«القصة السرية» للرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة

فريد عليلات يروي عنه تفاصيل مهمة أغلبها يُسرد للمرة الأولى

«القصة السرية» للرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة
TT

«القصة السرية» للرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة

«القصة السرية» للرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة

في 398 صفحة من الحجم الكبير، يروي الصحافي الجزائري فريد عليلات «القصة السرية» للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. والكتاب الصادر عن منشورات دار «روشيه» ليس الأول، ولن يكون الأخير، الذي يُكرّس للرئيس الجزائري المتنحي عن السلطة، العام الماضي، بعد أن حاول التربع على عرش الجزائر لولاية خامسة. إلا أن ما يتميز به الكتاب أنه لا يكتفي بالتحليل والاعتبارات السياسية والاستراتيجية، بل يأتي بقصص صغيرة ولكنها مهمة، وأغلبها يُسرَد للمرة الأولى. ومنها على سبيل المثال قصة هجرة والد عبد العزيز بوتفليقة من قريته الفقيرة غرب الجزائر إلى مدينة وجدة المغربية القريبة من الحدود المشتركة، وولادة الأخير فيها من زوجة والدته الثانية، يوم 2 مارس (آذار)، عام 1937. إضافة إلى ذلك، يسرد الكتاب معاناة الصبي من قصر قامته وضعف تكوينه، وصيت والده الذي أطلق عليه أبناء وجدة والجزائريون اللاجئون إليها لقب «المخبر». لكن عبد العزيز عوض عن ذلك كله بالتفوق في الدراسة وإتقان العربية والفرنسية، وتمكّنه من الكتابة. وهذه الميزات دفعته إلى أن يقدم طلباً، وهو في الـ19 من عمره، للانضمام إلى الشرطة البلدية، في مدينة وجدة. لكن طلبه رُفِض بسبب «قصر قامته»، إذ كانت تنقصه ثلاثة سنتيمترات ليقبل في صفوفها، وذلك رغم «الوساطات» التي قام بها والده. لكن هذه السنتيمترات لم تمنع عبد العزيز من أن يصبح رئيساً للجزائر، وأن يقول يوماً: «لن أترك الرئاسة إلا للانتقال من القصر إلى القبر».
عندما اندلعت الثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1954، لم يكن بوتفليقة من أوائل الملتحقين بها. فوالده الذي كان على صلة قوية بالسلطة المغربية وبفرنسا عارض ذلك بشدة. إلا أن الشاب الطموح قرر بعد سبعة أشهر أن يخطو هذه الخطوة، وأن يتقدم بطلب انتساب إلى مكتب التجنيد في وجدة، برفقة صديقه وأخيه بالرضاعة مصطفى بري.
وفي مكتب التطويع، سأله المسؤول: «هل أنت هنا من أجل غسل شرف والدك؟»، في إشارة إلى الاتهامات الموجهة لوالده بالتجسس على الجزائريين في وجدة. والنتيجة أنّ طلب الشاب عبد العزيز بالانتساب إلى «جيش التحرير الوطني» رُفِض. كذلك طلب صديقه. ولم يتغير وضع بوتفليقة إلا بعد تدخُّل شخصية مغربية نافذة لصالحه. وفي بداية عام 1957، ها هو عضو في «الجيش» في «الولاية الخامسة»، حيث اختار «عبد القادر» اسماً حركياً له. وفي هذه المرحلة، تعرف الشاب «عبد القادر» على هواري بومدين الذي