الأبطال الخارقون فرّوا من «الكوميكس» إلى سرديات فنية متعددة

الألماني «ديتمار دات» يتتبع أقنعتهم وأسرارهم في ملعب الطفولة

الأبطال الخارقون فرّوا من «الكوميكس» إلى سرديات فنية متعددة
TT

الأبطال الخارقون فرّوا من «الكوميكس» إلى سرديات فنية متعددة

الأبطال الخارقون فرّوا من «الكوميكس» إلى سرديات فنية متعددة

لا يتأمل الكاتب الألماني ديتمار دات تاريخه الشخصي وحده وهو يبحث عن آثار أبطاله الخارقين العالقة في ملعب طفولته، منذ أن كانوا حبراً في تراث الكوميكس، فهو يتأمل في كتابه «أبطال خارقون» وعي وتفاعل أجيال كاملة مع قصة هؤلاء الأبطال أصحاب الأسماء المستعارة والأقنعة الفولاذية التي تُخفي وراءها شُحنات إنسانية ودرامية.
الكتاب صدرت أخيراً ترجمته إلى العربية عن دار «صفصافة للنشر والتوزيع» بالقاهرة، وأنجزتها المترجمة المصرية الدكتورة نيرمين الشرقاوي، وفيه يتأمل ديتمار دات مدرسة الإنسان الخارق التي تخرّج فيها عشرات الشخصيات التي بدأت كرسوم كوميكس تعود بداياتها لنهايات ثلاثينات القرن الماضي. كما يتأمل في كتابه بذور الاهتمام بتلك الشخصيات الخيالية الذي تصاعد إلى ما يصفه الكتاب بـ«التماهي»، فيقول: «كنا في ملعب الطفولة نعد أن الخارقين والخارقات حقاً لا يتغيرون، ولا يموتون، ولا يتحللون، ونحن معهم ومثلهم، لأن واحداً من أشكال الحب الأول لتلك الشخصيات هو التماهي، كنا نعرفهم هم أكثر مما يعرف بعضنا بعضاً».
ولهذا «الحب الأول»، كما يصفه ديتمار دات، علامات: أولها، إطلاع هذه الشخصيات الخارقة قارئها على أسرارها وانكساراتها، فـ«سوبر مان» الجبار الذي يُسلط شعاعاً من عينيه على باب المدرعة وهو يقول «لنرى» هو ذاته الصحافي المنغلق كلارك كينت الذي يكتشف في نفسه إمكانات خارقة، فينحاز لمساعدة البشر، في مقابل إلحاق الضرر بهم.
ويتساءل دات: «لماذا تمثل هذه الأشياء قدراً عظيماً لبعض الناس؟ وما هذه الأشياء أساساً؟». أبطال فولاذيون أكبر من الحياة، أصحاب هُويات سرية، يتسع مسرحهم الزمني لهرقل وشمشون وسوبر مان.
يتكئ الكاتب إلى الرواج التجاري الذي حققته دار نشر «دي سي» الشهيرة بعد اختراعها للبطلين الأكثر شعبية (باتمان وسوبرمان) اللذين أرفقت بهما تسمية فانتازية وهي «أرقى من في العالم»، ويُمثلان طرفي الطيف لجموع الأبطال الخارقين على إطلاقهم، وهو ما كان يصاحبه صخب في الحكاية والرسوم. يقول الكاتب: «تتنوع التبريرات السردية لتلك المبالغات التصويرية في الرسم، فهم ينهلون من معين الأخيلة الواردة في التاريخ الثقافي، بكل ما يشتمل عليه من الميثولوجيا أو العلم أو الفانتازيا التي غذتها الجماليات»، ويمُر على أمثلة لصناعة التخييل التي خرجت منها شخصيات مثل «هولك» الذي تحول إلى كتلة من القوى المعذبة في أثناء هطول أمطار مُحملة بأشعة جاما، أو «سبايدرمان» الذي عضته عنكبوت ذات نشاط إشعاعي، وقتل والداه على يد مجرمين صغار، فصار لاحقاً يطارد المجرمين الكبار، أو رامي السهام «جرين آرو» الذي اضطرته الظروف إلى العيش على جزيرة معادية للبشر بعد نجاته من تحطم سفينة، وكان عليه أن يُطور قدراته إلى ما يتخطى حدود الطبيعة، فهم غالباً لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب يدٍ ما ألحقت بهم الأذى، إذ «يتصرفون في ركاب تربيتهم لذواتهم ليصبحوا شخصيات عظيمة قادرة على الاستمرار في الحياة تحت ضغط اضطرار يدفعهم إلى الانتقام أو إلى المعالجة الجيدة أو السيئة لجراح جسدية أو روحية صفعتهم بها يد القدر».
