ثلاثة كتّاب حقيقيون داخل المكتب البيضاوي منذ تأسيس أميركا

أغلب كتب الرؤساء نادراً ما يكون لها علاقة بالأدب

ثلاثة كتّاب حقيقيون داخل المكتب البيضاوي منذ تأسيس أميركا
TT

ثلاثة كتّاب حقيقيون داخل المكتب البيضاوي منذ تأسيس أميركا

ثلاثة كتّاب حقيقيون داخل المكتب البيضاوي منذ تأسيس أميركا

«يا إلهي» كانت هي العبارة التي كتبها هاري ترومان بعفوية بالقلم الرصاص على مخطوط لشخص سيصبح سريعاً كاتب الظل الخفي السابق لمذكراته التي حملت عنوان «ياله من هراء». وكان ثيودور روزفلت، الذي انغمس بشكل بائس في سيرته الشخصية، قد كتب خطاباً إلى ابنته قال فيه: «أنا أعمل بعدم ذكاء محموم... كم أكره ذلك الآن». بينما شكا دون آدمز من أن «التكوين النثري» في أحد خطاباته المكتوبة مثير للأسى، قائلاً: «لقد كان مثل ضربة على المرفق أو الركبة». ونُقل عن دوايت آيزنهاور قوله، بينما يتأمل النسخة غير المنقحة من مذكراته ويراجعها مع مجموعة من المحررين: «أعتقد أن عليّ قبول تلك التركيبات النحوية الركيكة»، فرد أحد المحررين مذكّراً إياه: «إنها تركيباتك النحوية الركيكة». وتم إطلاق الرصاص من جهة الخلف على أول كاتب ظل لأندرو جاكسون في وسط مدينة تشارلستون، وتُوفي ثاني كاتب ظل بشكل مفاجئ بعد مرور بضعة أشهر على تلك الواقعة. على الجانب الآخر، تمثل قصة تيد سورنسن، الذي كتب تقريباً الجزء الأكبر أو ربما كل السيرة الشخصية لجون كينيدي والتي حملت اسم «صور من الشجاعة» وحازت على جائزة «بوليتزر»، ملحمة صغيرة من الوفاء وإنكار الذات.
الكتب التي يؤلفها رؤساء هي نوع من الكتابة المثيرة للجدل التي تجمع متفرقات عديدة، حيث يطْبق عليها ثقل التاريخ، ونادراً ما تكون لها علاقة بالأدب. لذا من الواجب شكر كريغ فيرمان على كتابه الممتع «المؤلف الكبير: القصة غير المروية عن رؤسائنا وما ألّفوه من كتب»، الذي يجمع بين الإيجاز والثراء في آن واحد. وقد صنّفت تلك الكتب ضمن صنف «كتب حملات انتخابية»، وهي تلك التي تم تأليفها قبل تولي مؤلفها المنصب، و«كتب الإرث» وهي تلك التي تمت كتابتها بعد تولي المؤلف للمنصب. وبطبيعة الحال، لم يكن الرؤساء هم من ألّفوا حقاً الكثير من كتب الحملات؛ فعلى سبيل المثال، كتاب «متنمرو الحكومة» لراند بول، الذي يحمل عنواناً رائعاً لكنه لم يحظَ بإعجاب، هو كتاب «سرق خمس صفحات متتالية من أحد إصدارات مركز فكري» كما يخبرنا فيرمان.
على الجانب الآخر تعد كتب الإرث، رغم عدم سلاسة سردها وطابعها المتفاخر وطريقتها البليدة في مخاطبة الأجيال القادمة، هي المجال الذي يعد حكراً على الرجال الكبار من الرؤساء. تتسم أحكام فيرمان بالحيوية حين يستخدم أوصافاً مثل «قمعية» و«دفاعية» (كتاب «موقع المراقبة» للينود جونسون)، و«متسرعة» و«جامحة» («حياتي» لبيل كلينتون). ويشير إلى أن الرداءة هي طابع أصيل في مذكرات الرؤساء، حيث يقول: «يحاول الكثير من الرؤساء عند كتابة مذكراتهم إخفاء كل شيء، والأسوأ من ذلك أنهم يحاولون تبرير كل شيء». وربما هذا هو ما يجعل تلك الكتب متفردة، حيث تزخر بالأقوال ثقيلة الظل.
لدى أكثر الرؤساء ملكة وموهبة لفظية بدرجة ما، ويتمتع بعضهم بالفصاحة على نحو غير متوقع. على سبيل المثال، كان كالفين كوليدج يتمتع بطلاقة لسان فريدة ومميزة، ومن أقواله: «لن تكفي الأجور أبداً سواء كانت كبيرة أو زهيدة، وكذلك المنازل والأراضي والقسائم، رغم أنها تتساقط بغزارة مثل أوراق الشجر في الخريف. للإنسان طبيعة روحانية، إذا لمسها سوف تستجيب له مثلما ينجذب المغناطيس نحو القطب». كان هذا مقتطفاً من خطاب له عام 1914 للترويج لكتابه، الذي ينتمي إلى ذلك النوع من كتب الحملات الانتخابية. كان ثيودور روزفلت مؤلفاً غزير الإنتاج. وكانت رغبة جون كينيدي في أن يتم النظر إليه كشخصية أدبية في سياق أدبي لا يضاهيه سوى تردده في إنتاج أدب حقيقي بنفسه، فقد كان كتابه «صور من الشجاعة» نتاج جهد سورنسن، وقام أرثر كروك من صحيفة «نيويورك تايمز» بإعادة صياغة أول كتاب لكينيدي «لماذا نامت إنجلترا؟» كما يوضح فيرمان.
