تجمع رواية «حطب سراييفو» لسعيد خطيبي، الصادرة عن «منشورات ضفاف والاختلاف» بين الواقعية والخيال المجنّح، ويعود زمن الشروع بكتابتها إلى عام 2013، حينما عثر الكاتب على أسماء بعض الجزائريين الذين قضوا نحْبَهم في حرب البوسنة والهرسك في متحف خاص بسراييفو. لكن الرواية لا تتمحور حول حرب البوسنة والهرسك، أو الحرب الأهلية الجزائرية، وإنما تتخذ منهما خلفية للأحداث والشخصيات الكثيرة التي يحتشد بها هذا النص السردي المُحكم في بنيته المعمارية.
إنها، باختصار شديد، رواية الناجين من الحروب والصراعات العرقية والدينية في يوغسلافيا سابقاً و«سنوات الجمر» التي نشبت في التسعينات من القرن الماضي إبّان هيمنة المدّ الديني المتطرّف في الجزائر.
يمهّد سعيد خطيبي للشخصيتين الرئيستين في روايته قبل أن يشرع في الفصل الأول منها، فيعرِّفنا على سليم، الصحافي الذي يعمل في صحيفة «الحرّ»، ويُكلّف من قبل رئيس التحرير بالذهاب إلى قرية سيدي لبقع، لتغطية حادث إرهابي راح ضحيته 30 شخصاً ذُبحوا من الوريد إلى الوريد.
كما نتعرّف على مليكة، مدرّسة اللغة الإنجليزية التي بلغت عقدها الثالث، وأحبّت «سليماً» من دون أن تطلب منه الزواج، وقد تلقّت تهديداً من «نواطير الأرواح»، لكنها لم تُعر هذا التهديد أي اهتمام، وقد قالت ذات مرة: «مَنْ يخاف الموت، فلن ينعم بمباهج الحياة». يتلقى سليم دعوة من عمه «سي أحمد» لزيارته في العاصمة السلوفينية ليوبليانا بعد أن اشترى فيها منزلاً جديداً.
أما التمهيد لإيفانا فينطلق من علاقتها بغوران، الشاب الذي هجرها، وسافر إلى فرانكفورت، قبل أن تُعرّفنا بأفراد أسرتها المكونة من والدها أنتون، وأمها سلافينكا، وشقيقتها آنا التي فشل الأطباء في علاج مرضها العقلي، إضافة إلى شقيقها ساشا الذي هاجر هو الآخر إلى ليوبليانا بحثاً عن حياة آمنة كريمة.
تحمل إيفانا في حقيبتها مخطوطة مسرحيتها التي تباطأت في إكمالها رغم أنها كانت تستعين ببوريس، الكاتب والصحافي المعروف الذي يساعدها في ترجمة المسرحية إلى الإنجليزية مقابل أن تمنحه متعة عابرة.
تتكشّف لنا أحداث الأسرتين معاً لنعرف بأنّ الرواية تدور حول الهُويات المتشظيّة لمعظم شخصيات الرواية التي تمتدّ من سليم إلى أبويه، ومن إيفانا إلى أسرتها التي نجت من الحرب البوسنية، لكنها لم تسلم من تداعياتها الخطيرة. يسافر سليم إلى ليوبليانا بعد فقدان أمه بسبب مرض سرطان المعدة، وإصابة والده بالزهايمر، بينما تحزم إيفانا حقيبتها وترحل إلى ليوبليانا بعد موت أبيها الذي لم تذرف أمها دمعة واحدة على وفاته. كانت إيفانا تحلم بأن تكون ممثلة أو كاتبة مسرحية، ولطالما تبجحت مازحة بأنّ «سراييفو أنجبت أمير كوستوريتسا في السينما وإيفانا يوليتش في المسرح»، لكنها في واقع الحال لم تجد وظيفة أرقى من نادلة في مقهى أو منظفة في فندق. كان الناس ينعتون والدها باللقيط، الأمر الذي سبّب له أرقاً مزمناً، وكان يعاقبها بين آونة وأخرى، ولا يجد حرجاً في قذفها ببذيء الكلام، لكنه لم يعترض على التحاقها بأكاديمية الفنون، فهي مسكونة بالمسرح، ومنقطعة إليه، وتكتب كلما وجدت متسعاً من الوقت بمساعدة بوريس الذي يبتزها مادياً وجسدياً.
تعتمد هذه الرواية على تقنية السرد الدائري، فليست هناك أنساق مستقيمة تتصاعد على وفق الأحداث، فثمة ارتجاعات متعددة تعود بنا إلى الحرب العالمية الثانية، وإلى حرب التحرير في الجزائر في خمسينات القرن الماضي، لكن الحاضر يهيمن على مدار الرواية، ويرصد الوقائع التي تحفّ بالبطَلين سليم وإيفانا، وما يصادفانه من أحداث تنطوي على الكثير من الغرابة والترويع.
