يتم بناؤها، ثم تزدهر... قبل أن تصبح منسية؛ لطالما كان هذا مصير كثير من المدن منذ العصور الغابرة. قليلة هي الأسماء التي بقيت خالدة من خلال أسطورة أو أدب، في حين تظل أسماء أخرى مختفية تماماً إلى أن تقود المصادفة إلى اكتشاف تلك العواصم الغامضة وإعادتها من بين الأموات.
كانت تلك المدن يوماً ما مدناً عامرة مأهولة بالسكان، لكن باتت مهجورة بسبب حروب، أو كوارث طبيعية، أو تغير مناخي منذ سنوات طويلة جداً. وتقف تلك المدن شاهداً يذكّر البشر بأن كل شيء يفنى في النهاية. الآثار الغامضة لتلك المدن المفقودة، والتي تكون جميلة في أكثر الأحوال، أثارت مخيلة ملايين المسافرين، والشغوفين بالتاريخ، والباحثين عن الكنوز من مختلف أنحاء العالم. إذا كنت في مزاج يسمح لك باستكشاف آثار الحضارات القديمة الغابرة، فإليك بعضاً من أروع المدن المفقودة. اتخذت تلك الآثار المذهلة موقعها سريعاً على خريطة السياحة في الهند، وما من شك في أنها سوف تثير فضولك.
تعمل الحكومة الهندية على الترويج للسياحة الأثرية من أجل الحفاظ على المواقع التاريخية إلى جانب زيادة الاهتمام الشعبي بالآثار؛ ويشمل ذلك زيارات إلى أماكن أثرية، أو متاحف، أو مراكز خاصة برفع الوعي الأثري، أو إعادة تصوير الأحداث التاريخية، أو إعادة اكتشاف المنتجات الأصلية، أو المهرجانات، أو المسارح. كثير من تلك المدن كان معروفاً، في حين تم اكتشاف بعضها بعد دمارها بسنوات كثيرة. فيما يلي قائمة ببعض المدن الهندية المفقودة:
> موزيريس Muziris
باتت موزيريس ظلاً باهتاً لصورتها القديمة؛ فما كانت واحدة من كبرى المدن في العالم، والميناء الأكثر ازدحاماً واكتظاظاً في العالم... باتت حالياً مجرد بقعة تناضل من أجل الاقتراب من حال المناطق الريفية. كانت موزيريس في القرن الأول قبل الميلاد واحدة من أهم الموانئ التجارية في البلاد التي كانت تصدر البهارات، خصوصاً الفلفل الأسود.
وكان يقال إن تلك المدينة أغنى من روما في العهد الملكي. بحسب ما جاء في النصوص؛ كانت المدينة تستقبل سفن التجار الأجانب، الذين كانوا يبحرون في نهر بيريار، والتي كانت تأتي محمّلة بالذهب وتذهب محملة بالفلفل أو الألماس الأسود؛ كما كان يطلق عليه. ويوصي أرون ناير، المسافر المشترك في موقع «هوليداي أي كيو» الإلكتروني، بزيارة المدينة لأن نخيل جوز الهند، والمنازل ذات البلاطات الحمراء، والبحيرات والشواطئ التي لا تحصى، سوف تترك انطباعاً يدوم طويلاً في نفس أي زائر.
دفعت أهمية البهارات وتجارتها العرب في الفترات اللاحقة إلى الإبقاء على سرية الطريق المؤدية إلى مدينة موزيريس، حيث لم يكتشف البحار اليوناني هيبالوس طريقاً مباشرة إلى كيرالا إلا في عام 40 للميلاد، وتبعه الرومان بعدها على حد قول مانو بيلاي، مؤلف كتاب «العرش العاجي: أخبار منزل ترافانكور»، وهو كتاب يستكشف حياة وأعمال سايثو لاكشمي باي، آخر ملكة في أسرة ترافانكور في جنوب كيرالا.
> دولافيرا Dholavira
إذا تحركت بالسيارة لسبع ساعات شمال مدينة أحمد آباد، وفي أعماق مقاطعة كوتش القاحلة، فسوف تمر بجزيرة تقع وسط مسطحات الملح، حيث توجد مدينة كانت ضخمة في زمن شعب الهارابان، وهي من أهم المواقع الأثرية في حضارة وادي السند بحسب منظمة اليونيسكو. ترقى دولافيرا إلى مصافّ مدن حضارة الوادي القديم، والمدن الحضرية المصرية والصينية وحضارة ما بين النهرين.
