«الجهاد الإسلامي»... من السجون والضواحي الفرنسية إلى سوريا والعراق

اعتمد المؤلف على أكثر من مائة حوار بثلاث لغات مختلفة من 2014 إلى 2019

حي مولنبيك في بروكسل - بلجيكا
حي مولنبيك في بروكسل - بلجيكا
TT
20

«الجهاد الإسلامي»... من السجون والضواحي الفرنسية إلى سوريا والعراق

حي مولنبيك في بروكسل - بلجيكا
حي مولنبيك في بروكسل - بلجيكا

لم تعد ظاهرة التشدد الإسلامي مقصورة على منطقة جغرافية بعينها، لكنها امتدت إلى مناطق كثيرة في عالمنا، حتى أصبحت توصف بأنها لا وطن لها، شأنها في ذلك شأن الإرهاب بوجهه القبيح... عن هذه الظاهرة تطالعنا دار النشر الفرنسية العريقة «غاليمار» بكتاب يحمل اسم «الجهاد الفرنسي: الضواحي، سوريا، باريس، السجون»، لمؤلفه هيجو ميشيرون المتخصص ببواطن الأمور في الضواحي الفرنسية، خاصة ذات الصبغة العربية، كما ظهر خلال السنوات الأخيرة بصفته عالماً ومتخصصاً في هذا الملف وكذلك عالم السجون، إضافة إلى كونه متخصصاً في منطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط، ويُدرّس علومها السياسية في جامعات فرنسا، مثل جامعة ليون على سبيل المثال، كما يعد زميل كرسي متميزاً بجامعة باريس في سياسات الشرق الأوسط.
وتبرز أهمية هذا الكتاب الذي يقع في 416 صفحة من القطع المتوسط، أنه يأتي بعد خمسة أعوام من سلسلة العمليات الإرهابية التي شهدتها فرنسا منذ يناير (كانون الثاني) 2015 بين مجزرة «شارلى إبدو» ومذبحة «البنتاكلون» ليقدم لنا وصفاً دقيقاً من الداخل الفرنسي لهذه الظاهرة، مؤكداً على تنامي ما يسميه ـ «الجهاد الفرنسي» الذي نشأ وترعرع في المدن والضواحي الشعبية الفرنسية التي تمثل أرضاً خصبة للجهاد، مروراً بتنظيم «داعش» في سوريا، وصولاً إلى السجون الفرنسية التي يتم وضع العناصر الخطرة بها.
لذلك؛ يتمتع الكتاب بأهمية خاصة، فهو ثمرة نتاج جهد خمسة أعوام من العمل البحثي الميداني والنظري للمؤلف؛ إذ اعتمد على أكثر من مائة حوار بثلاث لغات مختلفة (العربية، والفرنسية، والإنجليزية) خلال الفترة من 2014 إلى 2019 مع عناصر متطرفة، ليس فقط في فرنسا وبلجيكا، لكن أيضاً في سوريا، ولبنان، وتركيا، وكردستان العراق، هذا بالإضافة إلى 24 حواراً مع عناصر خطرة قابعة خلف أسوار السجون الفرنسية ليصل من خلالها إلى تحليل دقيق لطبيعة وماهية «الجهاد الفرنسي»، مؤكداً على أن السجون الفرنسية تمثل نقطة تفاعل مع الضواحي الفرنسية لإنتاج هذه الظاهرة.
كما يشير المؤلف إلى أن منطقة الشرق الأوسط تمثل انعكاساً طبيعياً لأوروبا، واتضح ذلك جلياً من خلال إقامة ميشيرون، في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 2014 إلى يناير 2017، في المنطقة ليسجل حوارات مع متمردين ولاجئين سوريين هربوا من الرقة تحت نيران «داعش»، وكذلك عناصر متطرفة لبنانية أعضاء بالنصرة، هذا بالإضافة إالى حوارات تمت بمساعدة مترجم كردي مع اللاجئين الإيزيديين والمقاتلين الأكراد. لكن تم الانتهاء من العمل الأساسي من خلال عمل ميداني مباشر داخل السجون الفرنسية بداية من 2015 من خلال أربع مؤسسات تابعة للسجون الفرنسية معنية بتأهيل العناصر الأصولية.