فقبل أن يصل سليم إلى ليوبليانا، كانت إيفانا تعمل نادلة في مقهى «تريغلاو» العائد لعمّه «سي أحمد»، لكنّ هذا الأخير كان يبتزها جنسياً مقابل استمرارها في العمل. ويبدو أنّ علاقته بزوجته «نادا» قد تدهورت منذ مدة، على الرغم من أنها أنجبت له ولدين هما سفيان وخالد، لكنه كان يخونها مع نساء أخريات؛ آخرهن إيفانا، التي تشاجرت معه حينما طالبت بمستحقات حبيبها السابق غوران، الذي كان يعمل في المقهى ذاته قبل أن يطرده «سي أحمد»، أو «الأعرج اللئيم»، كما كان يوصف من قبل الناس المناوئين لتصرفاته الاجتماعية والعاطفية.
ومثلما تركت إيفانا حبيبها غوران، ثم عثرت عليه في العاصمة السلوفانية، يترك سليم حبيبته مليكة في الجزائر على أمل العودة لها بعد ثلاثة أشهر، وهي انتهاء مدة الفيزا التي حصل عليها بسبب الدعوة التي وجهها عمه إليه. وحينما يعود سيجد أنها تصالحت مع صديقها السابق حميد الذي عقد عليها القران، وطار بها إلى باريس.
أما إيفانا التي أرادت الانتقام من «سي أحمد»، فقد ضربته بكأس أسفل عينه، وأخبرت «نادا» بأنّ زوجها يخونها معها، ومع كشف هذه الخيانة تنفتح حياة «سي أحمد» مثل «صندوق بندورا»، حيث يستشيط غضباً، ويأتي على وجه السرعة إلى الفندق الذي تسكن فيه إيفانا، وأخذ يضربها بعنف رغم وجود حبيبها غوران، الذي لم يتحمّل وحشية «سي أحمد» فطعنه بسكيّن كبير، وتركه يموت أمامها، ثم هرب من الغرفة، وتوارى عن الأنظار، مثلما فرّ من سراييفو وتركها وحيدة تواجه مصاعب الحياة القاسية.
يتم استجوابها من قبل الشرطة، وتُمضي ليلة كاملة في الحبس، لتخرج في اليوم الثاني حرة طليقة، لأنّ الشرطة قبضت على الجاني غوران موريتش، قرب محطة القطارات، وهو يحاول الهرب من ليوبليانا. تدفن «نادا» جثة زوجها «سي أحمد»، وفق الطريقة الإسلامية في مقبرة «جالي»، وتخبر سليم أن «سي أحمد» هو والده الحقيقي، وليس عمّه كما هو معروف، وأنّ الطفلين سفيان وخالد هما شقيقاه، وأن أباه سي أحمد كان مقرّباً من مسؤولين بوسنيين في سنوات الحرب، وقد أُصيب برصاصة قنّاص في كاحل قدمه اليمنى.
تعود إيفانا إلى سراييفو وهي محمّلة بخسائر كثيرة، لكنها لم تحزن على شيء أكثر من حزنها على سليم الذي لم يفهم نظراتها إليه، ولم يأخذها بحضنه، ولعل حركة واحدة وبسيطة منه كانت ستغيّر قدَرَها بالكامل.
تؤكد إيفانا لسليم بأنها لم تقتل سي أحمد، وإنما كانت تدافع عن نفسها، كما أن القاتل قد اعترف بجريمته وأودع في السجن.
يعود سليم إلى الجزائر وتُحوّل له «نادا» ثمن الشقة التي أوصى بها والده إليه، فيشرع بتأسيس صحيفة «رادار» التي يُعيّن فيها صديقه فتحي مديراً للنشر.
أما إيفانا فقد تخلصت من مخطوطة مسرحيتها القديمة، وحملت معها مخطوطة مسرحيتها الجديدة التي اقتبستها من فيلم «هيروشيما حبّي»، التي وافق عليها ديشان، حيث أخذ سليم دور البطل فيها بعد أن زوّدها بطرد كامل عن سيرته الذاتية التي تتضمن دراسته، وعمله في الصحافة، وقصة فتاة أحبته وهجرته، كما يروي مشاعره عن امرأة لم يذكر اسمها، لكن أوصافها تشبه إيفانا كثيراً.
أما المسرحية التي ستقدّم على «مسرح التل» فتحمل عنوان «حطب سراييفو»، تأليف إيفانا يوليتش، بمساعدة سليم دبكي.
وحينما تصدر صحيفة «رادار» يظهر فيها مانشيت لافت يحمل عنوان «حطب سراييفو... الناجون من الطوفان في الجزائر والبلقان»، مذيّلاً بتوقيع سليم لبكي الذي يروي قصة الألم الذي يوحِّد الناجين من الفظائع والحروب الوحشية في كل مكان.
«حطب سراييفو» رواية الناجين من الحروب وسنوات الجمر
من روايات القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية
«حطب سراييفو» رواية الناجين من الحروب وسنوات الجمر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة