عبد الله الوصالي: أحاول سبر غور أنثى شرقية لأكتشف همومها

روائية تحاور روائياً

عبد الله الوصالي  -  غلاف رواية «عشرة أسابيع» للوصالي
عبد الله الوصالي - غلاف رواية «عشرة أسابيع» للوصالي
TT

عبد الله الوصالي: أحاول سبر غور أنثى شرقية لأكتشف همومها

عبد الله الوصالي  -  غلاف رواية «عشرة أسابيع» للوصالي
عبد الله الوصالي - غلاف رواية «عشرة أسابيع» للوصالي

قبل أيام صدرت رواية «عشرة أسابيع بجوار النهر»، للروائي والقاص السعودي عبد الله الوصالي، وهي الرواية الثالثة بعد روايته «أقدار البلدة الطيبة»، «وبمقدار سمك قدم» كما صدرت له ثلاث مجموعات قصصية، آخرها مجموعة «يوريميا» من إصدارات نادي الرياض الأدبي، بالتعاون مع المركز الثقافي العربي.
عبد الله الوصالي، قاص وروائي وناقد ومترجم، حاصل على جوائز في الرواية والقصة القصيرة وجائزة في النص المسرحي. في الحوار التالي يتحدث عن روايته الجديدة «عشرة أسابيع بجوار النهر»، وعن تجربته الأدبية، تحاوره مريم الحسن، وهي قاصة وروائية وفنانة تشكيلية سعودية، وعضو بيت السرد في جمعية الثقافة والفنون بالدمام، أصدرت ثلاث روايات هي: «الضياع»، و«وأشرقت الأيام» و«شرفة لامرأة واحدة»، كما صدرت لها أربع مجموعات قصص قصيرة، وقصيرة جداً هي: «آخر المطاف»، و«خذلان»، و«صقيع يلتهب»، و«نثار» ومجموعة قصصية للأطفال بعنوان: «بحيرة البط».
> أصدرت قبل شهر روايتك الجديدة «عشرة أسابيع بجوار النهر» ولم تكن قد مضت بعد سنة على إصدار مجموعتك القصصية «يوريميا»، بداية حدثنا عن المجموعة القصصية؟ وأيهما أقرب إليك القصة أم الرواية؟
- مجموعة «يوريميا»، هي المجموعة الثالثة في رصيدي من المجموعات القصصية، وقد يصح القول إنها تحمل خريطة تحولات تجربتي القصصية، بداية مع نص «استعصاء العصب» المكثف ذي السمة الرمزية الأقدم في المجموعة، إلى قصة «مطر جالب الخبز»، حيث سمة الطول والنفس الروائي البيّن، وما بين النصين يعتبر تحولات كتابتي القصصية.
ظهرت المجموعة في وقت بدأت كتابة الرواية تسرقني من القصة شيئاً فشيئاً، فكتابة الرواية ذات قوة جذب لا متناهية يعرف ذلك كل من يكتبها فهي تسلبك من كل شيء تقريباً. كل ما أرجوه ألا تكون «يوريميا» النفثة الأخيرة في مرجلي القصصي. وحتى هذه اللحظة أبدو كأنني على مسافة واحدة من الفنين فكفتاهما من الإصدارات متساويتان؛ ثلاث روايات، يقابلها ثلاث مجاميع قصصية.
> إلى أي مدى تخـتلف تقنـيات كتـابة الرواية عن القـصة؟
- قد لا يتسع المجال هنا لذكر اختلافات الفنين الكثيرة في تقنية الكتابة، لكن الأهم هو أن القصة القصيرة تعالج الحدث على مستوى عمودي، أما الرواية فهي أشبه بمعمار وبنية تنبسط أسسها على مساحة أكبر وتنهض للأعلى. بتعبير آخر؛ إذا صح تشبيه القصة القصيرة بنافورة ماء متصاعدة، فيمكن تشبيه الرواية بالبحر المتلاطم.
> هناك من يرى، من الكتّاب والنقاد، أن «عالم السرد القصصي بدأ يفقد وهجه»، فهل أنت مع هذا الرأي؟ وهل ما زالت الفنون السردية محتفظة بقدرتها على الإدهاش والتأثير؟
- نعم لا تزال الفنون السردية قادرة على الإدهاش والتأثير إذا وجد النص المدهش المؤثر، رغم كل المستجدات التقنية وتَحَقُق العالم الافتراضي. الإدهاش والإمتاع سمتان لصيقتان بالفنون وستظلان كذلك إلى الأبد، وهما القناة التي تؤدي إلى تفعيل الأثر النفسي بشكل عام.