مع ذلك أرى بحكم خبرتي في هذا المجال أن جدران البيت الأبيض لم تضم سوى ثلاثة كتّاب حقيقيين هم: جون كوينسي، وأبراهام لينكولن، وباراك أوباما.
تتضمن «المذكرات الشخصية» ليوليسيس غرانت مقتطفات تدل على مواهبه الأدبية، كما في هذه العبارة المذهلة: «لم يذهب إلى ميدان المعركة قوات أفضل من أولئك الرجال الذين أثبتوا كفاءتهم لاحقاً، لكنهم هربوا مذعورين لدى سماع أول رصاصات وطلقات مدفعية في مدينة شيلوه». كان غرانت يتمتع بالقدرة على الجمع بين الإيجاز والإسهاب، حيث كتب على سبيل المثال في أمر صادر للجنرال جون ماكليرناند في تشامبينز هيل: «حرِّر نفسك من قطارات الإمدادات؛ واختر موقعاً مناسباً، وانتبه للعدو». مع ذلك لا أستطيع وضع غرانت على قائمة الكتّاب الخاصة بي لأن ما كان يدفعه إلى الكتابة هو الظرف أو الموقف، وكان يقوم بذلك مستخدماً أسلوباً عسكرياً. كذلك كان الإفلاس دافعاً قوياً له، حيث ظهر كتاب «المذكرات الشخصية» كسلسلة من الذكريات العسكرية التي تم بيعها إلى مجلة «ذا سنشري» من أجل الحصول على نقود سريعاً. وتزامن ذلك مع إصابته بسرطان الحلق المميت، كذلك كانت لديه، نظراً لانتصاره في الحرب الأهلية، قصص أفضل من أكثر الرؤساء.
على العكس من ذلك، أراد جون كوينسي آدامز بشدة أن يصبح شاعراً، حيث تاق الرئيس السادس، وهو لا يزال في منصبه، إلى التمتع بوجود شعري موازٍ لمنصبه، وقد ساعدته أشعاره على تأسيس تقليد أدبي لبلده اليافع: «أريد صوت المدح الصادق أن يتبعني- ويتم تذكره في الأيام المقبلة- بوصفه صديقاً للبشرية»، وقد أحب رالف والدو إميرسون هذه القصيدة التي حملت عنوان «رغبات الإنسان». لقد أراد أن يكون «رجل الأعمال والتجارة ورجل القوافي معاً»، ألا يبدو هذا مثل حلم أميركي؟ على الجانب الآخر، كان لينكولن يدرس ويحفظ في مرحلة المراهقة حوارات من مسرحيات لشكسبير جمعها في كتاب تمهيدي بعنوان «دروس في الفصاحة».
كتب في دورية «سانغامو جورنال» بجنوب إلينوي في مارس (آذار) 1832 للمرة الأولى في سياق تقديم نفسه كمرشح لعضوية المجلس التشريعي للبلاد: «لقد ولدتُ، ومنذ ذلك الحين وأنا أسير في دروب الحياة الأكثر تواضعاً؛ فليست لديّ ثروة، أو علاقات اجتماعية قوية تعزز موقفي ووضعي.... إذا رأى الصالحون بعين حكمتهم أنه من الجيد إبقائي في الخلف، فقد باتت الإحباطات مألوفة بالنسبة لي إلى حد جعلني مكدراً للغاية». إنه يبدو هنا مثل ريتشارد الثالث. كان خطاب «أحلام من أبي» لأوباما خطاباً درامياً من نوع آخر، حيث كان ذا طابع روائي سردي يتسم بالوعي الذاتي، ويقف على حافة غضب مضطرب هادئ.
ينبغي القول إنه لا يوجد الكثير من الإثارة في مجموعة الكتب الرئاسية؛ فربما تجذب الاهتمام، لكن دونما إثارة، كما يوضح كتاب «المؤلف الكبير».
والآن نصل إلى ترمب، هناك كتاب يعكف على تأليفه في الوقت الراهن وهو مليء بالجمل الضعيفة، ومنها من تغريداته على موقع «تويتر»، التي تمنحها علامات التعجب المستخدمة بشكل مبالغ فيه دون كلل أو ملل طابعاً مضحكاً غريباً.

- خدمة «أتلانتيك أونلاين»



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.