يُسخر دات أدوات بحثه للوقوف على الانتماء الأدبي والمعرفي لقصص هؤلاء الخارقين، مُبحراً في أصول الفن لدى أرسطو الذي يرى أنه لا يدور في الأساس حول ما هو حقيقي، مروراً بتسميات الخيال العلمي والرعب الخارق للطبيعة والفانتازيا العلمية، والمدرسة «الرومانتيكية» التي تنتسب إليها ماري تشيلي وروايتها «فرانكنشتاين» التي ألفتها عام 1818، ويعدها كثيرون أول نصوص الخيال العلمي، وصولاً إلى تحدي عدم التصديق الذي يغلب عليه السرد لدى الأبطال الخارقين: «إن المقاومة التي يتعين على الخرافة أو الفانتازيا أن تتغلب عليها من أجل أن تصل إلى أهدافها الجمالية ليست مثل مقاومة الأجناس الأخرى التي تُعبر عن ركود الحياة اليومية أو السدة عن التعاطف، وإنما تتمثل في عدم التصديق الشامل في العالم الذي تقدمه الفانتازيا وما تُقر فيه من معطيات».
يقف الكتاب، الذي يقع في 130 صفحة، عند تحوّل هذا الجنس الفني إلى صناعة ثقافية كاملة، تراوحت بين مد وجزر على مدار عصر فضي وذهبي وزئبقي، بما شكله كل عصر من ملامح أعادت صياغة هذا اللون، بما فيها التهديدات التي وصلت حد إيقافها، كما حدث من جدل حول التأثير الذي تُمارسه على شباب الولايات المتحدة، وهو ما ظهر في كتاب «إغواء البراءة» الذي صدر عام 1954 لعالم النفس فريدريك فيرتام الذي تحول إلى هجوم على الكوميكس بشكل عام، حتى وصل الأمر إلى انشغال الكونغرس الأميركي بها، وصولاً إلى ما يصفها المؤلف بـ«الانتصارات المظفرة» التي استطاع الأبطال الخارقون تحقيقها في موطنهم الأصلي في الكوميكس الذي يقول إنهم لن ينسلخوا عنه «بيد أن رحلاتهم إلى مجالات ثقافية أخرى صارت أكثر تواتراً»، على حد تعبيره، سواء كانت تلك الرحلات إلى السينما، كما حدث وتبناهم صناع أفلام جادين مثل كريستوفر نولان وجوس ويدون، عبوراً إلى الأدب، كما في روايات انطلقت من معين القدرات الخارقة التي يبحث فيها أصحابها عن الجدلية بين الواقع والمأمول، كما في روايات «المغامرات المذهلة لكافالير وكلاي» لمايكل شابون، و«حصن الوحدة» لجوناثان ليثيم، مروراً بموسيقى البوب، والفن التشكيلي والتصميم، وذكر المؤلف مثالاً للعرض الضخم «أبطال خارقون... الموضة والفانتازيا» عام 2008، وكان من داعميه المصمم العالمي جورجيو أرماني، وأقيم في متحف المتروبوليتان للفن في نيويورك.
يمر الكتاب على أسماء رواد صناعة هذا اللون، وتحديداً فرانك ميللر وآلان مور اللذين بلغا آفاق الشهرة في الثمانينات؛ ميللر رسام الغرافيك، ومور الذي يقول عنه «حكاء مثير متعدد الجوانب، كان -ولا يزال- يعرف أفضل من معظم من جاء قبله ما يمكن أن يقدمه وسيط الكوميكس».
ويتأمل في منحى آخر مصير هؤلاء الأبطال بعد ما وصفها بشيخوخة موضوعات العصر الذهبي، كما ظهر في إحالة «باتمان» للتقاعد، وشعوره في البداية بالمرارة، ثم لا يلبث أن يعود إلى المعركة بوازع شخصي تجاه مجتمعه. ويشير المؤلف إلى أن ميللر أشرك جمهوره في هذه المشكلة عبر رسومه التي ظهرت بها خطوط متهالكة وهشة، وكأنه يرسل رسالة مفادها أننا «إذا أردنا إنقاذ ماهية البطل الخارق، فلا مناص من اقتحام الطبقات السطحية لهذا الجنس الفني، وعرض ما فيها من شروخ، والاحتفاء بهذه الشروخ، بدلاً من السكوت عنها»، غير أن المؤلف ديتمار دات لا يشعر بقلق حول مصائرهم، ويأمل في أن يحافظوا على جوهرهم، وأن «يكون لديهم القدرة على النمو خارج جدران ذواتهم».