لكن (للأسف) القصة القصيرة أصبحت تفقد وهجها في الوقت الراهن. فقبل أسابيع قليلة أُعلنت نتائج جائزة الملتقى للقصة القصيرة التي تشرف عليها الجامعة الأميركية بدولة الكويت وهي في نظري الجائزة الأهم فيما يخص فن القصة القصيرة في العالم العربي. لكنها حظيت باهتمام متواضع، مقارنة بما تحظى به إعلان قوائم جوائز الرواية المتعددة الطويلة والقصيرة من اهتمام ومتابعة ونقد رغم قلته هو الآخر.
لا يجب أن يعتبر هذا موقفاً ضد القصة القصيرة، بل هي رؤية لواقع يجب ألا نمارس تجاهه الإنكار.
> ماذا بشأن التجربة السردية في السعودية؟
- القصة السعودية حتى في أوج ازدهارها لم تكن فرس رهان، أقول ذلك بعد أن قرأت وأعدت قراءة عشرات المجاميع القصصية وبعض الأنثرولوجيا من مختلف أجيال القاصين في الشهور الماضية ضمن مشروع ثقافي. هذا لا يعني عدم وجود تجارب جيدة لكنها غير قادرة لعدة أسباب تشيد المشهد. الوعي الفني العام لكتّاب القصة يشهد تراجعاً منذ سنوات، ومفهوم القص مشوش لدى أجيال الكتّاب الجدد المنفصلون عن سياقاتهم الإبداعية التاريخية.
عشرة أسابيع بجوار النهر
> كيف تقدم روايتك الأخيرة: «عشرة أسابيع بجوار النهر»، للقراء وفي أي الأجواء كتبتها؟
- هي نتاج جهد ليس بالقليل من الكتابة وإعادة الكتابة، وتجربة أرجو أن تكون مميزة وفريدة في جمالياتها وعمقها. بِتُ أرى أن مكافأتي عن ذلك الجهد هو إمكانية نقاش، مجرد نقاش، وكوب من القهوة في صحبة قارئ قرأ الرواية، أجدها متعة لا توصف. أما عن أجواء كتابتها فقد كنت تحت تأثير زيارتي الثقافية إلى الولايات المتحدة ككاتب مقيم، وكما هو معروف فكتابة الرواية نضحٌ من الذاكرة يحدوه الحنين وأصالة التجربة موضوع الكتابة.
> هل هناك حدث معين حفزك لكتابة هذه الرواية؟ وما الشواغل التي اشتغلت عليها فيها؟!
- يملك الروائي دوماً أفكاراً ووجهات نظر ومنطقاً عن الحياة والأحداث، وحين يلوح له الإطار المناسب لتقديمها يبدأ الاشتغال على ذلك. وجدت في زيارتي الثقافية للولايات المتحدة الإطار المناسب لطرح الإشكالات التي تمخض عنها الربيع العربي. طبعاً مع الابتعاد عن التسجيلية والإيفاء بالشرط الجمالي للعمل الروائي، ومع ذلك يبقى دافع كتابة نص روائي طويل وشاق أمراً غامضاً مهما فسره المحللون.
> يلجأ بعض الأدباء إلى الكتابة حتى يتخلصوا من آلامهم، أو ليبوحوا بأحزانهم، تُرى لماذا كتب الوصالي هذه الرواية ما الذي ألم به؟
- يجمعني مع الكتّاب الآخرين دافع التواصل الروحي العميق مع العالم. بيد أن هناك دافعاً يخصني لا يقل أهمية عن الأول وهو متعة الإمعان في مغامرة الكتابة واجتراح نص سردي وتجربة صنع قيمة جمالية مختلفة. لكن مجرد رد فعل مباشر على الألم والحزن ليس كافياً وحده لإبداع أعمال روائية متميزة.
> في هذه الرواية تُروى بصوت أنثى بينما الراوي رجل، حدثنا عن هذا التقمص المقتدر والتمازج بين الكاتب والراوية؟
- عرفت التجارب السردية الكثير من استخدام جنس راوٍ مختلف عن جنس الكاتب، يخطر في ذاكرتي الآن رواية «زهور تأكلها النار» للروائي السوداني أمير تاج السر. وكما سمعت هناك محاولات سعودية جديدة أيضاً.
بالنسبة لي كانت هذه التجربة الأولى بهذا الحجم حتمته ضرورة فنية، فعن طريق توظيف أنثى كشاهد عيان (Eye Witness) تعيش وتتنقل بين الشخصيات، أمكنني إيجاد المبرر المقنع لسبر غور سيكولوجيا أنثى شرقية واكتشاف همومها وإشكالاتها الجندرية في مجتمعها المحافظ وطرح قضايا النسوية، وأمكنني أيضاً الإشارة من طرف خفي إلى تجذر حالة المحافظة الاجتماعية لدى الجيل العربي المهاجر الأول من خلال علاقة الراوية مع أبيها.