سيكون له بالغ الأثر في حياته وصعوده السياسي وسقوطه بعد موت الرئيس الأسبق، ورحيله إلى سويسرا. ففي سن الـ21، أصبح بوتفليقة، الذي رُقّي إلى رتبة ضابط، السكرتير الشخصي لبومدين، إلا أن هذه المرحلة من عمره لطختها مهمة أُسندت إليه للتحري عن عملية اغتصاب قام بها أحد القادة الميدانيين. وجاء تقرير بوتفليقة مكبلاً لذلك القائد الذي أُعدم داخل الجزائر برصاصة في الرأس، بعد «محاكمة ثورية» رأسها الكولونيل بومدين شخصياً.
يصعب استعادة جميع القصص التي يتضمنها الكتاب؛ فهي كثيرة. لكن أهميتها أنها تلقي الضوء على بعض ما عرفه بوتفليقة، الذي عاش حياة ممتلئة، مناضلاً ووزيراً أو رئيساً. ومن مناطق الظل في سيرته وفاة والده في الستين من عمره، في رحلة بالحافلة إلى داخل المغرب. يؤكد المؤلف أن بوتفليقة لم يتناول أبداً هذه الواقعة التي بقيت ظروفها سراً دفيناً.
طيلة سنوات الثورة، لم يفارق «عبد القادر» العقيد هواري بومدين. وبعد نجاحها، في عام 1963، عُيّن الأخير وزيراً للدفاع، في ظل رئاسة أحمد بن بيلا وبوتفليقة وزيراً للخارجية. إلا أن الصراع على السلطة دفع بومدين لتنظيم انقلاب أطاح ببن بيلا. وفي تلك الليلة، كان بوتفليقة إلى جانب «الرجل القوي» الذي أرسل أول رئيس للجمهورية الجزائرية إلى السجن مدى الحياة.
ويؤكد المؤلف أن بن بيلا كان في البداية مدافعاً عن وزير الخارجية الشاب الذي كانت تنصبّ عليه الانتقادات لصغر سنه ولأدائه ولـ«غيابه» المتكرر لأيام وأسابيع عن وظيفته. إلا أن نظرته إليه تغيرت، وبعد عام واحد على شغله وزارة الخارجية، سعى الرئيس إلى إبعاده. ونقل عن بن بيلا أنه قال يوماً إن بوتفليقة «لا يفعل إلا ما يدور في رأسه». وفي زيارة رسمية إلى موسكو، مايو (أيار) 1964، جادل بوتفليقة طويلاً لدى كتابة البيان الختامي، ما دفع المفاوض الروسي إلى الاتصال بـنيكيتا خروتشيف ليخبره بالعقبات التي يواجهها. فما كان من الأخير إلا أن أيقظ بن بيلا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، حتى يضغط على وزير خارجيته، ليرى البيان النور.
ويروي الكتاب أن بن بيلا منع بومدين من الدخول إلى اجتماع في القاهرة، على هامش القمة العربية، نظمه الرئيس عبد الناصر، للتقريب بين المغرب والجزائر، وبحضور الحسن الثاني وأنور السادات. وقال بن بيلا لبومدين: «هذه شقتي وليس لك أن تدخل إليها»، الأمر الذي يدل على الصراع على الصلاحيات وعلى العلاقات المتوترة بين قائدين رئيسيين للثورة الجزائرية.
في حياة بوتفليقة الدبلوماسية، يلوح ضوآن: الأول، رئاسته للجمعية العامة للأمم المتحدة حيث انتخب بإجماع أعضائها، وحيث برزت مهارته الدبلوماسية، ومنها دعوة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية إلى إلقاء خطاب أمامها، فيما ظهر على جنبه الأيسر طرف جعبة مسدسه. والثاني، مهارته في التفاوض مع الإرهابي العالمي كارلوس، للإفراج عن وزراء نفط «أوبك»، الذين اختطفهم الأرجنتيني من فيينا، نهاية عام 1975، وتنقل بهم من فيينا إلى الجزائر إلى طرابلس ثم مجدداً إلى الجزائر، حيث أطلق سراحهم مقابل اللجوء السياسي والحماية.
