التداعيات الاقتصادية الكارثية لانتشار «كورونا» تضع العولمة في قفص الاتّهام

عمال يتسلّمون كمامات قبل بدء مناوبتهم في مصنع للإلكترونيات في بكين (رويترز)
عمال يتسلّمون كمامات قبل بدء مناوبتهم في مصنع للإلكترونيات في بكين (رويترز)
TT

التداعيات الاقتصادية الكارثية لانتشار «كورونا» تضع العولمة في قفص الاتّهام

عمال يتسلّمون كمامات قبل بدء مناوبتهم في مصنع للإلكترونيات في بكين (رويترز)
عمال يتسلّمون كمامات قبل بدء مناوبتهم في مصنع للإلكترونيات في بكين (رويترز)

إذا كانت منظمة الصحة العالمية متحفظة في وصف فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19) بأنه «وباء»، ولم تتحدث عن خطر تحوّل انتشاره إلى ما يقع تحت تلك الكلمة المخيفة إلا بعد طول انتظار واستفحال انتشار، فإن أحداً من الخبراء الاقتصاديين لا يتردد في الحديث عن «وباء اقتصادي» سبّبه هذا الفيروس في طول الكرة الأرضية وعرضها.
والواقع أن «الفيروس التاجيّ» المقيت يضرب صحة الاقتصادات بالسرعة التي يصيب بها الناس، إن لم يكن بسرعة أكبر. وفي ظل تراجع البورصات العالمية الأساسية في كل من آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية، وتدنّي أسعار النفط، يمكن التحدّث عن خطر ركود كبير ناجم عن ضرر لحق بأساسات الاقتصاد في عدد كبير من مراكز القوى الرئيسية في العالم.
وفي نظرة سريعة وأولية مبنية على المعطيات الحالية، توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تراجع النمو الاقتصادي للعام 2020 في دول كبرى في طليعتها الصين التي كان متوقعاً أن تنمو أكثر من 6% ولن تصل الآن في أفضل الأحوال إلا إلى أقل من 5%. والأمر نفسه ينطبق على الولايات المتحدة (من فوق 2% إلى ما دون 2%)، ودول اليورو كلها (إلى ما دون 1%)، فيما يتوقع أن يتجاوز النمو في إيطاليا تحديداً الصفر في المائة بشق الأنفس.
وفي ظل الوضع الضبابي، ليس مستغرباً أن يبدي المستثمرون قلقاً ينعكس فوراً على البورصات العالمية حيث تلقت أسعار الأسهم ضربات كبيرة هي الأقسى منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.
وتتجه الأنظار حكماً إلى الصين التي تمثل ثلث النشاط الصناعي في العالم، كما أنها أكبر مصدّر للسلع في الكرة الأرضية. إلا أن الجهود الرامية إلى احتواء انتشار «كوفيد – 19» أوقفت عملياً عجلة الصناعة الصينية إلى درجة أن صور الأقمار الصناعية أظهرت تبدّد غيوم التلوث التي كانت تسببها النشاطات الصناعية.
في هذا السياق، قال ريتشارد بالدوين، أستاذ الاقتصاد الدولي بمعهد الدراسات العليا في جنيف، لمجلة «فورين بوليسي»، إن «هذا الفيروس معدٍ اقتصادياً كما هو معدٍ صحياً. إنه بمثابة ضربة ثلاثية لقطاع الصناعات التحويلية في معظم الاقتصادات الكبرى: من عمليات الإغلاق المباشر للكثير من المصانع الآسيوية، إلى تعطل سلسلة التوريد في أنحاء العالم، في موازاة انخفاض في الطلب على السيارات والإلكترونيات والعديد من السلع المصنّعة الأخرى مع اعتماد المستهلكين موقف التريّث في انتظار جلاء الأزمة». وأضاف أن «المشكلة الاقتصادية جسيمة لأنها تضرب الاقتصادات الكبرى. ولا شك في أن حجم الصدمة الاقتصادية أكبر مما رأيناه في ظل أي أزمة نجمت عن وباء شهده العالم».
ومن الأمثلة الصارخة على الأضرار الاقتصادية الجسيمة المتوقعة، تقدير الاتحاد الدولي للنقل الجوي (اياتا) بلوغ خسارة صناعة الطيران على مستوى العالم 29 مليار دولار بحلول نهاية السنة. إلا أن مجلة «فورتشن» نقلت عن خبراء أن الخسارة قد تكون أكبر بكثير وتتخطى 110 مليارات دولار. ومن الشركات التي دفعت ثمن الأزمة مبكراً «فلايبي» البريطانية التي توقفت عن العمل في 5 مارس (آذار) الجاري بعد تراجع دراماتيكي لعدد المسافرين.
عموماً، توقع خبراء شركة «بلومبرغ» أن تكلّف أزمة «كورونا» الاقتصاد العالمي 2.7 تريليون دولار، وهو رقم يعادل الناتج المحلي الإجمالي لدولة صناعية ذات اقتصاد متطور هي بريطانيا. ويكفي هنا النظر إلى الصين حيث انخفضت مبيعات السيارات بنسبة 80 ٪، وحركة المسافرين بنسبة 85 ٪ عن المستويات العادية. والواقع أن الاقتصاد الصيني توقف عملياً نحو شهرين، مع تحسن طفيف بدأ أخيراً مع احتواء انتشار المرض بفضل جهود مضنية. وإذا عادت الطاقة الإنتاجية في الصين إلى وضعها الطبيعي بحلول نهاية أبريل (نيسان)، فإن الصدمة الكبيرة التي عاناها الاقتصاد العالمي في النصف الأول من السنة سيتبعها مقدار من التعافي في النصف الثاني.
لكن لا يمكن أن نغفل هنا أن دولاً أخرى مؤثرة في الاقتصاد العالمي تضررت بشدة من تفشّي «كورونا»، وهي كوريا الجنوبية وإيطاليا واليابان وفرنسا وألمانيا. وإذا تفاقمت المشكلة في كل من الولايات المتحدة والهند والمملكة المتحدة وكندا والبرازيل، ستكون الاقتصادات العشرة الأكبر في العالم تعاني تباطؤاً حاداً في ظل سعيها لاحتواء الانتشار المحلي للفيروس.
وإذا كان من الضروري أن نستخلص من كل أزمة عبرة وأمثولة أو نفتح الباب على مسائل أخرى، يجدر القول بما لا لبس فيه إن الوباء القاتل أظهر أن العولمة أسقطت حدود الوقاية الصحية بين الدول في المقام الأول، وأن التداعيات الاقتصادية الكارثية للفيروس تثبت مدى عمق الترابط الاقتصادي العالمي. فهل تؤدي التداعيات الكاملة للفيروس – التي لا ندرك كل أبعادها حتى الآن – إلى انهيار العولمة أم أنها ستبقى واقعاً لا رجعة عنه؟

