حياة «سلفستر الثاني»... تبنّى علوم العرب وشيطنه الإنجليز

أكثر باباوات الفاتيكان إثارة للجدل

حياة «سلفستر الثاني»... تبنّى علوم العرب وشيطنه الإنجليز
TT

حياة «سلفستر الثاني»... تبنّى علوم العرب وشيطنه الإنجليز

حياة «سلفستر الثاني»... تبنّى علوم العرب وشيطنه الإنجليز

بجرأة وبحث دقيق يتحرى الكاتب المصري الفرانكفوني الدكتور أحمد يوسف حياة واحد من أكثر الباباوات إثارة للجدل في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية هو البابا سلفستر الثاني.
الكتاب الصادر حديثاً بالفرنسية بعنوان «البابا الذي أحب الله... من قرطبة إلى الفاتيكان ألف عام من سوء الفهم»، يقع في 222 صفحة عن دار نشر «ديرفي» الباريسية.
تكمن أهمية الكتاب في كونه يتتبع رحلة بابا الفاتيكان سلفستر الثاني الذي قال مرة: «لا يمكن لأوروبا أن تتقدم إلا بمعرفة علوم العرب».
يقول المؤلف في حديث هاتفي مع «الشرق الأوسط»: «يعتبر سلفستر الثاني المولود في فرنسا (946 - 1003) واسمه الحقيقي جربير دورياك هو أول بابا فرنسي للفاتيكان، وهو أول من أدخل الأرقام الحسابية العربية لأوروبا، وهجاه الشاعر الفرنسي فيكتور هوجو في قصيدة بديوانه (أسطورة العصور)، كما أشيع أن هذا البابا يقضي وقته في التجارب السوداء، وأنه يحاول القضاء على البشرية، وقد نسجت حول حياته الكثير من الإشاعات ومرت تقريباً ألف سنة من سوء الفهم والمغالطات التي أحاطت بحياته ومؤلفاته وإرثه الحضاري من منظور تعامل الغرب مع الإسلام».
يسلط الكتاب الضوء من جديد على حياة هذا البابا، مفككاً الغموض والالتباس حوله واتهامه بالشعوذة والسحر؛ إذ يشير المؤلف إلى أن سلفستر أعطى أوامر بترجمة الكتب والمخطوطات العربية ومواكبتها لكي يتمكن من الاطلاع عليها، وانغمس في علوم العرب، خصوصاً الحساب والفلك والكيمياء والطب. ويضيف يوسف: استغرق البحث في سيرة هذا البابا نحو 4 سنوات قمت خلالها بزيارة البلدة التي ولد فيها (أورياك)، والدير الذي قضى به طفولته ومطلع شبابه في بلدة ريبول بإقليم كاتالونيا الملاصق للأندلس في جنوب إسبانيا، وتصادف أن أمير إسباني مسيحي (الكونت بوريل) استقدمه للدراسة بإسبانيا، وهناك انغمس البابا في التعلم، خاصة اللغة العربية».
عاش سلفستر الثاني 53 سنة شغوفاً بالعلوم، وبعد أن صنع أسطرلاباً صنع أيضاً أول ساعة ميكانيكية لينتهي عصر الساعات الشمسية والرملية، وأول آلة حاسبة في التاريخ، ومن ثم لم يكن غريباً اتهامه بالشعوذة والمس والسحر؛ لأن الكنيسة المسيحية في ذاك الوقت كانت ضد العلم في العصور الوسطى.
ويؤكد الكتاب عبر استشهادات ومراجع، أن سلفستر الثاني بتبنيه علوم العرب أنقذ الغرب من الانحدار والانهيار، لكنه لم يدخل الإسلام كما أشيع أيضاً، ويجيب بوضوح عن إسهامات الإسلام في الحضارة الغربية عبر تقديم المؤلف لأول مرة قائمة بأسماء المراجع اللاتينية والهندية التي ترجمها العرب قبل أن تطلع عليها أوروبا مطلقاً عليها.
وفي فصول كرسها المؤلف للإرث الحضاري للبابا سلفستر الثاني عبر الألفية التي تلت وفاته يكشف تأثر أباطرة ألمانيا وفرنسا وملوك أوروبا، ومنهم الإمبراطور فريديريك الثاني، الذي اشتهر عهده بالصراع مع البابوية من أجل السيطرة على إيطاليا، وقاد الحملة الصليبية السادسة (1228 - 1229)، وهي لم تكن صليبية في الواقع؛ إذ وقّع الإمبراطور معاهدة سلام مع الملك الكامل سلطان مصر حصل بمقتضاها علي القدس دون إراقة دماء مقابل حرية العبادة والسلام للمسلمين.
وقد أعجب فريدريك الثاني بالثقافة العربية الإسلامية، وشجع دراستها والترجمة منها. وأصبحت صقلية في عهده مركزاً مهماً لانتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا. لكن معاهدة الإمبراطور مع مصر حنق الفاتيكان، فاتهموه بالهرطقة والخروج عن الدين.