ويروي الكاتب، الذي يؤكد أن العملية تمت بطلب من العقيد القذافي، تفاصيل المحادثات في بين بوتفليقة وكارلوس في مطار الجزائر، والعلاقة التي قامت بين الرجلين، ورفض الثاني عروضاً مالية مغرية للإفراج عن عدد من الوزراء، بينهم وزيرا النفط الإيراني والسعودي. وبحسب الكتاب، فإن بوتفليقة أبلغ كارلوس أنه سيُحرم هو ورفاقه من اللجوء السياسي في حال أقدم على اغتيال أي من الوزراء. وبعد الإفراج عن الرهائن، أعطي كارلوس «فيلا» وأُمّنت له الحراسة. واستمرت علاقته ببوتفليقة الذي كان يزوره هناك، وحصل أنه تناول يوماً الغداء معه.
رغم ما يدين به بوتفليقة لبومدين، فإنه وصل إلى حد كرهه، وفق ما نقله الكاتب عن محادثة بين بوتفليقة وشريف مساعدية، أحد أركان النظام. فقد قال بوتفليقة: «بومدين هو الذي أكنّ له الكره الأكبر في العالم»، وجاء جواب الثاني: «من غير بومدين، ما كنتَ لتصبح معاون مدير ناحية».
وينقل الكاتب كلاماً عن بومدين قاله في موسكو وهو على سرير المرض: «بوتفليقة كان شاباً صغيراً وعديم الخبرة وبحاجة إلى رعاية، وكنتُ له بمثابة الأب». ويؤكد الكاتب أن أحد الأسباب لفقد الود بين الرجلين أن بومدين رفض تسميته خلفاً له، لأنه لم يقبل إدخال تعديل على الدستور ينص على انتخاب نائب رئيس للجمهورية، بحيث يعود المنصب المستحدث لبوتفليقة. ومن جانبه، فإن الأول حقد على بوتفليقة لما اعتبره مشاركة في المؤامرة الهادفة إلى منعه من الزواج من «أنيسة»، والتآمر بعدها لدفعه إلى الطلاق منها.
ويروي الكاتب أن بوتفليقة تآمر على بومدين عندما عاد الأول من موسكو بعد إقامة في المستشفى، إذ طلب وزير الخارجية من كابتن الطائرة تغيير مسارها حتى تمر فوق جزيرة كورسيكا، ما أعطاه الحجة للإبراق للرئيس جيسكار ديستان يتحدث فيها عن «الصفحة الجديدة» التي سيكتبها البلدان.
ورغم مشكلاته الصحية، قال بومدين يوماً لوزير خارجيته بعد أن تكاثرت زياراته إلى باريس: «هل أنت وزير خارجيتي أم وزير خارجية جيسكار»؟
في 27 ديسمبر (كانون الأول) 1978، أسلم بومدين الروح، ومعه فُتِحت معركة خلافته التي كان يطمح إليها بوتفليقة. وللوصول إليها، يسرد الكتاب كيف أن بوتفليقة ادعى وجود «وصية» من بومدين يعينه فيها خليفة له، وأنه جال على عدد من قادة الدولة، وبينهم خالد نزار، قائد المنطقة العسكرية الثالثة، وقال له: «بومدين عينني خليفة له، وهناك وصية مكتوبة رأيتها. أين هي؟ أريد أن أراها».