.


مقالات ذات صلة

هل يواصل الذهب اندفاعه في 2026؟ 3 سيناريوهات تحكم مصيره بعد قفزة الـ60 %

الاقتصاد سبائك ذهب وزنها أونصة واحدة معروضة بـ«ويتر كوينز» في سان فرانسيسكو (أ.ف.ب)

هل يواصل الذهب اندفاعه في 2026؟ 3 سيناريوهات تحكم مصيره بعد قفزة الـ60 %

شهد الذهب عام 2025 أداءً استثنائياً، وصفه تقرير توقعات الذهب لعام 2026، الصادر عن «مجلس الذهب العالمي» في ديسمبر (كانون الأول) 2025 بـ«الطفرة المدهشة».

«الشرق الأوسط» (لندن) «الشرق الأوسط» (لندن)
تحليل إخباري شعار «إيرباص» خلف نموذج لطائرة يورودرون خلال المعرض الدولي للفضاء في مطار برلين (د.ب.أ)

تحليل إخباري «إيرباص» تدفع ثمن الاعتماد المفرط على نموذج طائرة واحد

تلقت شركة «إيرباص» الأسبوع الماضي تذكيراً قاسياً بأن طائرتها الأكثر مبيعاً في العالم، وهي سلسلة «إيه 320»، ليست محصنة ضد الصدمات.

«الشرق الأوسط» (باريس)
الاقتصاد جانب من جلسة للبرلمان الأوروبي في ستراسبورغ (أ.ف.ب)

قلق خليجي من تبعات تشريعين أوروبيين لاستدامة الشركات

أعربت دول الخليج عن بالغ قلقها تجاه التشريعين الأوروبيين المعروفين بتوجيه العناية الواجبة لاستدامة الشركات، وتوجيه الإبلاغ عن استدامتها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد الرئيس دونالد ترمب محاطاً بعدد من كبار تنفيذيي صناعة السيارات الأميركية في المكتب البيضاوي يوم 3 ديسمبر الحالي (أ.ف.ب)

ترمب ينقلب على معايير «الكفاءة الخضراء»

في خطوة تُعدّ انقلاباً مباشراً على إرث إدارة جو بايدن، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، عن خطة شاملة لخفض معايير الكفاءة في استهلاك الوقود للسيارات والشاحنات.

