«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (4): كوبا تسأل عن ثورتها وروسيا عن ماضيها

في حين يدخل مهرجان برلين عامه السبعين، هناك مناسبة مهمّة أخرى لازمته منذ سنة 1971، وتدخل بدورها عامها الخمسين. هذه المناسبة هي قسم «فورام» الذي تديره هذا العام الناقدة الألمانية كرستينا نورد.
في الماضي، كان لهذا القسم اعتبار أعلى مما أصبح عليه في السنوات العشرين الأخيرة؛ كان يعرض ما تبدّى كأفلام ذات نزعة تجريبية أو سياسية أو مختلفة، وكان يجمع عشرات الأفلام التي يحاول مخرجوها البقاء تحت مظلة الاستقلال التام عن التيارات السائدة.
الكم لم يعد كبيراً (26 فيلماً بدل نحو 40 فيلماً في بعض السنوات)، كون البرنامج صار أكثر تحديداً مما كان عليه سابقاً بالنسبة لما يريد عرضه من أعمال. وبالتالي، أصبح أقل جذباً للمشاهد الذي ينوي مشاهدة كل ما يدور في رحاب السينما من أعمال، إذا استطاع. وبينما كان الجمهور الداخل لقاعات «فورام» من قبل مؤلفاً من فئات ومهن مختلفة، أصبح غالبه من الذين يطلبونه لذاته.
أحد أسباب ذلك يعود إلى قسم آخر أسسه المهرجان قبل عقود، ويحتوي هذا العام على 22 فيلماً. هذا القسم اسمه «بانوراما»، وفحواه عرض أفلام متطرفة، إذ يجد المرء فيه أفلاماً عن كل شيء لا ينتمي إلى أفلام المؤسسات وأنواعها الكثيرة. فهناك الأفلام المتطرفة سياسياً، والأفلام المتطرفة نسائياً، وهو يرحب بالأفلام المتطرفة جنسياً، خصوصاً إذا ما كانت عن المثلية وتجارب الحب المختلفة.
ولكي يؤلف قسم «بانوراما» أفلامه، سحب من قسم «فورام» كثيراً مما كان يتألف منه، وترك له الأفلام التجريبية وتلك التي لا جمهور كبير لها.
«ملاحظات آنا أزوري» يستطيع أن يلخص ما يقوم عليه قسم «فورام»، والنوعية المختارة من أفلامه؛ إنه فيلم عن فيلم تم تحقيقه سنة 1975، بعنوان «آنا». آنذاك، وجد المخرجان ألبرتو غريفي (توفي سنة 2006 عن نحو 25 فيلماً) وماسيمو سارشيللي (توفي 2010 عن 98 فيلماً) امرأة شابة تعاني من الدعة والفقر وغموض المستقبل، فقاما بتصوير فيلم من 225 دقيقة، عرضه قسم «فورام» في ذلك العام.
- فيلم عن فيلم
الفيلم الجديد يعود إلى فيلم «آنا» ليبحث فيما عنته تلك الشخصية وأوحت به من واقع اجتماعي، لكن هذا ليس سوى جانب واحد من هذا الإنتاج النمساوي - الألماني المشترك. وباقي ما يطرحه هو لقطات أرشيفية، وأخرى حية، وكثير من اللقطات التي تعني للمخرج كونستانس روم أكثر مما تعني لسواه. هو فيلم تجريبي تنتقل صوره من الوجوه إلى الأشجار، ومن الأشجار إلى المياه، وفي وسط كل ذلك دعوة مؤيدة للمرأة، ونوع من فحص المسافة الزمنية بين وضعها وحقوقها في السبعينات وحالها اليوم. لكن آنا ذاتها تبقى في صورة الفيلم الأول أكثر حضوراً منها حالياً.
وأفضل منه فيلم «ما بين كلب وذئب» لإيرين غوتييريز. فيلم كوبي حول ثلاثة رجال من ثوار السبعينات يشقون طريقهم في الأدغال محمّلين بالشكوك حول أهدافهم التي لا يفصح عنها الفيلم. طريقته في التعامل مع هؤلاء هي تركهم يعكسون الوضع الصعب للحياة التي اختاروها. لن نعرف ما المهمّة التي هم بصددها، وأين تقع، لكنّنا سنلحظ أنّ أحدهم يعلن ريبته بكل شيء، والآخر ماض بحزم مكتوم، وإيمان لا ندري مدى ثباته، والثالث يعاني من جرح في ساقه يهدد سلامتها.
