بروفايل: جوزيب بوريل أمام التحديات الأوروبية

انتقاه لسياسة «رعاة البقر» استدعى احتجاجاً شديداً أميركياً

بروفايل: جوزيب بوريل أمام التحديات الأوروبية
TT

بروفايل: جوزيب بوريل أمام التحديات الأوروبية

بروفايل: جوزيب بوريل أمام التحديات الأوروبية

عندما وقف النائب الاشتراكي الإسباني جوزيب بوريل أمام زملائه في البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ يطلب تأييدهم له كمرشّح لرئاسة البرلمان، خاطبهم بقوله: «أترشح لهذا المنصب انطلاقاً من انتماءاتي المتعددة؛ أولاً إلى كاتالونيا ثم إلى إسبانيا وأوروبا والأسرة الاشتراكية الواسعة». وفي خطابه الأول بعد انتخابه بأغلبية ساحقة رئيساً للبرلمان الأوروبي في 20 يوليو (تموز) 2004، قال بوريل: «إن الأزمات الجيوسياسية التي تعصف اليوم بالعالم تفرض على الاتحاد الأوروبي أن يجد موقعه بوضوح على الساحة الدولية التي تسيطر عليها سياسة القوّة الصمّاء، حيث نرى بعض القادة لا يتورعون عن اللجوء إلى استخدام القوّة أو التهديد باستخدامها، وحيث تتحوّل الأدوات الاقتصادية إلى أسلحة فتّاكة».