إيلي يوسف (واشنطن)
الاقتصاد متداولون يعملون أمام شاشات المراقبة ببنك هانا في سيول (إ.ب.أ)

الأسهم الآسيوية تتباين وسط توقعات خفض الفائدة الأميركية

افتتحت الأسهم الآسيوية تداولات يوم الخميس بأداء متباين، بعد أن دعمت البيانات الاقتصادية الأضعف من المتوقع توقعات خفض «الاحتياطي الفيدرالي» أسعار الفائدة.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)

الأسواق الخليجية تترقب تحركات «الفيدرالي» وسط موجة صعود متقلبة

مستثمر يراقب تحركات الأسهم في السوق السعودية (أ.ف.ب)
مستثمر يراقب تحركات الأسهم في السوق السعودية (أ.ف.ب)
TT

الأسواق الخليجية تترقب تحركات «الفيدرالي» وسط موجة صعود متقلبة

مستثمر يراقب تحركات الأسهم في السوق السعودية (أ.ف.ب)
مستثمر يراقب تحركات الأسهم في السوق السعودية (أ.ف.ب)

شهدت أسواق الأسهم الخليجية ارتفاعاً ملحوظاً في أولى جلسات الأسبوع، متأثرة بتوقعات دعم محتمل من خفض الفائدة الأميركية وصعود أسعار النفط، بعد موجة من التراجع الأسبوع الماضي. فقد واصل المؤشر الرئيسي للبورصة السعودية «تاسي» الصعود للجلسة الثالثة على التوالي، مسجلاً مكاسب طفيفة عند 0.3 في المائة، بعد أن كان أغلق الأسبوع الماضي بخسائر للأسبوع الخامس على التوالي، في أطول موجة هبوط منذ نهاية 2022.

ويترقب المستثمرون قرار اجتماع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي المزمع يومي الثلاثاء والأربعاء، الذي قد يشهد خفض الفائدة للمرة الثالثة هذا العام لدعم سوق العمل المتباطئة، أو الإبقاء عليها مرتفعة لمواجهة التضخم الذي لا يزال أعلى من المستهدف، البالغ 2 في المائة.

وسط هذه البيئة، تمرُّ الأسواق الخليجية بمرحلة توازن دقيقة بين الضغوط الخارجية والفرص الداخلية، مع متابعة دقيقة لتحركات أسعار النفط والقرارات الاقتصادية الكبرى في المنطقة والعالم.


البنك المركزي الصيني يواصل تكديس الذهب للشهر الـ13 على التوالي

عرض سبائك الذهب بمعرض الصين الدولي للمجوهرات في بكين (إ.ب.أ)
عرض سبائك الذهب بمعرض الصين الدولي للمجوهرات في بكين (إ.ب.أ)
TT

البنك المركزي الصيني يواصل تكديس الذهب للشهر الـ13 على التوالي

عرض سبائك الذهب بمعرض الصين الدولي للمجوهرات في بكين (إ.ب.أ)
عرض سبائك الذهب بمعرض الصين الدولي للمجوهرات في بكين (إ.ب.أ)

واصلت الصين سياستها الهادفة إلى تعزيز مخزونها من الذهب، بينما سجلت احتياطاتها من النقد الأجنبي ارتفاعاً أبطأ مما كان متوقعاً خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وحافظت الصين على وتيرة إضافة الذهب إلى احتياطاتها المعدنية الثمينة، لتمدد بذلك موجة الشراء للشهر الـ13 على التوالي. وقد أظهرت بيانات «بنك الشعب الصيني» أن إجمالي حيازات البلاد من الذهب بلغ 74.12 مليون أوقية تروي فاخرة في نهاية نوفمبر، ارتفاعاً من 74.09 مليون أوقية في نهاية أكتوبر (تشرين الأول).

كما ارتفعت قيمة احتياطات الصين من الذهب بشكل ملحوظ لتصل إلى 310.65 مليار دولار في نهاية الشهر الماضي، صعوداً من 297.21 مليار دولار كانت مسجلة في نهاية أكتوبر. ويُعد هذا التكديس المستمر للذهب جزءاً من استراتيجية التنويع في ظل تصاعد حالة عدم اليقين العالمي.

في المقابل، سجَّلت احتياطات الصين من النقد الأجنبي، وهي الأكبر في العالم، ارتفاعاً أقل من التوقعات خلال نوفمبر. فقد ارتفعت الاحتياطات بمقدار 3 مليارات دولار الشهر الماضي لتصل إلى 3.346 تريليون دولار، مقارنة بـ3.343 تريليون دولار في أكتوبر.

