روما في كهف الغياب الجبري

شارع وسط روما خالٍ في اليوم الثالث من «الإغلاق» (أ.ف.ب)
شارع وسط روما خالٍ في اليوم الثالث من «الإغلاق» (أ.ف.ب)
TT

روما في كهف الغياب الجبري

شارع وسط روما خالٍ في اليوم الثالث من «الإغلاق» (أ.ف.ب)
شارع وسط روما خالٍ في اليوم الثالث من «الإغلاق» (أ.ف.ب)

ما هذا؟! روما مدينة الحياة التي لا تصمتُ فيها الأغاني التي تنبعثُ من دور الأوبرا، والمطاعم الكبيرة والصغيرة التي تتعدَّدُ وتتنوَّعُ، من المسماة بالطاولة الساخنة، ومطاعم الأسماك، وقطع اللحم المشوي الكبيرة، «الفيورنتينا»، والحانات التي تعجّ بالشباب. متاجر الألبسة وأنواع الأحذية والعطور. الشوارع التي تعجُّ بالبشر، والحدائق الزاهية بلون الحيوية يطوف بها الرجال والنساء، منهم مَن يركض ومَن يجلس مع الحميم يتبادلون الهمس. كل ذلك غائب اليوم عن روما مدينة الحياة والحركة والجمال. لقد أصدرَ كونتي رئيس الوزراء قراراً بإغلاق كل إيطاليا لمواجهة الحرب الصامتة التي شنَّها فيروس العصر، «كورونا»، على الدنيا، ودفعت إيطاليا فيها مئات الضحايا. لقد أُقفلت جميع المحلات باستثناء الصيدليات وأسواق المواد الغذائية. امتلأت المستشفيات بالمصابين بالفيروس، والذين في حلقة الشكّ. استدعت الحكومة الأطباء المتقاعدين وطلبة الامتياز بكليات الطب للالتحاق بالمستشفيات. الفيروس طال رئيس أركان الجيش الإيطالي الجنرال فارينا، وكذلك رئيس إقليم اللاتسيو الذي تقع به روما العاصمة وزعيم الحزب الديمقراطي المشارك في الحكومة، زنغاريتي. ضحايا الفيروس يقترب عددهم من الألف، والمصابون على حافة الأربعة عشر ألفاً في كل إيطاليا، لكن الفيروس الرهيب يندفع بقوة في كل أنحاء البلاد. النمسا المجاورة أغلقت حدودها مع إيطاليا، وكذلك سلوفينيا، وأغلب خطوط الطيران العالمية ألغت رحلاتها إلى المطارات الإيطالية. مباريات كرة القدم، وهي المعشوق الجماعي للإيطاليين، أوقفها الحكم القاسي المجهول بصافرة ألغت بعضها، وأمرت بأن يكون القليل منها من دون جمهور.
شوارع روما اليوم خالية من عشاقها، ومدينة الأشباح يتحصن أهلها ببيوتهم، في حالة لم تشهدها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية.

الهلع والأسى، رسم ملامح أخرى على الكوليسيو، المبنى الروماني التاريخي حيث كانت جولات المصارعة بين أسود بشرية وحيوانية. ذلك الصرح التاريخي المستدير، يطل اليوم على دنياه الرومانية مهجوراً خاوياً من آلاف الزائرين القادمين من كل فجاج الدنيا. نافورة الحلم «تريفي» التي يهفو إليها العاشقون، ويلقون بمائها العملات المعدنية، حلماً بمستقبل ملون بأطياف زاهية، هي الأخرى مهجورة بلا عشاق وعملات. ميدان إسبانيا في مركز العاصمة، حلقة شباب الدنيا حيث يجلس القادمون من كل القارات على درجاته الشاهقة، صار سلالم للصمت والغياب. حديقة برغيزي حيث يتحدث التاريخ في حضرة الأشجار وتماثيل العظماء من الفلاسفة والشعراء، ومن بينهم الشاعر المصري أحمد شوقي، خاوية على عروش حاضرها. لقد قهر الفيروس الحاضر والماضي، وتفوَّق على الدوتشي موسوليني، القائد الجبار الذي ركَّع الإيطاليين.
روما اليوم غادرت روما، بعضها في البيوت لا يخرج منها يتقي الهول الذي يجوس في كل مكان، وآخر يتحرك للضرورة بحذر شديد. ساحة القديس بطرس قلب مدينة «الفاتيكان»، حيث يطل البابا على آلاف المصلين كل يوم أحد، خالية من الداعين والمريدين، لم يعد بها سوى التماثيل الصامتة والأعمدة المرتفعة حول استدارة الساحة. حتى السجون ضرب فيها الفيروس ضربته. فرضت إجراءات احترازية فيها بسبب الفيروس، وقيدت الزيارات، فثار السجناء، مما تسبب في قتل كثير منهم وفرار آخرين.
الإيطاليون شعب اجتماعي متنوع ومترابط، يحب الحياة بكل معانيها وتفاصيلها. أخذوا من أوروبا الكثير وأعطوها أكثر منذ عصر النهضة، امتدوا على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، أعطوه وأخذوا منه، أهل الشمال الآريون وأهل الجنوب الفينيقيون بنوا في كل مكان وصلوا إليه المسارح والتماثيل، حاربوا وحُوربوا، أشعلوا فتيل النهضة التي ساح ضوؤها في كل أوروبا. الفنانون النحاتون، رافئيلي ومايكل أنغلو وغيرهما، غرسوا في الصخر والرؤوس أرجام عصر جديد. اخترع الإيطاليون البيتسا، والاسباغيتي، والقهوة الإكسبريسو وأرقى أنواع النبيذ، وسادوا ذوق البشر في الملابس، عبر مهرجانات الموضة، وفي دنيا السينما كانت لهم يد عالية، وكذلك في العطور. كل ذلك لم يقدم لهم اليوم درعاً يقيهم غزو أضعف كائن صامت فرض عليهم الإقامة الجبرية خلف جدران بيوتهم ينتظرون فجر العودة إلى دنياهم التي أنفق عليها أجدادهم وآباؤهم عقولهم وسواعدهم قروناً من الزمان.
بلا حراك صاخب يملأه الفرح والجمال واللقاء، لا تكون إيطاليا، وعن روما حدِّث ولا تسكت. كيف تكون والمطاعم مغلقة، وهي ليست مجرد مكان للأكل، بل هي ملتقى للتواصل الحميم والفرح الجماعي، والحانات حيث يلتقي الشباب الذين تنطلق ضحكاتهم ويتبادلون النكات والأحاديث بصوت عالٍ كعادة الإيطاليين، والمقاهي التي يندفع إليها الجميع في الصباح لتناول الكوبتشينو مع خبز الكورنيتو، النساء والرجال من كبار السن، كل يحمل صحيفته المفضلة التي أدمن قراءتها منذ سنوات، لا تطيب له رفقتها إلا في المقهى الذي يرتاده طيلة عمره.
روما اليوم في كهف الغياب الجبري. ألقاها به فيروس اجتاح إيطاليا من أقصاها إلى أقصاها. الاقتصاد يهتزُّ ويهزُّ معه ملامح المستقبل. السياحة هوت بغياب الزائرين الأجانب الذين يشكلون رافداً كبيراً للاقتصاد، وكذلك جزء من نسيج الناس، روما لا تكون إلا بالحضور الإنساني الجميل متعدد الجنسيات يطوف بمعالمها ويصنع عالمها. لا أرى اليوم في المقهى المقابل لمنزلي تلك التشكيلة من الشيوخ المتقاعدين، بينهم ضباط ومهندسون ومثقفون ورجال أعمال، اتخذوا من المكان منتدى يسترجعون فيه ما مضى من ذكريات وأحداث السنين. لقد ساح الفيروس الرهيب في الأمكنة والأزمنة، ودفع الجميع مكرهين إلى كهف الوحدة والصمت والترقب الكئيب. متى تعود روما إلى روما؟!


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

هل يمكن رفع عقوبات الأمم المتحدة عن «هيئة تحرير الشام» والجولاني؟

أبو محمد الجولاني يتحدث في الجامع الأموي بدمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
أبو محمد الجولاني يتحدث في الجامع الأموي بدمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
TT

هل يمكن رفع عقوبات الأمم المتحدة عن «هيئة تحرير الشام» والجولاني؟

أبو محمد الجولاني يتحدث في الجامع الأموي بدمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
أبو محمد الجولاني يتحدث في الجامع الأموي بدمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

تخضع «هيئة تحرير الشام»، التي قادت قوات المعارضة للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، لعقوبات من الأمم المتحدة منذ فترة طويلة، وهو ما وصفه المبعوث الخاص للمنظمة الدولية إلى سوريا غير بيدرسون، بأنه «عامل تعقيد لنا جميعاً».

كانت «هيئة تحرير الشام» تُعرف في السابق باسم «جبهة النصرة»، الجناح الرسمي لتنظيم «القاعدة» في سوريا، حتى قطعت العلاقات بالتنظيم في عام 2016. ومنذ مايو (أيار) 2014، أُدرجت الجماعة على قائمة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعقوبات تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، كما فُرض عليها تجميد عالمي للأصول وحظر أسلحة.