عندما أُعلن عن اختياره ليتولّى منصب الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في المفوضية الأوروبية الجديدة أواخر العام الماضي، كان بوريل يشغل منصب وزير الخارجية في الحكومة الإسبانية ويدلي بتصريحات يعلّق فيها على تهديدات الإدارة الأميركية بالتدخّل عسكريّاً في الأزمة الفنزويلية، قائلاً: «لا يجوز اللجوء إلى سياسة (رعاة البقر) والتهديد بشهر السلاح لمعالجة هذه الأزمة المعقّدة»، ما استدعى احتجاجاً شديداً من واشنطن وتسارعاً أوروبياً لاحتواء التوتّر الذي كان قد بدأ يخيّم على العلاقات الصعبة أصلاً مع الولايات المتحدة قبل أيام من تولّي بوريل مهامه الرسمية في مطلع ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
من هو إذن هذا الذي يقول معاونوه إنه جاء ليهزّ شجرة السياسة الخارجية الأوروبية التي «تتراوح بين العقم والخمول» على حد قوله، والذي لم يعد سراً أن الدوائر العليا في الاتحاد الأوروبي تجهد لاحتواء اندفاعه والحد من صلاحياته؟
وُلد جوزيب بوريل عام 1947 في بلدة «بوبلا دي سيغور» من أعمال إقليم كاتالونيا في كنف عائلة ناضلت سياسياً ونقابياً ضد ديكتاتورية الجنرال فرنكو. في عام 1964، بدأ دراسته الجامعية في برشلونة حيث التحق بكلية الهندسة الصناعية، لينتقل بعد ذلك إلى مدريد التي تخرج من جامعتها مهندساً في علوم الملاحة الجوية والبحرية. بعد ذلك، قرر مواصلة تحصيله العلمي في الخارج، فنال شهادة الماجستير في البحوث التطبيقية من جامعة «ستانفورد» الأميركية، ثم في اقتصاد الطاقة من المعهد الفرنسي الأعلى للبترول، وعاد إلى مدريد، حيث نال شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعتها، وأصبح أستاذاً للتحليل الاقتصادي والرياضيات التجارية.
في عام 1974، انتسب بوريل إلى الحزب الاشتراكي العمّالي، حيث تدرج بسرعة ليتولى بعد 5 سنوات الإشراف على السياسة المالية في حكومة مدريد الإقليمية. وعندما حقق الاشتراكيّون فوزهم التاريخي في انتخابات 1982 العامة بقيادة فيليبي غونراليس، عُيّن بوريل أميناً عاماً لوزارة الاقتصاد والمال، وفي عام 1984، كُلّف الإشراف على مكافحة الفساد الضريبي برتبة وزير دولة، ثم انتخب نائباً في البرلمان عن إقليم برشلونة في عام 1986.
في عام 1991، أجرى فيليبي غونزاليس تعديلاً واسعاً على حكومته وكلّف بوريل حقيبة الأشغال العامة والنقل، التي أضاف إليها صلاحيات السياحة والاتصالات، وبعد انتخابات عام 1993 التي جدّد فيها بوريل مقعده النيابي، احتفظ بحقيبته الوزارية التي أضيفت إليها هذه المرة صلاحيات البيئة. وعندما فاز الحزب الشعبي بانتخابات عام 1996، انتقل بوريل ليصبح عضواً في اللجنة التنفيذية للحزب الاشتراكي الذي كان غونزاليس قد استقال من أمانته العامة، ثم فاجأ الجميع عندما انتخبته قاعدة الحزب أميناً عاماً ومرشحاً لرئاسة الحكومة. لكنه اضطر للاستقالة بعد 3 سنوات بسبب صراعات داخلية في الحزب وإثر فضيحة مالية طالت اثنين من معاونيه السابقين في وزارة المالية، ثم أعيد انتخابه نائباً في البرلمان ليتولّى في عام 2004 رئاسة اللائحة الاشتراكية لانتخابات البرلمان الأوروبي الذي يُنتخب رئيساً له بأغلبية 388 صوتاً. وبعد مغادرته رئاسة البرلمان الأوروبي، تولى بوريل رئاسة المعهد الجامعي الأوروبي في مدينة فلورانس الإيطالية، الذي يعدّ من أهمّ المعاقل الفكرية في الاتحاد الأوروبي.
مع اندلاع الأزمة الانفصالية في كاتالونيا إثر الاستفتاء على الاستقلال الذي دعت إليه الحكومة الإقليمية في خريف عام 2017، أعلن بوريل رفضه الانفصال وشنّ حملة قاسية مدعّمة بالحجج الاقتصادية والأرقام على القوى والأحزاب الانفصالية التي أصبح من ألدّ خصومها.
وقد تبنّت حكومة بيدرو سانشيز تصوّر بوريل لمعالجة الأزمة الانفصالية في كاتالونيا، الذي يمكن تلخيصه كالتالي: استئناف الحوار بين الحكومة المركزية والقوى الانفصالية، والتدقيق في المعلومات المتداولة حول المزايا المزعومة للانفصال، والتشديد على الاحترام المتبادل بين القوى المؤيدة والمعترضة، والإسراع في إجراء التعديلات الدستورية والإصلاحات المالية الضرورية، لأن قسماً مهماً من المجتمع الكاتالوني يعتقد أن الخروج عن الدولة الإسبانية أفضل.
في 4 يونيو (حزيران) 2018، أي بعد 3 أيام من السقوط المفاجئ لحكومة ماريانو راخوي اليمينية إثر طرح الثقة الذي تقدّم به سانشيز في البرلمان، أبلغ بوريل الأمين العام للحزب الاشتراكي، الذي أصبح مكلفاً تشكيل الحكومة الجديدة بصورة تلقائية كونه الذي تقدّم بطرح الثقة، أنه يقبل عرضه لتولّي حقيبة الخارجية التي أضاف إليها سانشيز صلاحيات التعاون الدولي. وعندما قام زملاؤه في الحكومة بأداء اليمين الدستورية أمام الملك فيليبي السادس وتلاوة الصيغة الجديدة التي تشير إلى «مجلس الوزيرات والوزراء»، اكتفى هو وحده بالقول: «مجلس الوزراء».
وخلال القمّة التي عقدها رؤساء الدول والحكومات في الاتحاد الأوروبي مطلع يوليو (تموز) 2019، عُيّن بوريل ممثلاً أعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية خلفاً للإيطالية فيديريكا موغيريني التي تولّت المنصب طوال 5 سنوات.
الممثل الأعلى للشؤون الخارجية الأوروبية يشرف على إدارة السياسة الخارجية والأمنية المشتركة في الاتحاد الأوروبي، وهو الناطق بلسان الاتحاد وممثله في الشؤون الخارجية. وقد حدّدت معاهدة الاتحاد صلاحياته ومهامه على الشكل التالي:

- يدير السياسة الخارجية والأمنية، ويسهم بمقترحاته في وضع هذه السياسة وتنفيذها بتكليف من المجلس، ويحرص على إعمال القرارات المتخذة في هذا المجال.
- يرأس مجلس وزراء خارجية الاتحاد.
- هو أيضاً أحد نوّاب رئيس المفوضية التي يسهر على تنسيق نشاطها الخارجي، وهو مكلّف مسؤولياتها في مجال العلاقات الخارجية وتنسيق الجوانب الأخرى المتصلة بهذه العلاقات.
- يمثّل الاتحاد في كل ما يتصّل بالسياسة الخارجية والأمنية، ويدير بالنيابة عن الاتحاد الحوار السياسي مع الأطراف الخارجية، ويتحدّث باسم الاتحاد في المنظمات والمؤتمرات الدولية.
- يشرف على إدارة «الجهاز الأوروبي للسياسة الخارجية»، المرادف للسلك الدبلوماسي الأوروبي، وبعثات الاتحاد الأوروبي في الخارج ولدى المنظمات الدولية.
منذ اليوم الأول لتولّيه مهام منصبه الجديد يشدّد بوريل على ضرورة أن «يغيّر الأوروبيّون خرائطهم الذهنية للتعاطي مع العالم كما هو وليس كما نتمنى أن يكون، ولكي لا تكون أوروبا الخاسر في التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين في كل المجالات». ويضع كشرط أساسي لذلك الخروج عن قاعدة الإجماع التي تحكم السياسة الخارجية الأوروبية وتصيبها بالشلل، وأن «تتعلّم أوروبا لغة السلطة وتتصرف من موقعها كطرف جيوستراتيجي من الفئة الأولى»، كما قال في محاضرة ألقاها مؤخراً في المعهد الجامعي الأوروبي.
ويدعو بوريل إلى إسناد السياسة الخارجية الأوروبية إلى السياسة التجارية والاستثمارية، وإلى القوة المالية والانتشار الدبلوماسي الواسع وأدوات الأمن والدفاع التي في متناول الاتحاد من أجل أن يكون تأثير أوروبا ونفوذها بمستوى حضورها العالمي وقوتها الاقتصادية، ويقول: «مشكلة أوروبا ليست في افتقارها للقدرات، بل في عدم وجود الإرادة السياسية الكافية لتفعيل هذه القدرات وتسخيرها في الاتجاه الصحيح».
أما عن أولوياته، فهو يضع في صدارتها الاهتمام بالأزمات في البلدان المحيطة بالاتحاد الأوروبي، ووضع استراتيجية جديدة لشراكة عميقة مع أفريقيا، واعتماد سياسة واضحة للتعامل مع المثلث الاستراتيجي الذي يسيطر على عالم اليوم؛ الولايات المتحدة والصين وروسيا، التي رغم اختلافها في أوجه عدة تلتقي حول إخضاع العلاقات السياسية والمفاوضات لثقل القوتين العسكرية والاقتصادية.
أما الملف النووي الإيراني والعلاقات مع دول الخليج، فيوليه بوريل اهتماماً خاصاً لاعتباره أن «المنطقة التي يتدفّق منها ربع الطاقة في العالم تشكّل الشريان السباتي للاقتصاد العالمي»، ويدعو إلى «تجديد» الاتفاق النووي مع إيران، مذكّراً بأن هذا الاتفاق الذي بدأ التفاوض حوله في عام 2007 ووقّعه الاتحاد الأوروبي والأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن مع ألمانيا «ليست له صفة المعاهدة الدولية، لأن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لم يكن قادراً على التعهد بضمان مصادقة الكونغرس عليه».
ويقول الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية إن الهدف من هذا الاتفاق المقصور على البرنامج النووي الإيراني هو منع إيران من إنتاج القنبلة النووية، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها «وأن تنفتح إيران على العالم الخارجي ويتعزّز موقع القوى المعتدلة داخلها، لكن النتيجة كانت أن إيران ازدادت عدوانية على الصعيد الإقليمي، خصوصاً في الأزمة السورية، رغم تحالفها الظرفي مع الغرب والولايات المتحدة لمحاربة تنظيم داعش، واستمرت في خطابها المناهض للمملكة العربية السعودية ودول الخليج».
ويُعدّ بوريل مدافعاً شرساً عن النظام الدولي متعدد الأطراف ومنظمة الأمم المتحدة التي يدعو إلى إجراء بعض الإصلاحات الجذرية في أجهزتها، خصوصاً في مجلس الأمن، بحيث يعكس التوزيع الراهن للموازين الاقتصادية والديموغرافية الراهنة في العالم التي أصبحت تختلف كثيراً عمّا كانت عليه في أعقاب الحرب العالمية الثانية. كما يدعو إلى إعادة النظر في شروط استخدام حق النقض داخل المجلس للحد من هيمنة الدول الكبرى على قراراته.