ما توحي به المخرجة الكوبية الشابة ليس فقط أين أصبحت الثورة اليوم، بل ما كانت عليه في السابق أيضاً. هناك تصوير دافئ للأدغال وسخونة الأجواء ودكانة الضباب. إنّه كما لو أرادت أن تؤكد أنّ قسوة الطبيعة وحياة هؤلاء الرجال باتت واحدة في عبثها.
- روسيا بين عالمين
القدر نفسه من الحيرة وعدم الثقة وغزارة التساؤلات يصلنا من فيلم روسي هذه المرّة، بعنوان «نوم عميق» لماريا إغناتينغو، حيث كل شيء هنا يبدأ ويتوقف كما لو أنّ الحياة عبارة عن حلقات مستديرة، لكنّها مقطوعة الأوصال. بطل الفيلم بحار متهم بقتل ميكانيكي، والفيلم ينتقل بأحداثه بين أكثر من فصل، كل منها يؤرخ لمرحلة من حياة المتهم: المرحلة الأولى عاطفية الانبعاث، فالبحار كان عاشقاً لفتاة تعرضت لحادثة وماتت، وحياته من بعدها لم تعد كما كانت عليه. فصلان آخران يتناولان وضعه النفسي، وتساؤلاته التي لا تقوده إلى أجوبة. كذلك لا يقودنا الفيلم -عن قصد- إلى قرار نتخذه حول ما إذا كان البحار بريئاً مما نسب إليه من تهمة، ولو أن القصة ستقودنا إلى ذلك الحدث.
وفي طيّات هذا الفيلم، توحي المخرجة بأنّ روسيا ما زالت ضائعة بين إرث الأمس وواقع اليوم. فيلم جيد يحتاج إلى مهرجان متخصّص، وليس فقط إلى قسم في مهرجان كبير كهذا.
هناك فيلم قلق آخر يمكن ضمّه إلى هذه المجموعة، وهو «جريمة مشتركة» الذي عرضه قسم بانوراما. امرأة شابة (إليسا كاريكاجو) تعيش وحيدة مع ابنها الصغير. وفي إحدى الليالي الداكنة، تسمع طرقاً على الباب؛ إنّه صديقها السابق، لكنّها تخشى دخوله ووجوده وترفضه. وفي اليوم التالي، يجد البوليس جثته طافية في نهر البلدة القريب.
الحادثة الغامضة (ليس معروفاً من قتله ولماذا) تكون سبباً في مراجعة بطلة الفيلم لنفسها، وطرح أسئلة من نوع: هل قصدها صديقها السابق لإيوائه؟ هل كانت سبباً غير مباشر في مقتله؟ المخرج الأرجنتيني فرنشسكو ماركيز يتوسع للبحث فيما يراه غياب العدالة مع غياب الطبقة الوسطى، وانقسام المجتمع بين فقير وغني. والطريقة التي يدفع بها المخرج هذا الخط السياسي ليست كاملة سلسة، لكنّها موحية به جيداً. ومثل الفيلم الكوبي، يعتمد على الأجواء النفسية، كما الطبيعية.
- لقطة منك لقطة مني
وعلى صعيد المسابقة، حدّث ولا حرج. فالأفلام تبدو كما لو كانت تُرمى على الشاشات لنترحّم على جيل من المخرجين كنّا نحضر الدورات السابقة لمجرد ذكر أسمائهم. اليوم، أي اسم تراه يحتل مكانه فوق العنوان في الدعايات وعلى الشاشة كما لو كان قد وُلد بحجم كيروساوا أو فيلليني أو كارلوس ساورا أو كوبولا.
في «امح التاريخ» (Delete History) لبنوا دليبين وغوستان كرفرن، حكاية تتصل بعالمنا اليوم، حيث يعيش رجل وزوجته وابنتهما في فوضى الإنترنت، والمتوفر من حياة افتراضية أصبح معظمنا يتابعها كما لو كانت بديلاً لحياتنا على الأرض.
الفتاة الشابة تصوّر قطتها، وتحقق مئات ملايين المتابعين، لكنّ الأب يلحظ أنّ كل ذلك لم يحقق دخلاً يتمناه ليدفع ديونه، وهو في الأصل يريد حماية ابنته من التورط أكثر في لعبة الحياة الافتراضية، لئلا تخسر الواقع الذي تعيش فيه، لكنّها تتورط بلا ريب، إذ هناك من يحاول ابتزاز الفتاة بعدما صوّرها في خلوة جنسية مع عشيقها.
هذا الفيلم الفرنسي عبارة عن خطوط نحيفة لا يشكل أي منها سبباً لفيلم، إذ تتوازى وتشكل في النصف الثاني مشروع فيلم ذي قيمة، نجد الفيلم أضعف بنية من أن يحمل مشاهديه إلى رحاب جديد. الإضافة الوحيدة للفيلم هي أنّه يتبع التقليد الشائع: قليل من الإبداع في الصورة وكثير من الحوار.