وكان استطلاع أجرته «رويترز » قد توقَّع ارتفاع الاحتياطات إلى 3.359 تريليون دولار، مما يشير إلى أن الارتفاع الفعلي جاء أقل من تقديرات السوق. وجاء هذا الارتفاع المتواضع في ظل استئناف ضعف الدولار، حيث تراجع اليوان الصيني بنسبة 0.65 في المائة مقابل الدولار الشهر الماضي، بينما انخفض الدولار بنسبة 0.24 في المائة مقابل سلة من العملات الرئيسية الأخرى.


«الفيدرالي» محاصر بين ضغوط خفض الفائدة وتصاعد الانقسامات

مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
TT

«الفيدرالي» محاصر بين ضغوط خفض الفائدة وتصاعد الانقسامات

مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)
مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)

يدخل مجلس «الاحتياطي الفيدرالي» اجتماعه الأخير لعام 2025 وسط حالة من عدم اليقين الاقتصادي والسياسي. هذا الاجتماع لا يقتصر على تحديد مصير أسعار الفائدة في ظل انقسام حاد بين صانعي السياسة النقدية، بل يأتي قبل أشهر معدودة من تغيير رئاسة البنك المركزي الأميركي المقرر في مايو (أيار) المقبل، الأمر الذي يضع مصير السياسة النقدية الأميركية لعام 2026 وما بعده على المحك.

قرار صعب في ظل مؤشرات متضاربة

الاجتماع، الذي يستمر يومي الثلاثاء والأربعاء، يضع «الاحتياطي الفيدرالي» أمام خيارين متناقضين: إما خفض الفائدة للمرة الثالثة هذا العام لدعم سوق العمل المتباطئة، أم الإبقاء عليها مرتفعة لمواجهة التضخم المتصلب الذي لا يزال فوق المستهدف، البالغ 2 في المائة. الأمر الذي يتسبب بانقسام حاد بين صانعي السياسة النقدية.

كما أن هذا الاجتماع يأتي قبل كشف الرئيس الأميركي دونالد ترمب النقاب عن مرشحه لخلافة الرئيس الحالي لـ«الاحتياطي الفيدرالي» جيروم باول. إذ أعلن ترمب هذا الأسبوع، عن أنه سيكشف عن مرشحه لمنصب رئيس مجلس «الاحتياطي الفيدرالي» القادم في أوائل عام 2026، ولمَّح إلى أنه يريد ترشيح كبير مستشاريه الاقتصاديين كيفن هاسيت (وهو من أكثر المطالبين بخفض الفائدة) ليحل مكان باول الذي تنتهي ولايته في مايو.

باول خلال مشاركته في سلسلة محاضرات جورج بي. شولتز التذكارية في جامعة ستانفورد (أ.ف.ب)

توقعات السوق

في الأسابيع الأخيرة، شهدت التوقعات حول قرار الفائدة في اجتماع اللجنة يومّي 9 و10 ديسمبر (كانون الأول)، تقلبات حادة، لكنها استقرت حالياً. وتشير أسواق السندات الآجلة، وتحديداً أداة «فيدووتش» من مجموعة «سي إم إيه»، إلى أن احتمالات خفض الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية تبلغ نحو 87 في المائة.

وفي حال إقرار هذا الخفض، سيكون الثالث على التوالي، ليصل نطاق سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية إلى 3.50 في المائة - 3.75 في المائة.

معضلة الولاية المزدوجة

قرار اللجنة الفيدرالية يزداد تعقيداً؛ بسبب المهمة المزدوجة التي منحها الكونغرس للفيدرالي: تحقيق استقرار الأسعار، ومنع ارتفاع البطالة. البيانات الأخيرة التي أظهرت ارتفاع معدل البطالة إلى 4.4 في المائة ترجِّح كفة المطالبين بخفض الفائدة، لكن التضخم لا يزال أعلى من الهدف البالغ 2 في المائة.

الواضح أن الصورة الاقتصادية مشوشة بشكل غير عادي، فبعض المؤشرات تشير إلى نمو قوي ومخاطر تضخمية، بينما أخرى توحي ببداية تباطؤ اقتصادي. وزاد الإغلاق الحكومي في أكتوبر (تشرين الأول) التشويش على البيانات الرسمية، في الوقت الذي أثرت فيه السياسات التجارية والقيود على الهجرة سلباً على التوظيف، في حين دفعت التعريفات الجمركية الأسعار إلى الأعلى.