مقالات ذات صلة

شراكة بوتين «الاستراتيجية» مع بيونغ يانغ توسّع المواجهة مع الغرب

حصاد الأسبوع المصفحة الرسمية بين الرئيسين فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون في بيونغ يانغ (رويترز)

شراكة بوتين «الاستراتيجية» مع بيونغ يانغ توسّع المواجهة مع الغرب

قد تشكّل الزيارة «التاريخية»، كما وصفتها موسكو وبيونغ يانغ، للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية، نقطة تحوّل رئيسية في الصراع المتفاقم بين روسيا

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع  اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى

لويس آرسي... رئيس بوليفيا الاشتراكي قائد سفينة الاقتصاد

في صبيحة الأربعاء من الأسبوع الماضي، اقتحمت ناقلة جند مصفحة بوابة مقر رئاسة الحكومة البوليفية في العاصمة لاباز، وعلى متنها القائد العام للقوات المسلحة الجنرال

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع الجنرال زونيغا، قائد المحاولة الانقلابية الفاشلة، قيد الاعتقال (رويترز)

بوليفيا: المحاولة الانقلابية... وخلفية الصراعات المتنوعة

> يصعب فهم ملابسات المحاولة الانقلابية «الفاشلة» التي شهدتها بوليفيا يوم 26 يونيو (حزيران) الماضي، ودامت أقل من ساعتين، من غير الرجوع إلى الأجواء السياسية

«الشرق الأوسط» (مدريد)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز

قراءة في توجّه تونس شرقاً نحو الصين وآسيا

أعربت مصادر غربية خلال الأسابيع القليلة الماضية عن انشغالها «بتوجّه تونس شرقاً»، خصوصاً نحو الصين وروسيا وآسيا. وأثارت المصادر نفسها علامات استفهام حول امتناع

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

تنطلق الأحد، الجولة الأولى من الانتخابات النيابية الفرنسية المبكرة، حيث دعي 49.5 مليون مواطن فرنسي للتوجه إلى صناديق الاقتراع بعد سنتين فقط من الانتخابات السابقة المماثلة. ولقد كان من المفترض أن تحصل هذه الانتخابات في العام 2027، بيد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نسف الأجندة الانتخابية بقراره ليل الأحد في التاسع من يونيو (حزيران) الحالي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. هذا الأمر أثار الذهول ليس في فرنسا وحدها، بل أيضاً داخل الاتحاد الأوروبي... لا، بل إن المستشار الألماني أولاف شولتس، المعروف بتحفظه، لم يتردد في التعبير عن «قلقه» إزاء ما ستحمله نتائج الانتخابات، وتخوّفه من تمكن اليمين المتطرّف ممثّلاً بـ«التجمع الوطني» ورئيسه الشاب جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 سنة فقط، إلى السلطة.

ميشال أبونجم (باريس)

لويس آرسي... رئيس بوليفيا الاشتراكي قائد سفينة الاقتصاد

 اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى
اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى
TT

لويس آرسي... رئيس بوليفيا الاشتراكي قائد سفينة الاقتصاد

 اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى
اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت... وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى

في صبيحة الأربعاء من الأسبوع الماضي، اقتحمت ناقلة جند مصفحة بوابة مقر رئاسة الحكومة البوليفية في العاصمة لاباز، وعلى متنها القائد العام للقوات المسلحة الجنرال خوان خوسيه زونيغا، الذي ما إن ترجّل من الناقلة حتى وقف بين الضباط وبعض المدنيين الذين كانوا برفقته وقال: «إن حفنة من أفراد النخبة قد وضعت يدها على البلاد وأمعنت في تدميرها، لكن القوات المسلحة ستعيد تنظيم الديمقراطية، وتسترجع الوطن من الذين يتعاقبون على السلطة منذ أربعين سنة، وسنفرج عن جميع المعتقلين السياسيين من مدنيين وعسكريين. إن الجيش لا تنقصه الرجولة للاهتمام بمستقبل أطفالنا». ولكن، بينما كان «قائد الانقلاب» يصرّح أمام الصحافيين بأن تعبئة جميع الوحدات العسكرية تهدف «للإعراب عن استيائها من الأوضاع التي وصلت إليها البلاد»، مدّعياً أنه لا يزال «حتى الآن» يطيع أوامر رئيس الجمهورية لويس آرسي، إلا أنه «جاهز لاتخاذ التدابير اللازمة من أجل تغيير الحكومة». كان الرئيس آرسي يناشد المواطنين التحرك ضد الانقلابيين لمنعهم من قلب النظام الديمقراطي. وأيضاً كانت القوى والأحزاب السياسية جميعها تدين التمرد العسكري وتعلن تأييدها للرئيس حتى نهاية ولايته. وحقاً، لم تكد تنقضي ساعتان على ذلك الاقتحام حتى كانت الحشود المناهضة للمحاولة الانقلابية تملأ الساحات، والجنرال زونيغا قيد الاعتقال مع بعض الضباط الموالين له. في حين كان آرسي يعيّن قائداً جديداً للقوات المسلحة ويعلن فشل الانقلاب، محاطاً بجميع أعضاء الحكومة، ومتعهداً «قطع شهيّة الانقلابيين على التمرّد».

انقضت عشرة أيام على أقصر محاولة انقلابية شهدتها بوليفيا، التي تضرب الرقم القياسي للانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية، إذ تمرّد عسكرها مرتين على الرئيس المنتخب خلال السنوات الخمس الماضية، غير أن ملابسات هذا التمرد الأخير ما زالت غامضة، وتتقاطع فيها الاتهامات بين الرئيس الحالي و«مرشده» و«عرّابه» السياسي، الرئيس اليساري السابق إيفو موراليس... اللذين يشكّل الصراع الشخصي بينهما محور الحياة السياسية في بوليفيا منذ سنوات.

النشأة والمسيرة

وُلد لويس آرسي في أسرة بوليفية من الطبقة المتوسطة، وأنهى دراسته في المدارس الوطنية، ثم جامعة سان آندريس في العاصمة لاباز، حيث تخرّج مجازاً في العلوم الاقتصادية، ثم نال شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة الأنديز بعدما كان تابعَ دراسته العليا وحاز الماجستير في الاقتصاد من جامعة ووريك البريطانية المرموقة.

بعدها، التحق آرسي بالإدارة العامة، حيث تولّى مناصب عدة في المصرف المركزي البوليفي، ممضياً معظم سنواته في الوظيفة العمومية. وبينما كان اسمه يلمع بصفته خبيراً اقتصادياً ومالياً ويتولّى مسؤوليات حساسة في المصرف المركزي، فإنه راح أيضاً يكتسب شهرة على الصعيدَين المحلي والدولي مُحاضراً في عدد من الجامعات البوليفية والأجنبية، ومنها كولومبيا، وهارفارد، وجورجتاون في الولايات المتحدة، وبوينوس آيرس في الأرجنتين.