فيلم آخر لا يبلغ مداه هو «كل الموتى» (All the Dead Ones) للمخرجين ماركو دورتا وكياتانو غوتاردو. وهما والمخرجان الفرنسيان صانعا «امح التاريخ» من جملة عدة ثنائيات إخراجية لاحظناها هذا العام، بعضها -بل معظمها- يبعث على السؤال حول: لماذا على الفيلم الواحد أن يضم مخرجين؟ وكيف يعملان معاً؟ هل يوزعا العمل على أساس لقطة منك ولقطة مني أم أنّهما يبحثان في المشهد المقبل برأيين؟ وماذا يحدث إذا ما اختلفا؟
على الأقل، الأخوان تاڤياني في إيطاليا، والأخوان كوون في أميركا، مشهود لهم بالعمل عن كثب وفي تعاضد، وبرؤية فنية لا تخيب. لكنّها تخيب في «امح التاريخ»، وتخيب في «كل الموتى»، ولا تستطيع أن تبرّر نفسها في كليهما.
هذا الفيلم الدرامي عن التركة الثقيلة للوضع العنصري الذي كان سائداً حتى سنة 1888، حين صدر قرار رسمي بحرمانه. القرار لم يحل إشكالات الحياة بعد أكثر من مائة سنة من العبودية: الخدم الذين كانوا يعملون عبيداً في المزارع وفي البيوت توقفوا عن الأعمال المهينة، لكن أحوالهم لم تتحسن اقتصادياً، وما زالوا في قاع الحياة؛ وعقلية البيض الآتين من القارة الأوروبية (البرتغال أساساً) ما زالت كما هي، وحين لا تحصل على مميزاتها السابقة تعبر عن أسفها لزمن مضى، من دون شعور بالذنب لما عانى منه الفريق الآخر.
إنّها علاقة شائكة تعبث برجاحة عقل إحدى فتيات العائلة البيضاء الكبيرة التي اعتادت على حياة تختلف عما آلت إليه. ما زالت ثرية لديها حرية كبيرة في فعل أي شيء تريده، لكنّ الانعكاسات النفسية شديدة الوطأة، وعلى نحو غير مقنع. إحدى بنات العائلة تلجأ للكنيسة كراهبة، وأخرى تلجأ إلى الوهم، وتكاد تفقد رجاحة عقلها.
كل شخصية في الفيلم (وهناك شخصيات كثيرة أخرى) يُراد منها أن تكون أمثولة في فيلم يرسم صورة بانورامية تفتقد العمق. والأحداث دائماً واضحة أكثر من اللزوم، ما يصنع عملاً محدود القيمة.
- برودة
في المسابقة أيضاً الفيلم الكوري «المرأة التي ركضت» للكوري الجنوبي هونغ سانغسو الذي يقص هنا حكاية زوجة سافر زوجها في رحلة عمل، فتنتهز الفرصة لمقابلة صديقات لها. في كل واحدة جانب من الشّخصيات يتم كشفها، بما فيها شخصية الزوجة. ليس هناك حدث كبير يقع، ما يؤدي إلى مواجهات وأزمات، لكن هناك إيحاءات بأزمات داخلية.
المخرج يبدأ وينتهي بإيحاءاته، ولا يُقيم وزناً لفاعلية المادة ذاتها، أو الرغبة في تصوير حدث يكون له وقع درامي فاصل بين مرحلة من الفيلم ومرحلة أخرى.
كثير من أسلوب هونغ سانغسو لم يتغير منذ سنوات؛ يميل إلى اللقطات البعيدة، وإلى حوار لا يريد له أن يتوقف، والحياة التي يصورها بليدة، والحرارة دون الصفر بين الفيلم والمتلقي العادي. على المرء أن يبحث عن دافع أقوى مما يعرضه المخرج لكي يجد الزاوية التي يستطيع من خلالها تحريك الجمود الواقع داخل الفيلم، وبين الفيلم وبينه هو.
هذا كان شأنه كذلك في فيلمه الأسبق «صحيح الآن، خطأ حينها» (Right Now… Wrong Then‪)، الذي احتوى كذلك على بصريات بسيطة، وحبكة بالبساطة نفسها، وعلى مشاهد متكررة. ورغم ذلك، وفي فيلمه ذاك، كما في الفيلم الحالي، يستطيع بعضنا أن يجد عذوبة في الأسلوب الذي يتبعه. على الأقل، لا يحاول، كما حال فيلم آبل فيرارا «سايبيريا»، فرض ما يراه عليك، ويتوقف بعد نحو 75 دقيقة عن الكلام المباح.