وبسبب إصرار بوتفليقة، أمر قصدي مرباح، مسؤول أحد أجهزة المخابرات بتفتيش منزل بومدين الشخصي، حيث فُتّش كل شيء من الأرائك إلى الطاولات والأسرّة والمكاتب والخزائن والمكتبات. لكن لا أثر لـ«الوصية». لكن بوتفليقة ليس وحده الساعي. وخصمه اللدود كان محمد صلاح يحياوي، الذي له أنصاره من المدنيين والعسكر. والنتيجة أن التنافس بينهما أقلق مجلس قيادة الثورة، ومنهم مجموعة من ثلاثة ضباط رئيسيين وجدوا ضالتهم في شخص وزير الدفاع، الشاذلي بن جديد، الذي رشحه المؤتمر العام لـ«جبهة التحرير الوطنية» وكان حقيقة مرشح العسكر. وبقي بن جديد رئيساً لثلاث ولايات، أي لـ12 سنة و11 شهراً ويومين. وبانتخابه، تبخر حلم بوتفليقة.
مع موت بومدين، انتهى عهد بوتفليقة الذي خسر وزارة الخارجية، ومعها كل الامتيازات التي اعتاد عليها طيلة 15 عاماً، لا، بل فُتح تحقيق بشأن حسابين شخصيين في مصرف سويسري كانت تُنقَل إليهما، بأمر من الوزير، كل الأموال التي لم تُصرَف سنوياً في السفارات عبر العالم. ولإهانته بشكل مباشر، يروي الكاتب أن بوتفليقة طلب مقابلة الرئيس الجديد. وفي مكتبه، همّ بوتفليقة بالجلوس، فنهره بن جديد بقوله: «مَن سمح لك بالجلوس؟»، ولأنه عُين مستشاراً في الرئاسة، فقد أُعطي مكتباً من غير نوافذ ومن غير مهمات، وبالتالي، يروي الكتاب أنه كان يمضي وقته في شرب الشاي والحديث بالهاتف. وبداية 1980، سُحِب منه هذا المنصب، وشعر بوتفليقة بأنه مستهدف بتحقيقات مالية، وأن أعداءه في الحزب راغبون بالتخلص منه. وقبل أن تتحول هواجسه إلى واقع، قرر بوتفليقة مغادرة الجزائر والعزلة الطوعية التي بدأها في باريس، ومتنقلاً بينها وبين جنيف، ومتحيناً الفرص للقاء مَن يقبل الالتقاء به بعد سقوطه المدوّي.
بوتفليقة أبعد من المكتب السياسي للحزب الحاكم من الحزب، وتمّت ملاحقته بتهم مالية، رغم أنه أعاد للخزانة 3 ملايين دولار. لكن الدولة بقيت تطالبه بـ14 مليون دولار. وقد صدر بحقه حكم في مايو (أيار) 1983 يرغمه على دفع مبلغ 728 ألف فرنك سويسري. وإبان المحاكمة، طلب أصدقاؤه من بوتفليقة العودة إلى الجزائر والدفاع عن نفسه، إلا أنه رفض خوفاً من اعتقاله، ولعدم ثقته بالقضاء.
ويروي الكاتب أن بوتفليقة حاول توسيط ياسر عرفات لدي بن جديد، فرفض التدخل شخصياً. وعن بن جديد، ينقل الكتاب نفيه السعي لملاحقة بوتفليقة، داعياً إلى عودته من غير خوف.
ولأن شمس باريس أو جنيف لا تُدفِئ، فقد قرر بوتفليقة الذهاب إلى دمشق عام 1983 حيث إن له صداقات مع نظام الرئيس الأسد. ولكن مَن سيجد في العاصمة السورية؟ كارلوس الذي استقر في عاصمة الأمويين بعد ترحال بين لبنان واليمن. وفي دمشق، أسكن بوتفليقة في الطابق الأرضي من فيلا مشددة الحراسة من ثلاثة طوابق تقع في حي المزة. ففي الطابق الأول، يقيم ابنا رئيس باكستان ذو الفقار علي بوتو. وفي الثالث، السكرتير الشخصي للرئيس صدام حسين... ويُفهَم من الكتاب أن كارلوس كان يقيم في الطابق الثاني. ويؤكد الكاتب أن بوتفليقة كان يتناول العشاء معه، كل مساء، وأن كارلوس أهداه مسدسه الشخصي. إلا أن إقامته في دمشق، بغض النظر عن لقائه بكارلوس والصداقة التي جمعتهما، لم تُرضِ بوتفليقة تماماً؛ إذ كان يريد المزيد. ولذا، فقد غادرها في العام نفسه عائداً إلى باريس، حيث التقى صديق صباه المغربي مصطفى بري الذي أقام عنده، وحيث كان يلتقي زائرين كباراً، مثل وسيلة، زوجة الحبيب بورقيبة، أو شخصيات من النظام الجزائري. وأمام وسيلة، شكا بوتفليقة من معاملة بن جديد له؛ أوقف راتبه التقاعدي، وجعله في وضع بائس... لكن تحقيقاً أمر به بن جديد أثبت العكس. والحقيقة، وفق الكاتب، أن بوتفليقة كان يستفيد من صداقاته الخاصة ومن علاقاته كما في سوريا، أو مع الشيخ زايد بن سلطان. وبحسب المؤلف، فإن بوتفليقة استفاد من كرم الإمارات، حيث كان يقيم في شقة فاخرة في فندق «إنتركونتينتال - أبوظبي» محجوزة له سنوياً. وعمل بوتفليقة مستشاراً للإمارات في نزاعها مع إيران حول ثلاث جزر في الخليج مقابل راتب شهري من 10 آلاف دولار، وتغطية جميع المصاريف، ولاحقاً وهبه الشيخ زايد مزرعة شاسعة.
والمدهش أن تقارير وصلت إلى رئيس الإمارات تفيد بأن بوتفليقة يغالي في الاستفادة من كرمه في الفندق، حيث يشتري الحلي والساعات والخواتم له ولأصدقائه ويرسل الفواتير إلى الديوان الأميري، ما دفعه إلى تناول الموضع مع بن جديد.
بعد ست سنوات من المنفى، نهاية عام 1987. عاد بوتفليقة إلى الجزائر بمناسبة مؤتمر علمي في العاصمة، وبعض تطمينات أُعطيت له. لكن الجزائر كانت في تلك الفترة تغلي: مظاهرات وقمع وسقوط عشرات القتلى وقرار بن جديد بإحداث إصلاحات.
وفي عام 1989، أُعيد بوتفليقة إلى اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير لتنتهي بذلك فترة إبعاده وعزلته. لكن ما كان ينتظره بوتفليقة ظهرت بوادره في 1992، عند استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، إذ سارع للقاء وزير الدفاع، الجنرال خالد نزار الذي يعيش حالياً منفياً في إسبانيا، ليطلب منه دعمه لتولي منصب سفير الجزائر لدى الأمم المتحدة.
كذلك طلب منه رخصة حمل سلاح لشعوره بأنه مهدد. فسارع الأخير لتقديم مسدسه له. بالمقابل، فإن طلب السفارة رفض قطعاً من قبل خصومه. لكن الجزائر التي كانت تعاني من حرب داخلية، كانت تبحث عن شخصية تقود المرحلة الانتقالية من ثلاث سنوات وتخرجها من مأزقها. وأعتقد بوتفليقة أن ساعته قد حان أوانها بعد اتصالات أولية من فريق العسكر عبر وسطاء. وبعد الوسطاء، حان وقت لقاء كبار القادة العسكريين: خالد نزار، محمد لعماري (رئيس الأركان)، ومحمد مدين (المعروف بـتوفيق، رئيس المخابرات العسكرية)، الذين التقوه في مطعم فخم لتقديم عرضهم له.
يروي المؤلف في 17 صفحة تفاصيل المفاوضات والضغوط المتبادلة بين بوتفليقة والعسكر، الأول يريد رئاسة تمارس السلطة والعسكر يريدون تأطيرها. ولأن شروط الأول لم تُلبَّ، ولأنه ماطل وناور وتكبر، ولأن مفاوضيه من أصحاب البدلات العسكرية لم يتجاوبوا مع أوامره، فقد انتهت الأمور إلى تكليف اليامين زروال لرئاسة المرحلة الانتقالية، وإلى عودة بوتفليقة إلى جنيف بانتظار أيام أفضل.



ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».


هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية
TT

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، الصادر عن «دار بيسان للنشر والتوزيع» (الطبعة الأولى، نوفمبر «تشرين الثاني» 2025)، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان، لتقدِّم عملاً أدبياً يستند إلى الذاكرة الشخصية والجماعية، ويعيد صياغة تجربة الحرب الأهلية بلغة وجدانية وتأملية بعيدة عن المباشرة والتقرير.

الكتاب ليس سرداً زمنياً للحرب، ولا توثيقاً صحافياً بالمعنى التقليدي؛ بل هو مجموعة نصوص مفتوحة تتداخل فيها السيرة الذاتية مع المشهد العام، ويتحوَّل فيها المكان إلى كائن حي، والمدينة إلى وتر مشدود على الألم والفقد والصمود.

تستعيد هدى سويد نصوصاً كُتبت في قلب الحدث أو على مقربة منه، وتعيد جمعها بعد سنوات طويلة، في محاولة لمواجهة الذاكرة؛ لا للهروب منها، ولتحويل ما تبقَّى من الرماد إلى كتابة. تتنقَّل نصوص الكتاب بين الوجداني والسردي، بين اليومي والرمزي، حاملة آثار القصف، والرحيل، والخوف، وأسماء الأمكنة التي تغيَّرت أو اختفت، وأصوات البشر الذين مرُّوا في الحياة ثم غابوا. وفي خلفية هذه النصوص، تبرز تجربة الكاتبة الصحافية التي عملت في الصحافة الاستقصائية والتحقيقات الميدانية والمقابلات الثقافية والسياسية، ما يضفي على اللغة حسّاً واقعياً لا يلغي بُعدها الشعري.

في مقدمة الكتاب، تكشف هدى سويد عن الصعوبة التقنية والنفسية التي رافقت جمع هذه النصوص، بدءاً من استعادتها من أرشيف صحافي قديم، وصولاً إلى الغوص مجدداً في زمن الحرب. تعترف بأن العودة إلى تلك المرحلة أعادتها إلى ليالي القصف ونهارات الخوف، إلى صور الموت والتهجير وسيارات الإسعاف، وأنها كثيراً ما توقفت أمام النصوص باكية، مثقلة بثقل الذاكرة. من هنا، يأتي الكتاب بوصفه فعل مواجهة، لا حنيناً، ومحاولة لفهم الماضي لا لتجميله.

تضم المجموعة عناوين تشكِّل معاً لوحة فسيفسائية لمدينة مجروحة، مثل: «حين يصغر المكان»، و«أضغاث وقت»، و«طريق الصحراء»، و«لكَ المدينة»، و«عزف رحيل على أوتار مدينة». وهي نصوص لا تَعِد القارئ بالفرح، ولكنها تفتح له باب التأمل فيما جرى، وفي أثره المستمر على الحاضر؛ خصوصاً لجيل لم يعش الحرب؛ لكنه يرث ظلالها.

شهادات نقدية

في مقدمة الكتاب، يرى الناقد والشاعر محمد فرحات أن هدى سويد تلتقط من الحرب «قبساً؛ لا المحرقة كاملة»، وتحوِّل التجربة إلى لغة تصف الواقع وتعيد نحته في آن. ويشير إلى أن الكتابة هنا ليست تحقيقاً صحافياً؛ بل هي أدب يعيد رسم الأمكنة والبشر في زمن الزلزال؛ حيث تتخذ اللغة شكلاً مفتوحاً، مرناً، قادراً على احتواء الفوضى الإنسانية للحرب الأهلية. أما الكاتب والصحافي أحمد أصفهاني، فيتوقف عند فعل «الانتقاء» الذي قامت به الكاتبة لنصوصها القديمة، معتبراً أن هذا الفعل يشبه نفض غبار العمر عن لحظات ولادة قاسية. ويؤكد أن سويد لم تفصل ذاتها عن الحدث؛ بل أخذت القارئ معها في رحلة إلى أمكنة وأزمنة ما زالت محفورة في الذاكرة؛ حيث تتقاطع المهنية الصحافية مع الحس الإنساني العميق.

من جهته، يرى الشاعر والناقد أنطوان أبو زيد أن «عزف على أوتار مدينة» يندرج ضمن أدب الذكرى والتأمل في الزمن المُر، ويشير إلى أن القارئ يواجه نوعين من النصوص: وجدانيات مشبعة بالخوف والفقد والوحشة، ونصوص تخييلية جميلة تنفتح على التحليل والتأمل. ويعتبر أن قوة الكتاب تكمن في قدرته على تحويل الألم إلى مادة أدبية، لا لتثبيته؛ بل لإعادة التفكير فيه.


