولية. ويرى الدكتور هاني رسلان، رئيس وحدة دول حوض النيل في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن موقف إثيوبيا يوضح أنها كانت تجلس للتباحث والتفاوض طوال السنوات الماضية بـ«سوء نيه كامل»، وتمارس عملية خداع واسعة النطاق، وأنها كانت تسعى فقط لاستهلاك الوقت وإتمام بناء السد.
وكان من المنتظر أن يحسم الاتفاق النقاط الخلافية بين مصر وإثيوبيا، خاصة في قواعد ملء الخزان في وقت الجفاف والجفاف الطويل. ووفق وزير الخارجية المصري سامح شكري، فإن «المفاوضات على مدى الأشهر الماضية جرى خلالها وضع مواد محددة قانونية وفنية، شارك فيها كل من الجانب السوداني والإثيوبي بوفود كبيرة، تضم خبراء في المجالات كافة»، وتوصلت إلى «تفاهمات وتوافقات على الغالبية العظمى منها... لكن أتت إثيوبيا في الجولة قبل الأخيرة وتشككت في بعض ما كانت قد أخطرت بموافقتها عليه، بينما كان هناك توافق على كل العناصر، ومنها الاتفاق الفني المرتبط بسنوات ملء الخزان، وبأي معدل».

- أبرز النقاط الخلافية
تعد تعبئة خزان السد، الذي تصل قدرته الاستيعابية إلى 74 مليار متر مكعب من المياه، بين أبرز النقاط الخلافية. لكن شكري أكد أن بلاده أبدت «مرونة، وقبلت جدول الملء الذي طرحته إثيوبيا، ووجدت أنها تستطيع أن تتعامل مع فكرة الملء الأول الذي يستغرق عامين، ثم بقية مراحل الملء التي تستغرق 4 سنوات، وفقاً لجدول محدد».
غير أنه استدرك قائلاً: «كان من الأهمية -فيما يتعلق بالملء- إدخال قواعد مرتبطة بما إذا أتى جفاف خلال فترة الملء، وكيف يؤثر هذا الجفاف على معدلات الملء»، مشيراً إلى أنه «تمت صياغة جميع هذه المحددات، والتوافق حولها، وتحديد جداول تحدد المياه القادمة، وكمية المياه التي يتم تصريفها، سواء في ظل الظروف الطبيعية أو في ظل ظروف الجفاف، ومراعاة ظروف الجفاف، حتى لا تتأثر كل من مصر والسودان بهذا الجفاف، ويتضاعف التأثر بعملية الملء».
«المواقف الإثيوبية الأخيرة جعلتها فاقدة تماماً للمصداقية دولياً، وأظهرت بجلاء أنها لا تريد فقط توليد الطاقة، بل تتصرف بصفتها مالكة للنهر»، كما يقول رسلان، الأمر الذي «يعرّض منطقة حوض النيل الشرقي لخطر الانزلاق إلى صراع طويل المدى، بعدما أثبتت مصر طوال السنوات الماضية، وبكل الوسائل، مدى حرصها على نهج التعاون، واقتسام المصالح، والتشارك في التنمية».
ثم إن «تحليل الخطاب السياسي الإثيوبي، بتوجهاته الشعبوية، تفصح إلى أنه من غير المرجح أن تتنازل القيادة الإثيوبية عن المضي قدماً في خططها الخاصة بإتمام المشروع، والالتزام بالإطار الزمني لملء الخزان»، كما يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتور حمدي عبد الرحمن، متابعاً أنه في حالة استمرار الجمود الراهن في المسار التفاوضي، يمكن أن تبدأ إثيوبيا عملية ملء سريعة للخزان، ما قد يتسبب في نقص كبير في نصيب مصر من مياه النيل، وربما يؤثر كذلك على إنتاج الطاقة الكهربائية.
وتشير تقديرات إلى إمكانية نقص الموارد المائية في مصر بنسبة 25 في المائة، وتراجع إنتاج الطاقة الكهربائية بنسبة 30 في المائة، في حالة تبني إثيوبيا سيناريو ملء الخزان خلال فترة 5 - 7 سنوات.

