تركيا تحقق مع قضاة برأوا ناشطاً بارزاً

أثار تساؤلات حول سيطرة إردوغان على الجهاز القضائي

TT

تركيا تحقق مع قضاة برأوا ناشطاً بارزاً

أطلق المجلس الأعلى للقضاة ومدعي العموم في تركيا تحقيقات مع 3 قضاة يمثلون هيئة محكمة سيليفري في غرب إسطنبول بعد أن أصدروا حكماً بالبراءة لصالح رجل الأعمال الناشط الحقوقي البارز عثمان كافالا ومتهمين آخرين في قضية أحداث «جيزي بارك» التي شهدتها مدينة إسطنبول في عام 2013. وأحيل كل من رئيس محكمة سيليفري غالب محمد بارك واثنين من أعضائها هما القاضيان أحمد طارق تشيفتشي أوغلو، وطالب إرغين للتحقيق ودراسة الإجراء وفحص الأسباب التي أدت إلى تبرئة كافالا ورفاقه من تهمة السعي للإطاحة بالحكومة التركية خلال الاحتجاجات المناهضة للحكومة في عام 2013، والمعروفة باسم تظاهرات «جيزي بارك» التي بدأت بدعوات للاحتجاج على إزالة أجزاء من حديقة أتاتورك التاريخية في متنزه جيزي من أجل تنفيذ مشروع لتطوير ميدان تقسيم وإنشاء مركز تجاري ومسجد ومنشآت أخرى، التي سرعان ما تحولت إلى احتجاجات واسعة في أنحاء البلاد ضد حكومة رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان رئيس الجمهورية الحالي، ومثلت تحدياً كبيراً لسلطته.
كانت محكمة سيليفري أمرت، الثلاثاء الماضي، بتبرئة عثمان كافالا و8 متهمين من بين 15 متهماً آخرين في القضية لغياب «أدلة ملموسة» تدعم تهمة الإطاحة بالنظام الدستوري لتركيا، لكن نيابة إسطنبول أمرت باعتقال كافالا مجددا بتهمة الارتباط بحركة الخدمة التابعة للداعية فتح الله غولن التي تتهمها الحكومة بتدبير محاولة انقلاب فاشلة ضد إردوغان في 15 يوليو (تموز) 2016. وأثار تحويل القضاة الثلاثة إلى التحقيق واستجوابهم بسبب حكم أصدروه، جدلا واسعا حول استقلالية القضاء في تركيا، وقالت المعارضة وناشطون ومنظمات دولية إن الخطوة هي تأكيد على أن الجهاز القضائي أصبح لعبة في يد إردوغان. ومنذ التعديلات الدستورية لإقرار النظام الرئاسي، التي دخلت حيز التنفيذ في صيف عام 2018، عقب الانتخابات الرئاسة والبرلمانية المبكرة في 24 يونيو (حزيران) من العام ذاته، أصبح للرئيس التركي الحق في تعيين 6 من أعضاء مجلس القضاة ومدعي العموم الذي يتكون من 13 عضوا. وأعلن المجلس في يناير (كانون الثاني) الماضي أنه قام بفصل 3926 قاضيا ومدعيا عاما منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016. ويعتبر إردوغان أحداث جيزي عام 2013 ليست احتجاجات عادية وإنما كانت محاولة مدبرة للإطاحة بحكومته، واتهم كافالا بتمويلها وبأنه ذراع للملياردير الأميركي جورج سورس مؤسس منظمة المجتمع المفتوح.
وانتقد الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوقية دولية إعادة اعتقال كافالا الذي أنشأ مؤسسة «الأناضول» الثقافية إحدى منظمات المجتمع المدني المرموقة في تركيا، بتهمة الضلوع في محاولة الانقلاب الفاشلة بعدما أمضى أكثر من عامين في السجن منذ اعتقاله في 2017 بتهمة محاولة الإطاحة بالحكومة عبر احتجاجات جيزي، معتبرين أنه قرار يقوض مصداقية القضاء التركي. ونفى إردوغان، مرارا، التدخل في قرارات القضاء، ويصر على أن القضاء التركي مستقل. وأكد كافالا عقب إعادة اعتقاله أن إردوغان تدخل بنفسه لمنع إطلاق سراحه عقب تبرئته في قضية احتجاجات جيزي بارك، ما تسبب في إعادة القبض عليه وإيداعه السجن مجددا بتهمة جديدة تتعلق بمحاولة الانقلاب الفاشلة. وقال كافالا، في بيان أصدره أول من أمس، إن «أحكام البراءة في قضية جيزي بارك مثلت خطوة إيجابية كان يأمل في أن تساعد المجتمع على فهم مشاكل القضاء ويكون لها أثر فعال في عملية التعافي، وللأسف أجهض تدخل الرئيس (إردوغان) هذه الفرصة وجرى إلقاء القبض علي مرة أخرى بادعاء أكثر بعدا عن المنطق والقانون من المرة الأولى». وأضاف كافالا: «الادعاء بأنني خططت محاولة الانقلاب هو ادعاء أكثر بعدا عن المنطق بكثير عن تهمة أنني من نظمت احتجاجات جيزي ويظهر دافعا خفيا مضمرا». وفي التحقيقات الجارية حاليا، يواجه كافالا اتهامات بمحاولة الإطاحة بالنظام الدستوري في محاولة الانقلاب عام 2016. وكانت تبرئة كافالا ورفاقه في قضية «جيزي بارك» مفاجأة خلال المحاكمة التي انتقدها الحلفاء الغربيون وكانت بمثابة اختبار للعدالة في تركيا. ودفعت إعادة اعتقاله مراقبين أجانب ونواباً من المعارضة ونشطاء حقوقيين للتعبير عن الدهشة وخيبة الأمل. وكتب مقرر تركيا في البرلمان الأوروبي الخاص، ناتشو سانتشيث آمور، على «تويتر»: «لا سبيل للثقة بأي تحسن في تركيا إذا كان الادعاء يقوض أي خطوة للأمام... عودة من جديد إلى العصر المظلم». وانتقدت منظمة العفو الدولية القرار. وقالت وزارة الخارجية الألمانية في تغريدة عبر «تويتر»: «نحن مصدومون لإعادة اعتقال عثمان كافالا بعد تبرئته مباشرة». ودعت الوزارة إلى «توضيح سريع يتماشى مع معايير حكم القانون التي تلتزم بها تركيا».
وأصبح كافالا رمزاً لقمع المجتمع المدني في تركيا. وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أصدرت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي قراراً يطالب بإطلاق سراحه. ورفضت محكمة تركية الشهر الماضي إطلاق سراحه، وأرجأت النظر في القضية إلى الثلاثاء الماضي، حيث تمت تبرئته قبل أن يعاد اعتقاله.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