«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة
TT

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

في كتابه «الخروج من الظل - قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يركز الناقد الراحل دكتور محمد سيد إسماعيل على نموذج الأنثى المتمردة، كما رسمت ملامحها عدد من الكاتبات اللواتي يمثلن تجارب ومنطلقات مختلفة مثل رضوى عاشور وهالة البدري وسلوى بكر، مشيراً إلى أن هذا التمرد غالباً ما يتجه إلى سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها تحت مبررات واهية.

عشق يصدم المجتمع

في قصة «رأيت النخل» لرضوى عاشور، تبدو الشخصية الرئيسية في مواجهة مجموعة من «التقاليد» المجتمعية الراسخة التي تقرر للمرأة بعض الأعمال وتستهجن قيامها بأعمال أخرى. لكن (فوزية) لا تقر هذا ولا تلتزم به وتؤكد «تمردها» الدائم عليه. هي مغرمة بالنبات، غراماً يجعلها تراه في أحلامها وتستحضر دائماً ما كان يرويه أبوها عن النخل الذي يشبه الإنسان في استقامة القد والجمال، وخلقه من ذكر وأنثى وكيف أن «جُماره» في رأسه كعقل الإنسان في رأسه إن أصابها سوء هلك؛ ولهذا فقد كانت تركض خلف نواه وتخبئه في جيبها العميق، وعندما ترجع إلى البيت تضعه في قطنة مبللة حتى يلين وينتفخ ثم تدفنه في الطين وتغمره بالماء.

تقول فوزية: «في عملي لا يفهمونني، وفي الحي أيضاً. سمعتهم بأذني يقولون فوزية المجنونة التي تلقي بنفسها على نوى تمر كأنه جنيهات الذهب». إن الاعتراض على هذا العمل يرجع في الأساس إلى النظر إليه بوصفه من أعمال الرجل؛ وأن الأنثى التي تمارسه إنما تخرج بذلك عن طبيعتها؛ وهي نظرة لا ترى في المرأة إلا كائناً ضعيفاً أو ينبغي أن يتصف بالرقة والجمال الحسي إلى آخر هذه المواصفات التقليدية الشائعة.

يظهر ذلك بوضوح في اعتراض إحدى زميلات (فوزية) على سلوكها: «في العمل أيضاً يتهامسون وراء ظهري. في مرة قالت لي زميلتي:

- انظري يا فوزية إلى يديك.

ففهمت أنها تشير إلى الخطوط السوداء تحت الأظافر فقلت

- هذه ليست وساخة، إنه طين متخلف من الزرع الذي أزرعه.

قالت وهي تربت على كتفي: «لا يليق لا يليق أبداً وأنت موظفة!».

تضفي المؤلفة بعض الصفات الضرورية على شخصية «فوزية» ومنها صفة «الإصرار» التي تظهر في أول مشاهد القصة حين تخرج بحثاً عن بعض أنواع «البراعم» في الشتاء القارس: «طال الشتاء فلم أعد قادرة على الانتظار، لبست معطفي القديم وربطت رأسي بمنديلي الصوفي ونزلت إلى الشوارع أقطعها وأتوقف عند الشجر، أنظر وأتحقق. وعندما تفشل عيناي في رؤية شيء على الفروع الجافة أمد يدي أحس وأتحسس».

ويبدو أن تمرد هذه الشخصية وإصرارها استطاعا «خلخلة» هذه التقاليد المجتمعية المضادة على نحو ما يظهر في نهاية القصة، حين تقول (فوزية): «اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع وقالت رأيت أصص الزرع في الشرفة، قالت إنها جميلة وسألتني على استحياء أن أعلمها فأريتها كيف، أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته ثم جلسنا وتحدثنا».