منذ ما يزيد على 4 آلاف عام كانت دولافيرا واحدة من كبرى المدن في عصرها، وما نراها الآن مدينةً محصنةً رباعيةَ الشكل في قلب أرض قاسية قاحلة، كانت يوماً ما حاضرة مزدهرة عامرة لنحو 1200 عام (من 3000 ق.م حتى 1800 ق.م)، وكانت تطل على البحر قبل انخفاض منسوبه.
يوضح موقع المدينة، الذي تم التنقيب عنه واكتشافه، مهارة وإبداع شعب الهاربان في إقامة نظام عالي المستوى في تخطيط المدن فيما يتعلق باستخدام النسب المثالية، وإقامة صلات وروابط بين المناطق المقامة لأغراض محددة، إلى جانب شكل الشوارع، وإقامة نظام فعّال لحفظ المياه نجح في دعم الحياة لأكثر من 1200 عام في ظل مناخٍ قاسٍ حار. كذلك توضح المرافق، وشكل الشوارع التراتبي، واستغلال الفضاء والمساحات الخالية بشكل جيد مثل تخصيص أرض للصناعات، وأرض للمباني الإدارية، إضافة إلى البنية التحتية مثل نظام الصرف الصحي، الحياة الحضرية المتقدمة التي كان الناس يعيشونها في تلك المدينة.
> راكيغاري Rakhigarhi
تعدّ مدينة راكيغاري، التي سبقت في وجودها أشهر مدن حضارة وادي السند، واحدة من أقدم المستوطنات البشرية في تلك الحقبة. وتقع المدينة على القاع الجاف لنهر ساراسفاتي، الذي كان متدفقاً جارياً يوماً ما، ويُعتقد أنه قد جفّ في نحو عام 2000 ق.م. تشير الاستكشافات الأثرية والبيانات العلمية إلى أن مكانة مدينة راكيغاري في حضارة وادي السند كانت أهم من مكانة مدينتي هارابا وموهينجو دارو في باكستان.
يجد المرء التاريخ في جنبات المدينة، حيث الماضي السحيق المتجلي في الحقول أو الأفنية، أو برك الطين، أو الخنادق التي كان يتم حفرها من أجل إقامة أساس منزل. تصدرت القرية، التي تقع في ولاية هاريانا على بعد 150 كيلومتراً من دلهي، عناوين الصحف بعدما أشار حمض نووي لامرأة عاشت في هذا المكان منذ نحو 4500 عام إلى أصول الهنود القدماء التي يدور حولها كثير من الجدل. الدراسة، التي تم نشرها في الدورية العلمية «سيل»، هي ثمرة عملية تنقيب استمرت 5 سنوات في راكيغاري. وأوضحت عينات الحمض النووي، التي تم استخراجها من تلك المرأة، أنها كانت تنتمي إلى شعب بات يعرف حالياً بأنه أجداد أكثر سكان جنوب آسيا. وأوضحت الدراسات أنها لم تكن من الجنس الآري، حيث لم يتم العثور في حمضها النووي على مورثات «رعاة الاستيب»، مما يشير إلى أن الهجرة الآرية إلى المنطقة حدثت بعد انهيار حضارة وادي السند. وأوضحت الدراسات اتصالاً وراثياً مستمراً من القدماء، الذي كانوا يمارسون الصيد والجمع، حتى سكان جنوب آسيا اليوم. ويكشف حجم الأدوات عن مدينة تم تخطيطها جيداً تحت الركام، حيث كانت توجد بها طرقات عريضة، وأنظمة صرف من الطوب، ومذابح للتضحية، وتم العثور بها على آنية وتماثيل فخارية، وأوزان، وأدوات برونزية، وأمشاط، وخطافات نحاسية لصيد السمك، وإبر، وأختام فخارية.
كذلك تم العثور على مسبك للذهب يحتوي على نحو 3 آلاف حجر شبه كريم غير مصقول. وتم العثور أيضاً على كثير من الأدوات المستخدمة في صقل تلك الأحجار، وفرن صهر. وتم العثور على موقع دفن يحتوي على 11 هيكلاً عظمياً، رؤوسها باتجاه الشمال. وكانت توجد بالقرب من جماجم تلك الهياكل العظمية أدوات ذات استخدامات يومية. كان في الرسغ الأيسر لكل هيكل من الهياكل الثلاثة العظمية، وهي لسيدات، أساور من القواقع، وبالقرب من أحد تلك الهياكل كان هناك سوار ذهبي. وكان من بين الأشياء، التي تم العثور عليها، معدات صيد، وألعاب أطفال، وقطع فضية، وآثار لملابس قطنية، وأختام.