السياسة والوزارة

دقّت ساعة دخول لويس آرسي المعترك السياسي مطالع عام 2006 يوم تعيينه وزيراً للمال في حكومة إيفو موراليس، أول رئيس من السكان الأصليين في تاريخ أميركا اللاتينية - وهو من شعب الآيمارا -. ثم عاد وتولّى بعد ذلك بثلاث سنوات حقيبة الاقتصاد والمال الجديدة، وفي حينه وصفته وسائل الإعلام الدولية المتخصصة بأنه «صانع المعجزة الاقتصادية البوليفية»، كما اختاره «منتدى خبراء الاقتصاد والمال في أميركا اللاتينية» عام 2011 من بين أفضل 10 وزراء للاقتصاد في تاريخ المنطقة.

وكانت بين أبرز التدابير التي اتخذها آرسي، وأسهمت في النمو الاقتصادي الذي شهدته بوليفيا، سلسلة المحفّزات لتشجيع السوق المحلية، وتحقيق الاستقرار في سعر صرف العملة الوطنية، وسياسات التصنيع المستندة إلى الموارد الطبيعية الوطنية ضمن إطار إنمائي اجتماعي وإنتاجي يعطي الأولوية للسوق والموارد المحلية. وبالفعل، بفضل هذه السياسات تمكّنت بوليفيا من خفض مستوى الفقر لسكانها من 38 في المائة إلى 15 في المائة، وفق بيانات برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ما سمح بظهور طبقة متوسطة واسعة بين السكان الأصليين الذين يشكّلون 42 في المائة من مجموع السكان.

وأيضاً، استفاد آرسي من ارتفاع أسعار المواد الأولية في السوق الدولية، الأمر الذي سمح لبوليفيا بتحقيق نمو اقتصادي متوسطه السنوي 5 في المائة إبان فترة توليه وزارة الاقتصاد والمال. وعندما تراجعت أسعار المواد الأولية قرّر آرسي زيادة الإنفاق العام للتعويض عن انخفاض الصادرات، فأتاح للاقتصاد البوليفي مواصلة النمو بينما كانت الاقتصادات الأخرى في أميركا اللاتينية تتراجع. إلا أن تلك الاستراتيجية السياسية التي أطلق البعض عليها مسمى «سياسة الهروب إلى الأمام»، تسبّبت في ارتفاع العجز المالي العام وانخفاض احتياطي العملات الصعبة.

المرض والاستقالة

في أواسط عام 2017 اضطر لويس آرسي للاستقالة من منصبه؛ بسبب إصابته بسرطان في الكلية، وأمضى فترة سنتين يتلقى العلاج في البرازيل قبل أن يعود عام 2019 ليتولى مجدّداً وزارة الاقتصاد والمال. ومن ثم، في العام التالي اختاره حزب «الحركة من أجل الاشتراكية» اليساري مرشحاً عنه للانتخابات الرئاسية التي فاز فيها من الدورة الأولى. والواقع أن اختياره مرشحاً عن اليسار جاء بقرار من موراليس، الذي اضطر للفرار من بوليفيا بعد انتخابات عام 2019، وذلك على الرغم من اعتراض التنظيمات المحلية والقطاعية في التيار التي كانت تفضّل ترشيح وزير الخارجية السابق دافيد تشوكيوانكا، الذي اختاره آرسي نائباً له. بيد أن موراليس تمكّن من فرض رأيه على القاعدة، وفرض اختيار آرسي مع أنه لم يكن قد انضم إلى التيار سوى في عام 2005.

وللعلم، بعد تسلّم آرسي رئاسة الجمهورية في نوفمبر (تشرين الثاني)2021 كشفت معلومات سرّيّة لاحقاً عن أن وزير الدفاع (آنذاك) حاول مع بعض الضباط إجهاض توليّه الرئاسة، لكنه فشل في محاولته بعد اعتراض القيادات العسكرية ومعظم الأحزاب السياسية على المحاولة.