صرخة زوجة

وإذا كانت رضوى عاشور قدمت نموذج الشخصية المتمردة على التقاليد المجتمعية المستقرة، فإن هالة البدري في قصة «مرآة» تتمرد من خلال شخصية الساردة على وضعية «أسرية» خاطئة، لأنها تقوم على العطاء من جانب أو طرف واحد، وهو الزوجة التي ترعى زوجها وأبناءها دون مقابل معنوي، الأمر الذي جعلها تطرح تساؤلاً مريراً: «هل هناك ما يستحق أن أقتلع سنوات عمري لأصفّها أحجاراً لأساس أعلم أن نزوة ريح قادمة لا ريب لكي تدحرج كل منها في اتجاه».

ومن ثنايا هذا السؤال الاستنكاري يبدأ تمردها الذي ظل يتصاعد من مستوى إلى آخر، يبدأ المستوى الأول بكشف زيف الزوج: «الآن أستطيع أن أبتسم له وأنا في قمة يأسي من عدم فهمه لأي شيء» أو قولها تصويراً لسلبيته وأنانيته: «الآن عرفت أنك لا تسمع شيئاً، أنت تتلقى فحسب، كيف غاب عني هذا لسنوات، من المسئول؟ أنا بأوهامي عن أعبائك أم أنت».

وتصور عزوفه عن الحياة بأنه ليس زهداً «بل تركيب مرآه تعكس فحسب، ولا تشع».

يتصاعد هذا التمرد متحققاً على مستوى الأداء «الأسلوبي» فيتحول من أسلوب «التصوير» الفني القائم على عنصري «الاستعارة» و«التشبيه» إلى الأسلوب المباشر المتسم بالحدة والوضوح على نحو ما يظهر من وصفها الباتر لهذا الزوج: «أنت مخلوق هلامي لا يشعر، لا يتأوه».

ويصل التمرد إلى ذروته حين تكشف الزوجة عن تناقض رؤيتها للحياة مع رؤية زوجها قائلة: «أنت زاهد فيها وأنا أريدها بكل ما فيها من ألم ويأس وسعادة ونجاح، قمة التحقق أن تدمينا وتبكينا وتأخذ منا وتهبنا ونختطف منها ما نشاء، أن ننتشي بالحب والموت والميلاد، وأن نطمح للقمم والروابي، أن نطير فنمسك بالسحب، أن نسقط معها مطراً، أن تتمزق أجسادنا أشلاء فوق صخورها، وأن ندفن فننمو زهوراً يانعة من جديد».

تساؤلات طفلة

تبدو فكرة «الرجولة» أو مفهومها الحقيقي أحد الدلالات الأساسية في قصة «ابتسامة السكر» لسلوى بكر، واللافت حقاً أن طرح هذا «المفهوم» يتم من منظور طفلة تتخذ موقع الراوي الداخلي المشارك في الأحداث. تقوم الأم بتلقينها وصايا ومفاهيم حول الرجولة، كما أن المؤلفة لم تفرض على الطفلة وعياً يعلو على طبيعة إدراكها في مثل هذه السن المبكرة، كما لم تفرض عليها لغة لا تتناسب مع المفردات المتداولة في مثل تلك المرحلة.

ومن خلال تأمل الراوية الطفلة لأوصاف أبيها الراحل التي ترد على لسان الأم، تطرح مفهومها الخاص للرجولة والذي يتمرد على المفهوم السائد، فهي ترفض بداية أن يكون «طويلاً عريضاً يسد الأبواب» وكأننا أمام ترميز خفي يقوم على رفض الرجولة التي تقف حائلاً أمام رغبات الآخرين كما يبدو من سؤال الطفلة البريء: «لو كان هناك أي شخص يرغب في المرور، هل من الأدب أن يسد أبي الباب ويمنعه من ذلك؟».

وهكذا، تجد أنفسنا أمام تفكيك لمفهوم الرجولة ينزع عنها فكرة الاحتكام إلى «الهيئة» أو «المظهر»، فحين تقارن هذه الطفلة بين شقيقها الذي ينهرها دائماً وأختها (أسماء)، تقول: «أسماء أكبر منه وأطيب منه، تساعد أمي في الطبخ وغسل الصحون، ولا تجعلها تعد لها الشاي أثناء المذاكرة كما يفعل هو، لكن أمي لا تقول عنها إنها سوف تكون رجل البيت».