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

انطلاق فعاليات معرض العراق الدولي للكتاب

جانب من الدورة السابقة التي حملت اسم فلسطين
جانب من الدورة السابقة التي حملت اسم فلسطين
TT

انطلاق فعاليات معرض العراق الدولي للكتاب

جانب من الدورة السابقة التي حملت اسم فلسطين
جانب من الدورة السابقة التي حملت اسم فلسطين

تنطلق غداً الأربعاء فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، التي تمتد حتى 14 ديسمبر (كانون الأول)، على أرض معرض بغداد الدولي.

وتنظم المعرض مؤسسة «المدى للإعلام والثقافة والفنون»، وهي مؤسسة إعلامية وثقافية انتقلت إلى بغداد بعد عام 2003، بعد أن كان مقرها دمشق، وقدمت نشاطات ثقافية مهمة، كما رعت عدداً من المواهب الثقافية، للإعلام والثقافة والفنون.

يشارك في دورة هذا العام أكثر من 350 دار نشر قادمة من 17 دولة عربية وأجنبية، بعضها دور نشر تشارك للمرة الأولى من المغرب العربي ودول الخليج، في مساحة تبلغ أكثر من 20 ألف متر مربع.

تحمل النسخة الخامسة من المعرض، اسم «لبنان»، بعدما حملت النسخة السابقة اسم «فلسطين»؛ تعبيراً عن التضامن مع الشعب اللبناني الشقيق وهو يواجه عدواناً آثماً.

وسيتم، طوال أيام المعرض، تخصيص جلسات حوارية وثقافية عن لبنان، يشارك فيها مثقفون ومختصون لبنانيون، كما ستكون رموز التراث اللبناني حاضرة في أروقة المعرض.

ويتضمن برنامج المعرض أيضاً جلسات فكرية وثقافية عديدة يساهم فيها مثقفون وكتاب من العراق والبلدان العربية الأخرى، وجلسات شعرية، وحفلات توقيع كتب جديدة، وحفلات فنية متنوعة، بالإضافة إلى ندوات تتناول الحراك السياسي في العراق، وأبرز المستجدات في الوضع السياسي.

ومن المقرر أن تشارك مؤسسات ثقافية وفنية عراقية في هذه التظاهرة من خلال برامج لها في المعرض، وأجنحة خاصة لها تعرض فيها نتاجاتها الثقافية، منها المجمع العلمي العراقي، واتحاد الأدباء والكتاب في العراق، ودار الشؤون الثقافية وغيرها من المؤسسات.