لذا تعد المدينة من الأماكن التي سيود زيارتها كل مسافر، يتطلع إلى معرفة تفاصيل عن حضارة وادي السند وكيف ازدهرت لأكثر من ألفي عام.
> أديشتنلور Adichanallur
ظلت مدينة أديشتنلور لبعض الوقت ساحة لنظريات جدلية تم تداولها ومناقشتها حول العالم. تناولت تلك النظريات بعضاً من أهم التساؤلات المتعلقة بتاريخ الجنس البشري؛ لا بتاريخ الهند فحسب. مثلت آثار أديشتنلور، التي بدأت من تشيناي أو مدراس، كما كانت تعرف حينها، تحدياً لألمع العقول في كل من كلكتا، وبرلين، وباريس، ولندن، وأستراليا، وإثاكا في ولاية نيويورك حيث جامعة «كورنيل».
في الموقع الأثري في أديشتنلور، بالقرب من بلدة كارون غلام الناعسة، لا يوجد كثير مما يشير إلى العظمة الغابرة، حيث كشفت 4 بعثات أثرية استكشافية: ألمانية، وفرنسية، وبريطانية، وأخيراً هندية، عن المئات من جرّات الدفن، والتي يرجح أن يكون عمرها آلاف السنوات، إلى جانب بقايا من هياكل عظمية، وآلاف الأدوات المصنوعة من الحديد والبرونز، من بينها أسلحة وحلي ذهبية. تم شحن تلك الآثار إلى تشيناي، وكلكتا، وبرلين، وباريس. وينتظر مبنى حديث الإنشاء، مخصص ليكون متحفاً تمت إقامته في الموقع في أديشتنلور، عودة تلك الآثار.
وعاد الاهتمام بأديشتنلور من جانب المتحمسين التاميل، ومحبي التراث، ومؤيدي الآيديولوجية الدرافيدية بعد اكتشاف تجمع حضري في قرية كيزادي في مقاطعة سيفاغانغا مؤخراً يعود تاريخه إلى عهد سنغام (من 300ق.م حتى 300م). إلى جانب الهياكل العظمية، تم العثور على أكاليل ذهبية عدة يوجد في كل طرف منها ثقب لربطها حول الجبهة، وكذلك على عدد من التماثيل البرونزية الصغيرة لجواميس وماعز ونمور وأفيال.
وكشف فحص عمر عينات مما تم العثور عليه باستخدام الكربون، عن أنها تعود إلى الحقبة ما بين 905ق.م و696ق.م. في الوقت الذي احتوت فيه بعض جرار الدفن هياكل عظمية لأشخاص من أصل تاميلي، تم العثور في البعض الآخر على رفات أشخاص من أستراليا، وجنوب آسيا، وشرق آسيا، والشرق الأوسط، وحوض البحر المتوسط.
> كاليبانغان - راجستان Kalibangan - Rajasthan
من المواقع الأخرى المثيرة للاهتمام موقع كاليبانغان الأثري، والذي يعد جزءاً من حضارة وادي السند القديمة التي يعود تاريخها إلى نحو 5 آلاف عام. يرجع فضل اكتشاف المدينة، التي كانت من مدن حضارة وادي السند، إلى لويدجي بيو تيسيتوري العالم الإيطالي المختص في الدراسات الهندية، وقد بدأ التنقيب عن المدينة عام 1969.
تعود حضارة وادي السند، التي تعد من أقدم حضارات العالم، إلى حقبة ما قبل الحقبة العامة (الحالية)؛ أي منذ ما يزيد على ألفي عام. لم تكن تلك الحضارة تقل في مكانتها عن الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين، حيث ازدهرت لأكثر من ألف عام قبل أن تندثر لسبب غير معروف. وقد أسفرت عمليات الاستكشاف الأثرية في كاليبانغان عن العثور على أختام هارابان، وهياكل عظمية بشرية، ونصوص مجهولة، وأساور نحاسية، وخرز، وعملات، وألعاب، وآنية فخارية، وقواقع، وعجلات، وحلي.