ويخضع عدد من أعضاء «هيئة تحرير الشام» أيضاً لعقوبات الأمم المتحدة مثل حظر السفر، وتجميد الأصول، وحظر الأسلحة، ومنهم زعيمها وقائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، المكنى «أبو محمد الجولاني»، المدرج على القائمة منذ يوليو (تموز) 2013.

وقال دبلوماسيون إنه لا يوجد حالياً أي مناقشات عن رفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على الجماعة. ولا تمنع العقوبات التواصل مع «هيئة تحرير الشام».

لماذا تفرض الأمم المتحدة عقوبات على «هيئة تحرير الشام» والجولاني؟ (رويترز)

لماذا تفرض الأمم المتحدة عقوبات على «هيئة تحرير الشام» والجولاني؟

فرضت الأمم المتحدة عقوبات على «جبهة النصرة»، لأن الجماعة مرتبطة بتنظيم «القاعدة»، ولأنها كانت «تشارك في تمويل أو تخطيط أو تسهيل أو إعداد أو ارتكاب أعمال أو أنشطة» مع «القاعدة» أو دعماً لها وتستقطب أفراداً وتدعم أنشطة «القاعدة».

وجاء في قائمة العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة: «في يناير (كانون الثاني) 2017، أنشأت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام)، وسيلة لتعزيز موقعها في التمرد السوري وتعزيز أهدافها باعتبارها فرعاً لتنظيم (القاعدة) في سوريا»... ورغم وصف ظهور «هيئة تحرير الشام» بطرق مختلفة (على سبيل المثال كاندماج أو تغيير في الاسم)، فإن جبهة «النصرة» استمرت في الهيمنة والعمل من خلال «هيئة تحرير الشام» في السعي لتحقيق أهدافها.

وفُرضت عقوبات على الجولاني بسبب ارتباطه بتنظيم «القاعدة» وعمله معه.

كيف يمكن رفع عقوبات الأمم المتحدة؟

تستطيع أي دولة عضو في الأمم المتحدة في أي وقت تقديم طلب لرفع العقوبات عن كيان أو شخص إلى لجنة عقوبات تنظيمي «داعش» و«القاعدة» التابعة لمجلس الأمن الدولي المؤلف من 15 دولة.

وإذا جاء الطلب من دولة لم تقترح في البداية فرض عقوبات الأمم المتحدة، فإن اللجنة تتخذ القرار بالإجماع.

وإذا تقدمت الدولة التي اقترحت في البداية فرض العقوبات بطلب الشطب من القائمة، فسيمحى الاسم من القائمة بعد 60 يوماً، ما لم توافق اللجنة بالإجماع على بقاء التدابير.

لكن إذا لم يتم التوصل إلى إجماع، يستطيع أحد الأعضاء أن يطلب إحالة الطلب إلى مجلس الأمن للتصويت عليه في غضون 60 يوماً.

ولم تتضح بعد الدول التي اقترحت فرض عقوبات على جبهة «النصرة» والجولاني.

ويستطيع أيضاً الشخص أو الكيان الخاضع للعقوبات أن يطلب إزالة التدابير عن طريق الاتصال بأمين عام المظالم، وهو منصب أنشأه المجلس في عام 2009، ليقوم بمراجعة الطلب.

وإذا أوصى أمين عام المظالم بإبقاء اسم ما على القائمة، فسيظل مدرجاً على القائمة. وإذا أوصى أمين عام المظالم بإزالة اسم ما، فسترفع العقوبات بعد عملية قد تستغرق ما يصل إلى 9 أشهر، ما لم توافق اللجنة في وقت أسبق بالإجماع على اتخاذ إجراء أو الإحالة إلى المجلس لتصويت محتمل.

هل هناك استثناءات من العقوبات؟

يستطيع الأشخاص الخاضعون لعقوبات الأمم المتحدة التقدم بطلب للحصول على إعفاءات فيما يتعلق بالسفر، وهو ما تقرره اللجنة بالإجماع.

ويقول المجلس إن عقوباته «لا تستهدف إحداث عواقب إنسانية تضر بالسكان المدنيين».

وهناك استثناء إنساني للأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة يسمح «بتوفير أو معالجة أو دفع الأموال أو الأصول المالية الأخرى أو الموارد الاقتصادية، أو توفير السلع والخدمات اللازمة لضمان تقديم المساعدات الإنسانية في الوقت المناسب، أو لمساندة الأنشطة الأخرى التي تدعم الاحتياجات الإنسانية الأساسية».