- العودة إلى الإطار القانوني
ويوضح عبد الرحمن أنه لا سبيل أمام التعنت الإثيوبي سوى تصحيح المسار، والعودة إلى الإطار القانوني والسياسي الذي يحمي حقوق مصر المائية، وفقاً للقانون الدولي، وهو ما يعني التمسك بقاعدة الإخطار المسبق. وهنا، ينبغي رفض الإصرار الإثيوبي الخاص بملكيتها للنيل الأزرق، بصفته نهراً إثيوبياً خالصاً. كما ينبغي التوصل لترتيبات قانونية ومؤسسية مرنة سريعة الاستجابة في المعاهدة التي يتم التفاوض عليها بشأن سد النهضة.
واستطاعت مصر أن تحصل على ثقة البنك الدولي والولايات المتحدة. ويقول مراقبون إن موقف القاهرة، وتوقيعها بالأحرف الأولى على مسودة الاتفاق الأميركي، في مقابل التعنت الإثيوبي، والانسحاب قبل التوقيع، «ورقة رابحة» يمكن استخدامها كتبرير لأي إجراء مستقبلي تعتزم مصر القيام به.

- خلاف مصري - سوداني
ومن ناحية أخرى، طرأ تغير كبير في المعادلة، بخروج الخلاف المصري - السوداني إلى العلن، ظهر بعدم توقيع السودان على اتفاق واشنطن، تبعه تحفظ السودان على قرار مجلس وزراء الخارجية العرب، برفض المساس بالحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل، أو الإضرار بمصالحها، وعده جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي العربي؛ وهو الموقف الذي ووجه باستنكار مصري.
وردّت الخارجية السودانية ببيان أنها فوجئت بقرار جامعة الدول العربية، وأنها تطلب من الدولتين (مصر وإثيوبيا) العودة للمفاوضات، فيما قالت الخارجية المصرية إن نص القرار وصل للسودان أول مارس (آذار)، ولم ترسل أي تعليق، وأن السودان سعى بعدها «لتفريغ النص من مضمونه».
وبدا أن القاهرة تسعى إلى احتواء خلافها مع السودان بخصوص مفاوضات سد النهضة، من خلال زيارة خاطفة أجراها رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل للخرطوم، الاثنين الماضي، كان عنوانها «الاطمئنان على رئيس وزراء السودان عبد الله حمدوك بعد تعرضه لمحاولة اغتيال». ويعتقد السفير صلاح حليمة، مساعد وزير الخارجية الأسبق، أن زيارة رئيس جهاز المخابرات قد تعيد التقارب بين البلدين، فيما يتعلق بمفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا، مشيراً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه في الغالب جرى تشاور في الملف، بهدف إزالة أي سوء فهم واستيضاح المواقف، بجانب القضايا الأمنية.
ووفق مراقبين، فإنه ما زالت أمام مصر حلول سياسية وقانونية، قبل الحديث عن أي خيارات خشنة، رغم ضيق الوقت، إذ يقول السفير جمال بيومي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، إن مصر لم تستخدم أوراقها كافة حتى الآن، وإن إدخال الولايات المتحدة كان خطوة إيجابية، رغم تعثر الاتفاق، فقد أظهرت مصر أمام العالم تعنت إثيوبيا، وجعلت واشنطن والبنك الدولي في صفها.

- القانون الدولي
الدكتور مفيد شهاب، أستاذ القانون الدولي الوزير المصري السابق، يشير إلى أن حصة مصر من مياه النيل يحميها كثير من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وأن مصر ملتزمة بكل الإجراءات الدبلوماسية للحفاظ على حقوقها، نافياً احتمالية «استخدام القوة».
ويضع الخبير القانوني بدائل أمام القاهرة، منوهاً بأن إشراك وسطاء دوليين جدد أمر مطروح، وكذلك الاستعانة بمنظمات إقليمية، يعقبها طرح المسألة على الجمعية العمومية للأمم المتحدة للحصول على إدانة ضد موقف إثيوبيا.
ويقول شهاب إن الدبلوماسية المصرية تدرس كل البدائل للوصول إلى حل، وعلى المستوى نفسه تدرس إمكانية ترشيد استغلال مياه النيل، مؤكداً أن نهر النيل يعد نهراً دولياً يمر بـ11 دولة، ما يجعل استغلال مياهه مشروط بمصالح باقي الدول. ويتابع أن المفاوضات تنجح في علاج 90 في المائة من النزاعات الدولية، يليها تدخل القوى الإقليمية، ثم التحكيم أو القضاء الدولي الذي يصدر حكماً نهائياً ملزماً للأطراف.
ومن جانب آخر «تستطيع إثيوبيا تسوية الخلاف فوراً، إذا ما قررت التخلي عن تعنتها، ووقعت على الاتفاق، بينما لا تملك مصر تقديم أي تنازلات أخرى»، بحسب الدكتور نصر الدين علام، وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق. وأضاف علام، الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط»، أن أديس أبابا حصلت بالفعل على اعتراف مصر بالسد بسعته الكبيرة، وكذلك تحمل أضرار الملء، لكنها ما زالت تطمع في الحصول على حصة مائية من «النيل الأزرق» (الرافد الرئيسي لنهر النيل في مصر)، لتوسعات زراعية مستقبلية، وبناء مزيد من السدود، وهو الأمر الذي يمثل خطاً أحمر للمفاوض المصري الذي لا يمكنه التخلي عن موارد الشعب من المياه.
وحسب علام «إذا ما استمر التعثر، تمتلك مصر أوراقاً عدة، من بينها: تحييد دور الولايات المتحدة والغرب في القضية، وترويج مصر لقضيتها، بما يمكنها من تحقيق أمنها المائي، وعدم التفريط في حقوقها»، محذراً من مغبة أي تصعيد في النزاع، خاصة أن منطقة القرن الأفريقي تعاني من هشاشة أمنية، ولا تحتمل أي أزمات إقليمية، كما أن إثيوبيا لديها أزمات داخلية.