متداول في بورصة نيويورك (أ.ف.ب)

صراع الحمائم والصقور

هذا التضارب بين المؤشرات والضغوط المتنامية انعكس انقساماً حاداً داخل «الفيدرالي». ففي الخطابات العامة التي سبقت فترة الصمت المعتادة قبل الاجتماع، انقسم مسؤولو «الفيدرالي» إلى معسكرين رئيسيَّين:

فريق يرى أن التضخم هو الخطر الأكبر، ويجب الإبقاء على الأسعار مرتفعة.

فريق لديه ثقة أكبر بأن التعريفات الجمركية تمثل زيادة في الأسعار لمرة واحدة، وليست مصدراً للتضخم المستدام (وهو التعريف الحقيقي للتضخم).

هذا الانقسام يعني أن السوق قد تبالغ في توقعات الخفض، رغم أن تقرير التضخم الأخير الصادر يوم الجمعة، والذي أظهر ارتفاعاً أقل من المتوقع في سبتمبر (أيلول) عزَّز احتمالات الخفض.

باول يلقي كلمةً خلال سلسلة محاضرات جورج بي. شولتز التذكارية في جامعة ستانفورد (أ.ف.ب)

ترجيح كفة «الحمائم»

رغم أن باول كان واضحاً في أن خفض ديسمبر ليس «أمراً مُسلّماً به»، فإن كثيراً من المحللين يتوقعون أن تسود كفة «الحمائم» وأن يتم إقرار الخفض، مدعومين بارتفاع معدل البطالة، وضعف مقاييس نمو الوظائف الخاصة.

ويتوقَّع الخبراء أن يتمكَّن باول من إقناع الأعضاء المترددين بالتصويت لصالح الخفض، مقابل الإشارة القوية إلى أن التخفيضات المستقبلية ستكون محدودة، مما يعني فترة توقف طويلة بعد خفض ديسمبر.

ومن المقرر أن يصدر الفيدرالي «مخطط النقاط» (Dot Plot) لتوقعات أسعار الفائدة والاقتصاد، لكن لا يُتوقع تغييرات مادية عن توقعات سبتمبر.

تركيبة المجلس

يذكر أنه رغم أنه من المقرر أن يرأس باول 3 اجتماعات للجنة الفيدرالية في يناير (كانون الثاني) ومارس (آذار) وأبريل (نيسان) قبل انتهاء ولايته، فإن ولايته محافظاً لبنك الاحتياطي الفيدرالي لن تنتهي حتى يناير 2028. وهو ما يعني أنه قد يكسر التقاليد ويبقى في بنك الاحتياطي الفيدرالي لسنوات أخرى عدة، وهو ما قد يثير استياء المكتب البيضاوي على الأرجح.

لكن ترمب قد يستفيد من مقاعد في اللجنة ليسمي موالين له. إذ من المقرر أن يتقاعد رئيس بنك أتلانتا الفيدرالي رفائيل بوستيك في فبراير (شباط) 2026، مما يمثل فراغاً إضافياً في اللجنة. في حين لا تزال هناك قضية المحافظة ليزا كوك، التي حاول ترمب عزلها، ومن المقرر أن تنظر المحكمة العليا في قضيتها في يناير، ما قد يفتح الباب لتعيين آخر يختاره البيت الأبيض.

آفاق عام 2026

رغم التوقعات الحالية التي تشير إلى فترة توقف طويلة بعد خفض ديسمبر، فإن المشهد قد يتغير جذرياً في منتصف العام المقبل إذا تولى كيفن هاسيت رئاسة «الاحتياطي الفيدرالي» خلفاً لجيروم باول. فهاسيت معروف بمواقفه الداعمة لخفض أسعار الفائدة بشكل أسرع، وهو ما يتماشى مع توجهات ترمب.

وبالتالي، في حال فوزه، فمن المرجح أن يدفع «الاحتياطي الفيدرالي» نحو مزيد من التخفيضات في أسعار الفائدة، حتى مع وجود مؤشرات على تحسن سوق العمل أو استمرار التضخم فوق المستهدف.

إذا تحقق هذا السيناريو، فإن التوقعات التي تشير حالياً إلى تخفيضين فقط في صيف 2026 قد تصبح متحفظة للغاية، إذ قد نشهد دورة جديدة من التيسير النقدي أكثر جرأة، ما سيؤثر على عوائد السندات، وأسواق الأسهم، وحتى الدولار الأميركي.