ومن الإرث الجرماني إلى الإرث الفرنسي، يفتح الكتاب ملف تأثر الإمبراطور نابليون الثالث بمنهج البابا. واعتبر السان سيمونيون في فرنسا أنهم ورثة انفتاح البابا علي حضارة الشرق وورثة نهج نابليون الأول، ومن ثم قدموا للإمبراطور نابليون الثالث مشروع «المملكة العربية لفرنسا»، الذي أراد أن يجعل من الجزائر مملكة تابعة للتاج الفرنسي ليحقق حلم الربط بين الشرق والغرب، ويولّي عليها الأمير عبد القادر الجزائري لإعجابه الشديد به.
وكان انتخاب جربير أورياك لمنصب البابوية قد تم في 2 أبريل (نيسان) 999، وتوفي بعد ذلك بأربع سنوات في 12 مايو (أيار) 1003. ويلفت المؤلف إلى أن أهمية دراسة هذه الحقبة التاريخية الحرجة مهمة للتعرف على الفترة التي تلته والتي أنجبت ليوناردو دافنشي ونيوتن وصولاً لأينشتين وجول فيرن.
وحول دور الإنجليز في شيطنة بابا الفاتيكان، يروي الكتاب أنه قبل مرور 100 عام على وفاة البابا سلفستر الثاني عام 1003م ظهر الكونت مالميزبوري في لندن ومعه وثائق عدة يقول إنه حصل عليها من أحد الرحالة الإنجليز في الأندلس، وتكشف عن أن جربير دورياك «سلفستر الثاني» كان تلميذاً في مدارس المسلمين في قرطبة، وأنه تعلم السحر على أيدي العرب المغاربة في هذه المدينة، وأنه كان يمارس ألعاب السحر، وكان على صلة بالشيطان،، مضيفاً أنه عندما كان جربير دورياك طالباً في مدرسة العالم الأندلسي المرجيطي في مدريد كان يذهب للحدائق والمقابر ليلاً ليتحادث مع الموتى، ويقوم بأفعال السحر فيها قبل أن يعود لدير ريبول الذي يقيم فيه بمقاطعة كاتالونيا بإسبانيا».
لكن الكتاب يوضح أن هناك مؤرخين كثيرين يعتقدون أن البابا سلفستر الثاني تعرض لهذه الحملة العنيفة من الإنجليز؛ «لأنه أول فرنسي يتولى هذا المنصب في الفاتيكان، ثانياً: لأن الإنجليز كانوا يعتبرون الكنيسة الكاثوليكية هي عدوة مطلقة لكنيستهم الإنجليكانية، وأن إدخال علوم العرب على هذه الكنيسة ما هي إلا بداية انحدار الغرب».
ويتابع: ظهرت في الفترة نفسها تقريباً بعد أقل من 100 عام على وفاة البابا روايات أخرى رواها بعض تلاميذه، تقول إن جربير دورياك تعلم بالفعل في مدارس العرب، وحينما أصبح بابا الفاتيكان طلب ترجمة مجمل علوم العرب، خاصة في علوم الطب والرياضيات والكيمياء، وطلب من بعض المبعوثين «المستعربين» الذين كان يرسلهم إلى قرطبة الرجوع إليه من بلاد العرب ومعهم اختراعات العرب في علم الحساب الجديد، وعلى أثر ذلك اخترع الآلة الحاسبة، وفي مجال العلوم الفلكية اخترع أسطرلاباً، واخترع الساعة الميكانيكية بتروس فيما بعد بناءً على علوم العرب في حساب مواقيت الشمس والقمر، وكان ذلك بداية فتح كبير في علوم تحديد الزمن في ذاك الوقت.
هناك شهود تاريخية على أن كل الرحالة الأوروبيين الذين انطلقوا في رحلة استكشاف العالم من جديد، سواء البرتغالي فاسكو دي غاما في اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، أو كريستوفر كولومبوس في اكتشاف الأميركتين، استخدموا اختراعات البابا في جولاتهم... إذ ساهمت اكتشافات البابا في دخول أوروبا في عصر الاكتشافات الجديد الذي ستكون له توابع شديدة الأهمية على اقتصاد الحضارات العربية في مصر وبلاد المغرب العربي، وسوف تنحدر الحضارات العربية بداية من نهايات القرن الحادي عشر وبدايات القرن الثاني عشر الميلادي مع ظهور الاكتشافات الجغرافية، وعلى وجه الدقة غداة الحروب الصليبية.
ويوضح الكتاب أن الإنجليز دعموا فكرة شيطنة البابا على مدار القرون من الرابع عشر وحتى السادس عشر، وتأثر بها المؤرخون الفرنسيون والكتاب والمثقفون الفرنسيون، وفي نحو عام 1853 أرادت فرنسا الاحتفال بذكرى البابا، وأقامت له تمثالاً كبيراً في مدينة أورياك في جنوب فرنسا بمسقط رأسه، لكن روى بعض الناس في القرن التاسع عشر عن أنه يوم إسدال الستار على التمثال ثارت عاصفة كبيرة وتوفي بعض الحضور، وقيل إن هنالك لعنة ما تحيط به، وإن الموتى خرجوا من قبورهم».



قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.