- تحديات... وقواعد
حالياً تعاني مصر من «ندرة مائية». ووفقاً لوزير الموارد المائية محمد عبد العاطي، تواجه مصر تحديات كبيرة نتيجة محدودية الموارد المائية، وزيادة الاستخدامات، التي انخفض على أثرها نصيب الفرد نتيجة النمو السكاني المتزايد لأقل من 570م3- عام، بينما من المتوقع أن تؤدي التغيرات المناخية لانخفاض كمية الأمطار، وزيادة احتياجات المحاصيل الزراعية.
ويشير الدكتور محمد سامح عمرو، خبير القانون الدولي، إلى وجود قواعد دولية لا بد من احترامها، «وعلى أي دولة تريد عمل مشروع أياً كان على النهر، أن تخطر الدول الأخرى وتتشاور معها، وتتعاون معها للوصول إلى أفضل النتائج، مع الحفاظ على مبادئ الاستخدام المنصف العادل للنهر، وعدم الإضرار بالدول الأخرى، فلا يؤدي الموقع الجغرافي لدولة إلى الإضرار بدول أخرى».
وأضاف عمرو أن قواعد استخدام مياه الأنهار أكدتها المحاكم الدولية في أكثر من قضية، ومنها حكم محكمة العدل الدولية عام 1937، في نزاع بين إسبانيا ودولة مجاورة لها، أرست خلاله المحكمة كل مبادئ استخدام الأنهار. وأردف أن محكمة العدل الدولية تناولت عدداً كبيراً من القضايا حول استخدام الأنهار خلال السنوات العشرين الأخيرة، وهذا مؤشر على وجود مشكلات في استخدام المياه، وهي قضايا في أوروبا وأفريقيا، وبشكل كبير في أميركا اللاتينية، وهذا دليل على وجود قواعد القانون الدولي.

- الخيار العسكري
رسمياً، ترفض مصر التكلم عن أي خيار عسكري للتعامل مع النزاع، بل إنها وجهت اللوم إلى أبي أحمد عندما تحدث في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن «استعداد بلاده لحشد الملايين للدفاع عن السد» في مواجهة أي حرب، الأمر الذي اضطره لتقديم توضيح يؤكد أنه حديثه فهم على وجه خاطئ. لكن أيضاً، رغم ذلك، فإن استبعاد التعامل العسكري تماماً في أي مرحلة مقبلة أمر غير صحيح، بحسب مراقبين يشيرون إلى تلميحات مبطنة من الجانبين -ربما مجرد تلويح أو تهديد- تؤكد استعداد كل طرف للدفاع عما يعتقد كل طرف أنه «حقوقه» إلى أبعد الحدود، أو تعرض مصر للجفاف جراء حجز المياه خلف بحيرة سد النهضة الإثيوبي.
وتتعلق تلك التلميحات باجتماعات رفيعة عقدها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع القادة العسكريين في بلاده لمراجعة استعداد وخطط تأمين البلاد مع احتدام الأزمة، وهو الأمر الذي كرره أيضاً وزراء إثيوبيا الأسبوع الماضي. وقد استبعد السيسي، في أكثر من مناسبة، اللجوء إلى الخيار العسكري، مشيراً إلى أن مصر تعول دائماً على الحلول السلمية والدبلوماسية لمشكلة سد النهضة. لكن وزير الخارجية المصرية، في حواره مع التلفزيون قبل أسبوعين، صرح بأن «القيادة المصرية، متمثلة في أجهزتها، سوف تعمل وتجد الحلول المناسبة التي تحافظ على مصلحة مصر العليا».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.