يستسلم «العمود الفقري» بتعقيداته التشريحية أمام رؤى «أمنية» الفنية، فهي تجعل منه ساقاً يحمل زهرة حمراء يافعة على وشك إنبات مزيد من البراعم المُلونة والأوراق الخضراء، أو تُنبت له جناحين كأنه على وشك الانطلاق الحُر الوشيك، في كل الأحوال، فإن العمود الفقري حاضر دوماً في مشروع أمنية الفني، والسبب أنه «هو الذي تتحدث عنه كل يوم، وتُفكر فيه طول الوقت، هو الجزء الذي اختلط فيه الإحساس بالألم والأمل، الإحساس واللا إحساس، العظم والحديد، كل يوم ينبت فيه أمل ودعوات».
بدأ كل شيء قبل أكثر من ثلاث سنوات، حينها كانت أمنية محمد سيد، طالبة واعدة في كلية الفنون الجميلة جامعة حلوان بمصر، أعدّت مشروع تخرجها آنذاك عن التناول الفني لمصابي «متلازمة داون»، كان دافعها أن تظهر أن وراء الخطوط والألوان، التي تبدو للبعض «شخبطة»، كثيراً من الانفعالات والشحنات العاطفية والإنسانية، «أردت أن أبحث عنهم فيما بين النقاء الخالص والنبذ المُجتمعي»، حسب وصفها.
قادها تفوقها إلى أن يتم تعيينها مُعيدة في الكلية، واستقرت على موضوع «الحالات الخاصة في فن التصوير»، ليكون موضوع رسالتها للماجستير، واختارت محور الرسالة التي تدور عن تناول الفن للحالات الخاصة في الحضارات القديمة، كالأقزام مثلاً ومبتوري الحروب، مروراً بفصل حول الفنانين الذين اضطرتهم الظروف القدرية لممارسة الفن، وهم مُصابون، منهم الفنانان الفرنسيان رينوار الذي تأثرت يده في آخر سنواته الفنية، وماتيس الذي جلس فترة على كرسي متحرك، وكذلك الأسطورة المكسيكية فريدا كاهلو التي تعرضت لحادث أجلسها على كرسي متحرك، وكانت ترسم عليه أعظم أعمالها.
ولم تكن أمنية، الفتاة العشرينية، تعلم أن قدرها الشخصي سيلحقها بدراما مُلهمي رسالتها للماجيستير، حيث تعرضت لحادث كبير أدى لإصابات بالغة أقعدتها عن الحركة؛ تنقلت بين غرف الجراحة، والعلاج الطبيعي، وجاءها في هذا الوقت اتصال من أستاذها الفنان الدكتور رضا عبد السلام، يحثها فيه على النهوض ومواصلة الرسم، «سأذكرك أنكِ ستكونين فريدا كاهلو مصر» هكذا قال، وهي العبارة التي ظلت تؤنس أمنية وهي تتنقل بين غرف الجراحة والعلاج الطبيعي، تتذكر: «تأثرت وقتها أعصاب يدي، ومن ثم القدرة على الرسم لفترة طويلة، وكانت لدي رهبة كبيرة من أن أعود للرسم من جديد».
كانت صدمتها الأولى بعد علمها بضعف احتمال قدرتها على الحركة من جديد، وظلت نظرة الطبيب الذي نقل لها خبر عدم قدرتها على السير لا تفارقها ونقلتها في لوحاتها، وكذلك كلمته «أنت تحتاجين صبراً»، وكرر كلمة الصبر أكثر من مرة، وظلت هذه الكلمة أيضاً مركزاً لحياتها الجديدة.
بدأت أمنية برسم العمود الفقري، استلهمت تفاصيل إصابته، وقامت بمُحاكاته فنياً، أنبتت على رأسه وردة، وكانت هي نُواة مشروعها الذي عملت عليه على مدار عامين، وأطلقت عليه «محاولات البقاء الخمس»، وعرضته في كلية الفنون الجميلة بحي الزمالك أخيراً، الذي تتمنى أن يعرض للجمهور بأحد الغاليرهات العامة خلال الفترة المقبلة، ويضم أعمالها التي تشهد على محاولاتها للبقاء والصمود، ويضم المشروع عدة محاور، أولها «مقامات الصبر الخمسة»، مفتاحه كلمة «الصبر» نص نصيحة الطبيب لها، وقادتها الكلمة لتأملات طويلة وصلت بها إلى نبات الصبار، تقول «قمت بزيارة حديقة للصبار، تأملته كرمز للصبر، قوة التحمل، وجدت فيه عنصراً غنياً للتشكيل، رغم عزوف الكثيرين عن رسمه، ورأيته غنياً بالجماليات، فصار ركناً من أركان مشروعي».
جعلت أمنية مقامات الصبر والصبار علامة على محطات رحلتها مع الألم، الأولى لوحة أطلقت عليها «القدر»، والثانية «الحلم» التي تدور في العناية المركزة، والثالثة «ليلة بكى فيها القمر»، والرابعة «عُزلة» عن عزلة العلاج الطبيعي والاكتئاب، وأخيراً «اكتمال القمر»، وهي جميعاً مراحل رحلتها.
تقول أمنية: «اللوحات الخمس تتغير في كل منها رمزية الصبار، ففي واحدة منها التي تُعبر عن أشد مراحل الرحلة، كنت أنا نفسي نبتة الصبار، مرشوقة بالمسامير، في رمزية للمسامير التي تم تركيبها في ظهري، ومن خلفي مُربعات كأنها سقف المستشفى التي لم أكن أرى غيرها لشهور طويلة وأنا راقدة على سرير لا أملك غير النظر للسقف، ويُطل في اللوحة وجه الطبيب والقمر دموي أحمر، لذلك أطلقت عليها اسم (ليلة بكى فيها القمر)، لأن هذه كانت أول ليلة أبكي بها منذ بداية الحادث، وهي الليلة اللي قال لي فيها الطبيب عن نصيحته لي بالصبر، وغادر بقلب بارد، عندها فهمت وبكيت طويلاً».
يضم المشروع أيضاً أعمالاً مستوحاة من العمود الفقري، وقسماً آخر يضم بورتريهات ذاتية لها، وعرضت هذه البورتريهات في «صالون الشباب» في دورته الأخيرة، وحازت به «جائزة الفيديو آرت والفنون التفاعلية»، بمشاركة زميلتها فاطمة الزهراء سامي، تقول عنها «رسمت نفسي والتغيرات التي حلّت في ملامح وجهي بعد الأزمة»، وبه تُطل بوجوه متعددة بين ظلال الأبيض والأسود، تظهر بندوب متفرقة، واستخدمت وسائط فنية كالخيط في رمز للخيوط الجراحية، وفي بعضها ظهرت بتاج من ورود، في التقاء يمكن به الاقتراب من صور فريدا كاهلو الشهيرة التي تظهر فيها عادة بورود كبيرة مُنسقة على رأسها، ولم تكن أمنية تعلم أن اسمها سيرتبط بها بهذا الشكل، بعد أن صار لقباً ملازماً لها بين زملائها من أهل الفن التشكيلي.
مشاعر فنية عن العمود الفقري والصبر في «محاولات البقاء»
أكاديمية وتشكيلية مصرية تقدم تجربة لافتة
مشاعر فنية عن العمود الفقري والصبر في «محاولات البقاء»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة