محمد أمين راضي: استلهمت شخصيات «مملكة إبليس» من الواقع

السيناريست المصري قال لـ«الشرق الأوسط» إنّ كل أعماله محرضة على التفكير

لقطة من مسلسل «مملكة إبليس»
لقطة من مسلسل «مملكة إبليس»
TT

محمد أمين راضي: استلهمت شخصيات «مملكة إبليس» من الواقع

لقطة من مسلسل «مملكة إبليس»
لقطة من مسلسل «مملكة إبليس»

نجح الجزء الأول من المسلسل المصري «مملكة إبليس» في تحقيق نسب مشاهدة مرتفعة على إحدى المنصات الإلكترونية، وإثارة اهتمام المشاهدين على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، وبعض الدول العربية. «الشرق الأوسط» التقت مؤلف العمل، السيناريست محمد أمين راضي، الذي تألق في عدد من الأعمال الدرامية السابقة أشهرها: «السبع وصايا» و«نيران صديقة»، و«العهد»، في محاولة للإجابة عن تساؤلات الجمهور الذي ينتظر طرح حلقات الجزء الثاني من العمل المثير للجدل.
في البداية قال راضي، إنّه «لم يتوقع رد فعل الجمهور على المسلسل بهذا الشكل، لا سيما أنّ مشاهدي المنصات الإلكترونية، شريحة جماهيرية معروفة، ولكن وفقاً للمنصة التي عرض عليها المسلسل، فإنّ الإقبال كان أكثر من المتوقع».
وأكد أنّ كل شخصية في العمل تحمل سمات أشخاص التقيتهم من قبل، «كل الشخصيات بلا استثناء حقيقية بشكلها وسلوكياتها، لن يصدق الجمهور أنني قابلت على مدار حياتي كل هذه الشخصيات كـ(الخواجة) و(العجوز) وغيرهما، حتى أسماؤهم حقيقية، لكن كان كل منهم في زمن أو مكان مختلف. فالفكرة هي جمع كل هذه الشخصيات التي تحمل الشر في جوارحها وأكثرها حميمية. هذا التضاد يمكن أن يكون سبب دهشة المشاهد».
يحمل «مملكة إبليس» الكثير من الإسقاطات على المجتمع المصري والتغيرات التي طرأت عليه، لكن راضي يشير إلى أنّه لم «يكن يريد إسقاطاً مباشراً على زمن معين، بل كنت أود أن تكون القصة خارج إطار (زمكان محدد)، فلم يكن لدينا انفلات أمني بالشكل الذي جسده المسلسل سوى عقب الحملة الفرنسية. ولأن المسلسلات التاريخية مكلفة للغاية ولم تعد تثير حماس شركات الإنتاج، كان اختيار اللازمان واللامكان هو بمثابة تجسيد لحظة اختيار لحظة انعدام الأمن، وخضوع الحارة لقانون القوة، وأن السلطة تصبح في يد الأكثر شراً».
وعن اختياره، بعض الفنانين المشاركين في العمل بنفسه، يقول: «بشكل عام لا يحدث ذلك ولا أتخيل الفنانين، لكن أثناء الكتابة كان في ذهني أن يلعب الفنان صبري فواز شخصية (فتحي إبليس) فتوة الحارة، ورأيته أمامي على الورق، فأحيانا يتورط الكاتب في ذلك، إذ يتخيل فنانا معينا والكتابة له».
ورغم أن مسلسل «مملكة إبليس» كان يمكن أن يكون ميلودراما، اتجه راضي إلى كتابته بطريقة كوميدية، ويقول: «نصحني الأستاذ محمد ياسين بالتوجه للكتابة الكوميدية منذ سنوات، ولكن كنت خائفا من الخوض في هذا النوع من الكتابة، وبما أن خطواتي في الدراما أكثر ثباتاً من السينما، فلم أركز جهدي على الكتابة الكوميدية وأثناء كتابة العمل كان في ذهني هذا النوع من الكوميديا القائم على الموقف، وخدم العمل كونه يدور في أجواء فانتازية وعبثية أكثر من الميلودراما».
ويؤكد السيناريست المصري أنه يحب التوليف ما بين الغناء والحوار، ويقول: «في الأعمال السابقة مثل (نيران صديقة) يمكن تغيير الأغنية فلا يتأثر المشهد، بينما في (مملكة إبليس) هناك ارتباط عضوي بين الأغاني والحوار ما يصنع المشهد؛ فإذا تغيرت الأغنية اختل المشهد لأنها تجسد الحارة الغريبة ومزاجها. وسبب اختيار أغاني سعاد حسني في المشاهد هو إهداء لها ولروحها، وله ارتباط بملامح شخصية (حماصة) وهو الذي سنتعرف عليه في الموسم الثاني من المسلسل، لماذا يحبها؟. والرسالة التي أردت إيصالها للجمهور هو أن الطبقات الفقيرة ليست بالضرورة ذات ذوق سيء، فهناك فارق كبير بين العشوائيين وبين الفقراء ومن ينتمون إلى أحياء شعبية. ما أود التأكيد عليه أن الأحياء الشعبية فيها من يسمع موسيقى وله ذوق رفيع».
ويشير راضي إلى سبب توظيفه مشاهد كرتونية في العمل، قائلاً: «هناك سبب درامي، وسبب فني وسبب تسويقي، والسبب الدرامي هو الرئيسي، وكان يجب أن نجد له حلاً، ألا وهو إخراج جثة دفنت منذ 3 أيام، وكان ذلك أمراً محيراً... كيف سيتفاعل المشاهد بصرياً مع المشهد؟، فكان البحث عن المبرر الدرامي وتوظيف الأدوات البصرية، وكان الحل في توظيف (الأنيمشين) لخلق أجواء الكوميديا السوداء العبثية، حيث يخرج أهل الحارة الجثة باعتبار أنها لم تمت».
وعن الانتقادات التي توجه إليه حول تكرار الثيمة الدرامية نفسها والتشابه بين مسلسل «العهد» و«مملكة إبليس»، يوضح قائلاً: «أعتقد أن ارتباط الجمهور بمسلسل (العهد) أدى لذلك، ولا أرى عيبا في أن يكون الكاتب لديه رسائل ومشروع يناقشه عبر عدة أعمال، أرى ذلك طبيعيا. ليس من العيب أن يكون لدى الكاتب رؤية تتسلل عبر كتاباته، الرؤية لدى الكاتب يستقيها من خبرته الحياتية والقراءة ومشاهدة الدراما والسينما. وأعتقد أن الخبرة هي التي تصنع الفارق بين كاتب وآخر، فلا أحد يخوض التجربة الحياتية نفسها وهو ما يجعل حتى الفانتازيا ربما تحمل طابعاً خاصاً يرتبط بالمؤلف».
ويُرجع راضي سبب انشغاله بعالم ما بعد الموت، إلى التّغيرات المجتمعية والسياسية المتتالية في السنوات العشر الأخيرة، كما «أنّ هناك أفكارا كثيرة جداً لم أتناولها في مسلسل (العهد) وجدت أنّها يجب أن تخرج في (مملكة إبليس)، خصوصاً أنني كنت أتمنى أن يتم استكمالها في جزء ثانٍ من (العهد)»، مشيراً إلى أن كل أعماله محرضة على التفكير والتأمل، مؤكداً أن أقرب شخصية لقلبه في العمل هي «حماصة» التي قدمها الفنان كريم قاسم.
ويختتم المؤلف المصري حديثه قائلاً: «كتبت (مملكة إبليس) في عامين ونصف العام، وهو أكثر وقت استغرقته في كتابة مسلسل، إذ كتبت الموسمين 30 حلقة خلال تلك الفترة، ومن المقرر عرض الجزء الثاني من المسلسل العام الجاري، وحالياً أكتب سيناريو فيلم كوميدي أيضاً».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)