> كيف عالجت موضوع الاغتراب في روايتك الأخيرة...؟
- حالة الاغتراب ظاهرة بشرية كونية مرتبطة بالمفكرين والكتّاب. «فكلما كانت أصالة الفرد أكثر تجذراً، ازداد اضطراره للاغتراب عن مجتمعه» كما يقول نيتشه.
ملاحظتك ملاحظة نقدية مهمة. الفارق الذي يمكن أن يحسب لـ«عشرة أسابيع بجوار النهر» أنها كتبت على لسان فتاة تختلف تماماً عن روح الكاتب في جميع أبعادها الثقافية والجندرية. هنا مكمن الصعوبة، فالثقافة هي منطلق سلوك وتفكير ومنطق الشخصية الذي سوف تظهر به في النص. كيف تستطيع تحييد كل تلك الثقافات المتداخلة في ذاتك أمر صعب جداً.
أنا من المؤمنين بأن الرواية في جانب كبير منها صناعة تستلزم من الكاتب إعداد ما يلزم لإبداعها. هذه الرواية اتكأت كما أسلفنا على إقامة في الفضاء الذي تقع فيه أحداث الرواية، وفي الوطن كانت صيرورتها نحو صيغتها النهائية.
> العمل الأدبي هو الذي يصنع تاريخه... هل يجب امتلاك ثقافة تاريخية ليتمكن الروائي من التحكم في فصول روايته وأحداثها؟
- أعتقد أنه على الروائي أن يمتلك كل ما يسعه امتلاكه فنياً أو معرفياً من أجل عمله الروائي، ذلك أدعى أن يمنحه الثقة وقدرة أكبر في الإمساك بناصية الرواية وتعميق القيمة الفنية لنصه. بالنسبة لي غدت الكتابة السردية سعياً معرفياً، يحدد معالمه تشكل العمل الروائي بدءاً بالثيمة، وطبيعة الشخوص... إلخ مما يحتم قراءات معمقة في شؤون مختلفة.
> إلى أي حدّ ينحاز الكاتب إلى الواقع، وما اللحظة التي يشعر فيها أنه على وشك الانفجار الداخلي، والتمرّد على هذا الواقع، بإطلاق العنان لخياله الروائي؟
- يستفز استقرار الواقع وبلادته الكاتب، فيلجأ عبر الكتابة إلى إقلاق ذلك السكون ومحاولة إعادة تشكيل الواقع على نحو أكثر حيوية وشفافية، إذ دائماً ما يؤمن الكاتب أنه يرى مالا يراه الآخرون مما يشعره بالتوتر، «فالذين يمتلكون موهبة التعبير عما يعانون تزداد معاناتهم بين الجموع الصامتة» كما يقول نيتشه من جديد. في هذه الرواية تحديداً اعتقدت في البداية بأني سوف أكتب نصاً سهلاً فمعظم الشخوص كانت ماثلة أمامي ولها ما يقابلها على أرض الواقع، لكن يبدو أن كتابة النص الروائي لا تندرج ضمن قائمة الأمور السهلة لدي.
> هل تتمتع شخصياتك الروائية، بحالة من الانعتاق من سلطة الكاتب اللغوية والفكرية؟
- هذا ما أحاول تحقيقه في كل أعمالي السردية، فأنا ميال بطبعي إلى ديمقراطية الأفكار التي تتيحها الرواية البوليفونية. عندما تخلق شخصيات روائية متعددة المشارب والانتماءات فليس لك خيار إلا أن تدعها تتحدث عن نفسها عبرك. لكن توظيف وجهات نظر شتى يوجب الحرص والتدقيق والإلمام الجيد بثقافة الشخوص المتعددة.
> أخيراً، ما عملك الأدبي المقبل؟
- هناك كتاب يمزج بين القصة القصيرة والمسرح تستعد جمعية الثقافة والفنون بالدمام إصداره في مهرجان المسرح القادم. كما لدي أول عمل في مجال الترجمة لكتاب (How The Literature plays with Brain) «كيف يلعب الأدب بالدماغ» لبول أرمسترونغ عن دار كلمات بالشارقة.
بعد كل عمل أدبي يرتفع عندي معدل التوق للقراءة، لذا فالرتوش الأولية عن موضوع الرواية القادمة لم تصل بعد إلى ما يمكن الإعلان عنه وربما تحولت عنه إلى موضوع آخر من المواضيع الكثيرة التي تقلقني.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.