سياسات الرئيس

من القرارات الأولى التي اتخذها آرسي بعد توليه رئاسة الجمهورية، إعادة العلاقات الدبلوماسية مع حكومة نيكولاس مادورو الفنزويلية اليسارية التي كانت قرّرت قطعها الرئيسة اليمينية السابقة جانين آنيز، المعتقلة حالياً، كما أعاد العلاقات مع إيران، وفرض على مواطني الولايات المتحدة وإسرائيل شرط الحصول على تأشيرة لدخول بوليفيا بعدما كانت قد ألغته الحكومة السابقة. وكذلك، قرّر عودة بلاده للمشاركة في عديد من المؤسسات والمنظمات الإقليمية التي كانت حكومة آنيز قد قررت تعليق نشاطها فيها.

وعلى صعيد التدابير الاجتماعية البارزة، اعتمد آرسي فور تسلمه السلطة «قسيمة الجوع» لجميع المواطنين البالغين من غير ذوي الدخل الثابت، وقرّر تمويلها من ضريبة فرضها على أصحاب الثروات الكبرى. وأعاد قرضاً إلى صندوق النقد الدولي بقيمة 350 مليون دولار لاعتباره أنه كان مربوطاً بشروط تنتهك سيادة البلاد ومصالحها الاقتصادية.

ولكن في موازاة ذلك، انخفض إنتاج بوليفيا من الغاز الطبيعي الذي يشكّل عماد الصادرات الوطنية، وذلك لنقص الاستثمارات في البُنى التحتية اللازمة لاستخراجه وتسويقه. ولذا كثّف الجهود التصنيعية المحلية للحدّ من الاستيراد، ولتنويع مصادر الدخل القومي، مركزاً على مادة الليثيوم الاستراتيجية التي تملك بوليفيا أكبر احتياطي منها في العالم.

في عام 2022 سجلت بوليفيا أدنى نسبة تضخم في أميركا اللاتينية، ما أسهم في زيادة شعبية آرسي بين الطبقات الفقيرة مثل الفلاحين وعمال المناجم والسكان الأصليين، غير أن شعبيته كانت تنحسر في المقابل لدى الطبقات الأخرى والقوى الفاعلة، كالنخبة المالية والاقتصادية والكنيسة والجامعات والروابط المهنية ووسائل الإعلام الكبرى. وللعلم، في خريف عام 2021 كانت المعارضة قد نظّمت سلسلة من المظاهرات احتجاجاً على مشروع قانون «مكافحة تمويل الأنشطة غير المشروعة وتبييض رؤوس الأموال»، الذي رأى فيه القطاع غير المنتظم - ويضمّ أكثر من نصف اليد العاملة في البلاد - ذريعةً لمراقبة أنشطته. وتلت ذلك حملة واسعة شاركت فيها أطياف المعارضة جميعها؛ لقطع طرق المواصلات الرئيسة لفترة غير محدودة بهدف شل الحركة الاقتصادية، لا سيما في المراكز الصناعية الكبرى. وبالتالي، أمام تفاقم الوضع وحدوث مواجهات عنيفة، قررت الحكومة سحب مشروع القانون.

وعادت المعارضة في العام التالي لتنظيم مزيد من الاحتجاجات التي أدت إلى مواجهات دامية، واعتداءات على منظمات اجتماعية وهيئات عمالية مؤيدة للحكومة، خصوصاً، في مناطق السكان الأصليين.لكن متاعب آرسي لم تقتصر على الاحتجاجات المُمنهجة التي كانت تنظمها المعارضة، بل وصلت أيضاً إلى الدائرة السياسية التي رشّحته للانتخابات وكانت وراء وصوله إلى الرئاسة. ففي أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي قرّرت الهيئة التنفيذية لحزب «الحركة من أجل الاشتراكية» التي يرأسها إيفو موراليس طرد آرسي من الحزب لرفضه حضور المؤتمر الذي عقده ذلك العام، وبدأت تظهر علامات الانشقاق داخل التيّار اليساري بين مؤيدين للرئيس السابق، وأنصار الرئيس الحالي الذين أطلقوا على أنفسهم لقب «كتلة التجديد»، والذين يتهمهم الحزب بخيانة مبادئه السياسية ومؤسسه موراليس.