محيي الدين ياسين... لاعب كرة الريشة «القَلِق»

رئيس وزراء ماليزيا الجديد تحت الضوء

محيي الدين ياسين... لاعب كرة الريشة «القَلِق»
TT

محيي الدين ياسين... لاعب كرة الريشة «القَلِق»

محيي الدين ياسين... لاعب كرة الريشة «القَلِق»

مُستعيراً بعض سمات رياضة كرة الريشة (البادمنتون) التي استهوته فلعبها شاباً، انسل محيي الدين ياسين رئيس وزراء ماليزيا الجديد بخفة وفي توقيت مثالي من التزامات «تحالف الأمل» الذي جمعه بحليفيه السابقين وغريميه الحاليين مهاتير محمد (95 سنة)، وأنور إبراهيم (72 سنة)، ليأخذ موقعه على كرسي طالما كان قريباً على البعد وبعيداً على القرب.
كان ياسين (73 سنة تقريباً) يعرف ما تقتضيه أصول كرة الريشة، وعبر مقاربة رياضية - سياسية رسم لنفسه خطة الحركة التي أوصلته مطلع هذا الشهر لرئاسة حكومة بلاده ليكون الثامن في تاريخها منذ الاستقلال عام 1957... في لعبته المفضلة تمتزج الكرة مع 14 ريشة تقريباً ورغم خفة وزن الواحدة منها؛ فإن غياب إحداها يخل حتماً بالتوازن، وهكذا كان الحال نفسه في ماليزيا متعددة الأعراق والإثنيات (ملاوية - صينية - هندية - أصول عربية وأوروبية) لا مستقبل لنجاح سياسي إلا بالتحالف؛ فمن يُحسن التمركز ويؤمن جبهة الحلفاء ويدير التناقضات فهو فقط الذي يستطيع أن يكون رأس الحربة.

يرى مراقبون أن محيي الدين ياسين، على ما يبدو، ضاق بدوره الوازن بين «المنافسين الكبيرين» مهاتير محمد وأنور إبراهيم، إذ إنهما أسسا تحالفهما على تعهد أُعلن عام 2018 - كان يقبله ياسين - بتبادل مقعد رئيس الوزراء بينهما بعد عامين، ليكون الدور أولاً لمهاتير، ويعقبه إبراهيم. غير أنه ومع قرب حلول موعد الاستحقاق ناور مهاتير رئيس الوزراء التاريخي للبلاد (1981 - 2003) بتقديم استقالته باحثاً عن ثقة برلمانية جديدة يتملص بها من تعهده القديم وينال شرعية لا ينازعه أحد عليه، لكن الرياح جرت بما تشتهي سفن ياسين، فقرر ملك البلاد تكليفه متخلصاً من ثنائية مهاتير - إبراهيم.

- البدايات
منذ مولد محيي الدين ياسين في مايو (أيار) 1945 كان كما بلاده عُرضة لمقادير مختلفة وإرادات متباينة، وفي ولاية جوهور الساحلية (أقصى جنوب ماليزيا)، وبينما كان ياسين ينطلق صارخاً للمرة الأولى، كانت ماليزيا موقعاً لنزاع عالمي على موازين القوى ومواقع السيطرة بعد أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها. فبريطانيا التي كانت المحتل السابق لماليزيا تسعى لاستعادة نفوذها بعدما تمكنت عدوتها اليابان من اقتناص مواقع استراتيجية مهمة بينها ماليزيا، ودارت رحى الحرب بين عدوين سيكون مكسب أيهما خسارة لياسين وأهل وطنه.
وبسبب تلاقي المسارات البحرية في ماليزيا، والقرب من مضيق ملقا البالغ الأهمية لحركة التجارة، عرفت ماليزيا تنوعاً إثنياً وعرقياً في السكان، فضلاً عن تعدد المحتلين. فمن الهولنديين إلى البرتغاليين ومروراً باليابانيين ووصولاً إلى البريطانيين قذفت أمواج المحيط المستعمرين إلى ماليزيا من كل حدب وصوب إلى أن تحقق الاستقلال. كل ذلك كله أثّر بشكل غير مباشر في سمات شخصية محيي الدين ياسين الذي تعلم الصبر على المغايرين، والكمون إلى جوار المتحالفين، وتحين الفرص، وطي الأيام دون نسيان الهدف، وربما درّب نفسه أكثر على الصيد الذي كان النشاط الأكبر لسكان ولاية جوهور حيث نشأ.

- كمون وتمرد
كما أقرانه، تلقى ياسين تعليماً محلياً ودرس الاقتصاد في جامعة الملايو، ثم التحق بشركات حكومية عدة. غير أن ديمومة الحركة السياسية في بلاده، نقلت تركيزه واهتمامه إلى ساحة البرلمان ليصبح نائباً عن مسقط رأسه وكان عمره 33 سنة. وتدرج بعد ذلك في مناصب محلية في ولاية جوهور، وذلك بسبب عضويته في التحالف الحزبي لـ«المنظمة الوطنية المتحدة للملايو» (أومنو) الذي حكم البلاد لنحو 6 عقود... وبعد سنوات سيشارك محيي الدين ياسين نفسه ومهاتير (القائد السابق لـ«أومنو») في إقصاء منظمتهم السابقة ممثلة في رئيس الوزراء نجيب رزاق والعودة للسلطة عام 2018 بأغلبية نالها «تحالف الأمل (باكتان)».

- سياسي طامح
ما تشربه ياسين صغيراً كان لا يزال يدور داخل رأسه، فالسياسي الطامح ملتزم بالكمون في موقعه وتحقيق مكاسب بطيئة ولكن دائمة. واستطاع العمل خلال 4 عقود مع 3 رؤساء للوزراء (مهاتير محمد، وعبد الله بدوي، ونجيب رزاق» رغم تباين سياساتهم، ونجح في أن ينال موقعاً بارزاً كرجل ثاني في الحكومة تحت اسم نائب رئيس الوزراء، فضلاً عن إدارته لحقائب مهمة منها التعليم والذي يسجل تاريخه فيها إلغاءه لتدريس الرياضيات والعلوم بالإنجليزية، وكذلك كان وزيراً الداخلية.
مسيرة محيي الدين ياسين لم تكن خالية من تمرد، لكن تقدم العمر والخبرة ومحاولة تدريب النفس نقلوا هواياته من كرة الريشة إلى الغولف، حسبما تحدث الرجل أمام «أكاديمية الولايات المتحدة للرياضة» خلال مراسم منحه الدكتوراه الفخرية عام 2013. واعتبر ياسين حينها أن رياضته الجديدة «ذات طابع علاجي تخلص المرء من ضغوطه العصبية».
غير أن الضغوط العصبية التي واجهها ياسين، كانت على ما يبدو أكبر من أن تخرج في ضربة بمضرب الغولف أو تمتصها الملاعب الخضراء الشاسعة، فلم يستطع منع نفسه وهو نائب لرئيس الوزراء من إعلان انتقاد مباشر لرئيسه نجيب رزاق، عام 2015 على ضوء «مخالفات وجرائم فساد في (الصندوق السيادي الماليزي)»، والتي ثبت فيما بعد صحتها.
كلّف ذلك الانتقاد، ياسين منصبه. ولم يكتف رزاق بإقالة ياسين من الحكومة تنكيلاً، بل أطاح به في عام 2016 من «حزب (أومنو)» الحاكم.
رغم هذه النكسة- لم يستسلم الرجل للإقالة وسرعان ما أسس «حزب السكان الأصليين المتحد (بيرساتو)»، مظهراً إصراراً على المضي بمسار معارضة نجيب رزاق، وأملاً في أن يكون حصاناً أسود يقصي غريمه رزاق ويخلفه في موقعه، أو على الأقل يسترد منصب نائب رئيس الوزراء.

- التقارب مع مهاتير
مع نمو أدلة «فساد رزاق» بتهمة اختلاس 700 مليون دولار من صندوق البلاد السيادي، تقارب ياسين مع مهاتير محمد، وانخرطا سوياً في حزب «بيرساتو»، الذي انضوى بدوره مع حزب «عدالة الشعب» وقائده أنور إبراهيم في تحالف تاريخي تمكّن من كسر شوكة «أومنو» الذي سيطر لستة عقود على السلطة، واستطاع هذا التحالف - «تحالف الأمل» - حسم الأغلبية التي أعادت مهاتير محمد لرئاسة الحكومة وهو في التسعينات من عمره، وبعد 15 سنة تقريباً من مغادرته المنصب واعتزاله السياسة.
ومرة أخرى وجد ياسين نفسه بين إرادات ومقادير لا يملكها، إذ مع تلقيه نبأ اعتقال نجيب رزاق، اكتشف ياسين أنه مريض بسرطان البنكرياس. وبالتالي، بدلاً من أن يكون في «المطبخ السياسي» لـ«تحالف الأمل» الذي منحه حقيبة وزارة الداخلية، ظل نحو 6 أشهر يتلقى العلاج الكيماوي في سنغافورة، بينما كان يعتقد أن مستقبله ينغلق ونهايته تقترب.
ألقت ظلال تجربة المرض الثقيلة بظلالها على مستقبل ياسين وأرجعته دون شك خطوات للوراء إذ لم يعد رقماً صعباً أو هكذا ظن حلفاؤه، وعاد لموقع الشراكة المتوارية في ظل الغريمين السابقين. في هذه الأثناء، بلغت ثقة كل من أنور إبراهيم ومهاتير محمد بقدرتهما على إدارة التحالفات البرلمانية، إلى إقرار «لعبة كراسي موسيقية» كانت تقتضي أن يغادر مهاتير موقعه بحلول منتصف عام 2020 على أن يخلفه إبراهيم لمدة سنتين. وكان محيي الدين ياسين رغم هزاله البادي يراقب بعين خبيرة منتظراً الفرصة، والتي بدا أنها جاءت بعدما تقدم مهاتير محمد باستقالته باحثاً عن إعادة تموضع لتحالفاته والنأي عن أنور إبراهيم، لكن سلطان البلاد وتحركات ياسين رسما مساراً جديداً ومفاجئاً.