يسوق لنا المؤلف بعض الأرقام الكاشفة والمفزعة التي تؤكد مدى خطورة «الجهاد الفرنسي» على الأمن والسلم في قلب المجتمع الفرنسي، ففي الفترة من 2012 إلى 2018، تورط ما لا يقل عن 2000 فرنسي في التنظيمات الإسلامية المتطرفة في سوريا؛ الأمر الذي ترتب عليه زيادة كبيرة في أعداد نزلاء السجون الفرنسية، خاصة فيما يتعلق باستقبال العناصر الإرهابية الخطرة التي تورطت في عمليات إرهابية في مناطق كثيرة بين أفغانستان والبوسنة في السابق، وشارك معظم هذه العناصر في تنظيم «داعش» في مدينة الرقة في 2014 التي تم إسقاطها بعد ذلك بثلاث سنوات. ومن بين هذه العناصر أطفال ونساء ما زالوا موجودين حتى الآن في معسكرات احتجاز في شمال شرقي سوريا. وخلال هذه الفترة، تم إحباط أكثر من 59 عملية إرهابية، إلا أنه تم تنفيذ أكثر من 20 عملية في فرنسا، وتتماثل هذه الإحصائيات في بلجيكا، وألمانيا، وبريطانيا، وإسبانيا، وهي عمليات أودت في مجملها بحياة أكثر من 250 فرداً وإصابة آلاف آخرين بجروح. في هذا السياق، يكشف المؤلف عن معلومة في منتهى الخطورة والأهمية، مؤكداً على أن معظم العمليات الإرهابية التي شهدتها الأراضي الفرنسية قد نُفذت بأيادي عناصر فرنسية تربوا على الأراضي الفرنسية وتعلموا في مدارسها.
ويرى هيجو ميشيرون، أن «الجهاد الفرنسي» فرض نفسه بقوة كحقيقة دامغة بالنسبة لكل دول الاتحاد الأوروبي مع وجود تنوع في مصادر ونشأة العناصر المتطرفة الذين انضموا إلى «داعش»، فهناك معلومات تشير إلى أنه في الفترة من 2012 إلى 2918، فإن 80 في المائة من العناصر الأوروبية المتطرفة التي انتمت إلى «داعش» تعود أصولها إلى أربع دول أوروبية فقط (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وبلجيكا) يمثل الفرنسيون منهم 40 في المائة بواقع يتراوح بين 2000 و5000 فرد و800 لبريطانيا و800 لألمانيا، بينما يقدر نصيب بلجيكا بـ600 لتمثل أكبر دولة أوروبية فيها عناصر جهادية مقارنة بعدد سكانها.
وفيما يتعلق بالدول الأوروبية التي شهدت عمليات إرهابية، يوضح الكتاب أن فرنسا تتصدر القائمة، فتقريباً خرج من معظم البلديات الفرنسية عناصر متطرفة، وترتب على ذلك تنظيم شبكات عنقودية في بعض المدن الأوروبية، في حين لا يعرف البعض الآخر أي نشاط إرهابي، أي أن هذا النشاط يتركز في مدن محددة دون أخرى، وليس أدل على ذلك من الحالة البلجيكية التي تؤكد أن 75 في المائة من إجمالي عدد العناصر البلجيكية المتطرفة البالغ 600 فرد ينتمون إلى خمس بلديات فقط، وتأتى على رأسهم بلدية مولنبيك ذات الأغلبية العربية التي شهدت تنظيم وترتيب العمليات الإرهابية التي استهدفت فرنسا في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وتلك التي استهدفت بروكسل في 22 مارس (آذار) 2016.
ويعتقد المؤلف أن العوامل الاقتصادية المتردية لا تمثل دافعاً لوجود أرض خصبة لانتشار الأفكار المتطرفة، وليس أدل على ذلك من انتشار هذه الظاهرة في بعض المدن البلجيكية بالإقليم الفلمنكي ذات الأوضاع الاقتصادية الجيدة، مثل مدينة فيلفورد، ومدينة انتويرب، والوضع نفسه تشهده فرنسا، فمدينة ليمل ذات الـ25 ألف نسمة فقط، ولها طبقة اجتماعية جيدة، إلا أنها حازت في 2014 لقب «عاصمة الجهاد الفرنسي»، حيث توجه منها 25 عنصراً متطرفاً إلى سوريا، وفي الوقت نفسه، فإن المدن الأكثر ازدحاماً عشرات المرات في شمال مارسيليا لم تشهد توجه متطرف واحد إلى سوريا في الفترة من 2012 إلى 2018؛ الأمر الذي يؤكد عدم جدوى استخدام المعيار الاجتماعي أو الاقتصادي في تفسير وتنامي تلك الظاهرة، حسب ميشيرون.
ويخلص المؤلف من حواراته الـ24 بشقيها المنفرد والجماعي داخل السجون الفرنسية إلى أن هناك طرفاً ثالثاً يربط بين فرنسا وتنظيم «داعش» الإرهابي، ويكمن هذا الرابط في «السجون الفرنسية» التي تمثل أرضاً خصبة لتبادل الأفكار والتوجهات بين العناصر المتطرفة.



«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

ليور زميغرود
ليور زميغرود
TT
20

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

ليور زميغرود
ليور زميغرود

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج*»، حيث تسعى لتفسير ميل بعض البشر إلى الآيديولوجيات المتطرفة انطلاقاً من بنية الدماغ وبيولوجيته، وليس فقط من خلال السياقات الاجتماعية أو الثقافية. ويأتي هذا العمل الذي يندرج ضمن مشروع أوسع في الجامعات الغربيّة للربط بين العلوم السلوكيّة والسياسة في وقت تصاعدت فيه الاستقطابات الحادة، سواء داخل المجتمعات أو عبر الحدود، وبينما يعيد كثيرون طرح السؤال القديم مجدداً: لماذا يصبح بعض الناس أكثر تطرفاً من غيرهم؟

بدأت زميغرود دراستها من مشهد سياسي معاصر، تحديداً من لحظة الانقسام في بريطانيا حول مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي ونتائج الاستفتاء الشعبي الذي جرى عام 2016 واعتمدت عليه حكومة حزب المحافظين لتشرع في إجراءات الطلاق من أوروبا (بريكست)، إذ لفتتها المواقف المتصلبة لطرفي الطيف السياسيّ، وتساءلت عمّا إذا كانت نتاج انتهازية سياسية أم عرضاً لجذر أعمق مرتبط بتكوين الأشخاص النفسي والدماغي، لتصل في النهاية إلى استنتاج وحيد – في قلب كثير من التساؤلات أيضاً –: ثمّة جانب بيولوجي ملموس لتموضعات الأفراد السياسيّة.

تعتمد زميغرود في مقاربتها على تعريف صارم للآيديولوجية باعتبارها نمط تفكير متصلب يعطل المرونة الإدراكية لصالح نسق مغلق من المعتقدات. وهي في ذلك تعود إلى إرث علم النفس السياسي، وتحديداً أعمال إلسي فرينكل برونسويك وثيودور أدورنو، اللذين سعيا بعد تجربة الحرب العالمية الثانية لفهم السّمات التي تمتلكها «الشخصية الفاشية». لكنها في هذا السياق تذكر مفارقة تاريخيّة بشأن أصل مصطلح «آيديولوجيا»، الذي تقول إن الكونت الفرنسي ديستوت دو تريسي صاغه في إطار بحثه عن كيفية تكوّن المعتقدات. غير أن المصطلح انقلب على رأسه مع الزمن، ليعني الآن عكس ما أراده مبتدعه: الالتزام غير النقدي بالاعتقاد - بدلاً من تحليله -.

وبحسب زميغرود، فقد وجدت برونسويك في خمسينيات القرن الماضي، أن الأطفال المتحيزين ليسوا متصلبين في مواقف معرفيّة فحسب، بل يمتد تصلبهم وجمود أفكارهم إلى كل استجاباتهم الإدراكية. وتوسع المؤلفة هذا المنظور باستخدام أدوات علم الأعصاب الإدراكي، كاختبار ويسكونسن لقياس قدرة الأشخاص على التكيف والإبداع، فتظهر بيانات اختباراتها أن الأفراد ذوي التفكير العالي الأدلجة - لا فرق إذا كانوا في اليمين أو اليسار- يميلون بشكل عام إلى الجمود المعرفي، ومحدودية المرونة الذّهنية.

على أنّ الطرح الأكثر إثارة في الكتاب يكمن في تتبع زميغرود للرّوابط بين البنية العصبية والميول السياسية. إذ عبر دراسات تصوير الدماغ وتحليل التكوين الجيني، وجدت أن الأشخاص ذوي الميول الآيديولوجية المتطرفة يمتلكون توزيعاً مغايراً لهرمون الدوبامين في أدمغتهم عن الأشخاص الأقل تزمتاً: انخفاض في منطقة قشرة الفص الأمامي (المعنية بالتفكير العقلاني والمرن)، وارتفاع في منطقة وسط الدّماغ المرتبطة بالغرائز والسلوكيات الانفعاليّة الطابع. كما وتبين لها أن الشخصيّات المحافظة غالباً ما تمتلك (لوزة) دماغية أكبر حجماً، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة مشاعر الخوف والاشمئزاز، مما قد يفسر انجذابهم لمواقف تركز على الحفاظ على الأوضاع القائمة والنّظام والتقليد. غير أن المؤلفة تتجنب الحسم، إذ لا يُعرف تماماً ما إذا كانت هذه السمات العصبية وتركيب الأدمغة تسبق الآيديولوجيا أم تنتج عنها. أي، هل تغير معتقداتنا من شكل أدمغتنا؟ أم أن تكوين الدماغ يقودنا إلى اعتناق معتقدات بعينها؟ العلم هنا - وفق زميغرود دائماً - لا يتخذ موقفاً، لكنه يطرح أسئلة فلسفية وعمليّة عميقة حول مفهوم «حرية الإرادة» في السياق السياسي.

الكتاب عمل متقدّم في تفكيك ظواهر التطرف والاستقطاب الحاد التي تطبع تعاطي السياسة في هذا المنعطف من التاريخ

من الملاحظات اللافتة التي تقدمها زميغرود أن الأشخاص عاليي الأدلجة لا يدركون أنهم أشخاص بطيئو التفكير، بل يعتبرون أنفسهم مندفعين ومحبين للمخاطرة، أي أنهم يجمعون بين صلابة معرفية على المستوى اللاواعي، وسلوكيات متهورة على المستوى الواعي. هذا التناقض يمكن أن يفسر انجذاب المتطرفين إلى الخطابات التي تدعو إلى «النظام» و«سيادة القانون»، بينما يمتعهم في الوقت ذاته تهديم المؤسسات القائمة والنظام الحالي.

تجمع زميغرود في تشخيصها للدماغ الآيديولوجي بين المتطرفين على اليمين أو اليسار، وتزعم أن الجمود الآيديولوجي يمكن أن يصيب الجانبين، وتشير إلى أن الأفراد المتحررين من القيود الحزبيّة ويميلون إلى الليبرالية اليسارية غالباً ما يظهرون أعلى درجات المرونة المعرفية، لكنّها تصرّ على أنها لا تدعم تموضعاً سياسياً محدداً يمثل هذا الموقع، بقدر ما توثق حاجة مجتمعاتنا المعاصرة إلى إعادة تأهيل الفضاء العام كحيز للتواضع أمام المعرفة، والانفتاح على الآخر، وتوظيف الجدل في البحث عن حلول فضلى لمشكلات العالم. لكن هذا الطرح يثير بدوره سؤالاً أخلاقياً محوريّاً: هل يمكن للعقل المرن غير المدجج بالآيديولوجيا أن يواجه الاستبداد والفاشية؟ أم أن هذه المرونة نفسها قد تكون مدخلاً للتّراخي والتكيف مع الشر؟

هذا التحدي الفلسفي الذي يطرحه الكتاب - ولا يحسمه - يعيدنا إلى الجدل (في الغرب) حول تجارب الفاشيات في النصف الأول من القرن العشرين وكيف تورط ملايين من الأشخاص العاديين في تنفيذ سياسات أنظمة متطرفة وخاضوا من أجلها حروباً تدميرية لم يسبق لها مثيل في أعداد الضحايا وحجم الخراب.

ينطوي الكتاب على نغمة شخصية مؤثرة، إذ تتحدث زميغرود عن أصولها المتعددة والمتوزعة بين اللغات والثقافات والقارات، وتجد أن هذا التعدد هو ما جعلها حساسة للآيديولوجيا كمشروع إقصائي، وعنصر تهديد للهويات المعقدة والهجينة، مما يكسب مشروعها الفكري هذا صيغة نضال إنساني يسعى إلى حماية الفرد من اختزال تكوينه المعقد والمتعدد من قبل التطرفات العقائدية.

إن «الدماغ المؤدلج» عمل متقدّم في تفكيك ظواهر التطرف والاستقطاب الحاد التي تطبع تعاطي السياسة في هذا المنعطف من التاريخ، ويمتاز بجمعه الشيّق بين علم الأعصاب والتاريخ والفلسفة السياسية. لكنه في الوقت نفسه، لا يقدّم للقارئ أية إجابات سهلة، بل يورطه في إشكاليات مشرّعة على التفكير حول معاني الحرية، والإرادة، والعيش الأفضل في مجتمعاتنا المعاصرة.

*The Ideological Brain: A Radical Science of Susceptible Minds by Leor Zmigrod, Viking, 2025