- تلاقي الرغبات
أخيراً بدا أن بعضاً من الحظ توافق مع حسن التخطيط وصبا في مصلحة محيي الدين ياسين. إذ تلاقى أمله في رئاسة الوزراء، مع رغبة السلطان عبد الله السلطان أحمد شاه، الذي وصل لموقعه قبل شهرين فقط، ووجد نفسه مواجهاً لاستقالة مهاتير محمد، وما خلفته من ارتباك سياسي.
خلفية الموقف السلطاني الداعم لياسين، لا يمكن فهمها بمعزل عن الملابسات الدرامية والتراجيدية التي صاحبت تنازل السلطان السابق لماليزيا محمد الخامس عن العرش ليتزوج من ملكة جمال روسية، ولتختتم القصة بانفصال وإنكار لنسب طفل، في عاصفة طالت وقار مؤسسة السلطنة في البلاد.
وبحثاً عن الاستقرار المطلوب، وتأكيداً للحسم، وإظهاراً للجلد بعد تجربة السلطان السابق، دخل السلطان الجديد شاه أحمد، على خط أزمة شغور منصب رئيس الوزراء. وبينما كان الجميع يدخل في توقعات ثنائية بين مهاتير وإبراهيم، كلف السلطان، محيي الدين ياسين برئاسة الوزراء، ولقد استقبل الأخير النبأ ساجداً شاكراً على سجادة في منزله، بحسب ما أظهرت مقاطع مصورة بثها مقربون منه.
ورغم بعض الهجوم الذي طال الإجراء إلى الحد الذي وصفته صحيفة «الغارديان» البريطانية بـ«الانقلاب» واتهام مهاتير لياسين بـ«الخيانة»؛ فإن السلطان اعتبر الخطوة دستورية وأنها نتاج لقاءات مع أعضاء البرلمان وقادة الأحزاب السياسية، ومضي المسار إلى مرحلة أداء اليمين في مراسم رسمية.

- الرجل الثاني
استقام الأمر سلطانياً وسياسياً إذن لمحيي الدين ياسين، خصوصاً بعدما أقر سلفه «التسعيني» مهاتير، نهاية الأسبوع الماضي بأنه «لم يعد يسيطر على غالبية في البرلمان ولن يفوز في اقتراع بسحب الثقة من محيي الدين بعد أن تخلى عنه بعض مؤيديه للانضمام لمعسكر رئيس الوزراء الجديد».
شحذ ياسين خبراته القديمة لاعباً وسياسياً ومسؤولاً، وبدأ تسمية وزراء حكومته وكان من بينهم أعضاء في حزبه السابق «أومنو»، غير أن ملمحاً مهماً سيطر على اختياراته، إذ تحدث صراحة بشأنه قائلا: «بوجود هؤلاء الوزراء الكبار لن تكون هناك حاجة في الوقت الراهن لتعيين نائب رئيس للوزراء»... وهو المنصب نفسه الذي شغله مع رؤساء وزراء سابقين قبل أن يحل محلهم.
كرجل يتعافى من سرطان البنكرياس، فإن جسده النحيف بعد امتلاء يمكن أن يكون مقبولاً حيناً أو مثيراً للشفقة أحياناً. لكن ما أخفاه الزي الوطني الوقور الذي غطى قوام ياسين في جلسة حلف اليمين أمام الملك لا يبدو قادراً على منحة الثقة في تعضيد ولايته أو ضمان ولاء من هم حوله...
هل هو الخوف من درس التاريخ الذي عاصره ووضعه في موقع الرجل الثاني إلى أن تمكن من الوثب على مقعد رئيس الوزراء؟... أم هو «كعب أخيل» الذي يخشى أن تصل إليه من خلاله ضربة نهايته؟


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.