مقاهي جدة الشابة تتحول إلى مراكز فنية وبالعكس

تغير الكثير في جدة! كنت أقول ذلك كثيراً لمعارفي وأصدقائي، ولكن فكرتي عما تغير في جدة لم تكن مكتملة أبداً؛ كانت دائماً حول الإحساس العام بالراحة الذي أشعر به كلما خرجت في شوارع عروس البحر الأحمر في الأعوام القليلة الماضية. غير أن الإحساس العام الذي تحسه في جدة، والذي يأتي من الوجود في الأماكن المعتادة نفسها، مثل الأسواق والمقاهي والمطاعم والجلوس على الكورنيش، قد لا ينقل لنا ما تغير بشكل كبير في أماكن أخرى قد لا نعرفها، ولكن الجيل الشاب يعرفها جيداً.
الحديث مع قريبات شابات يفتح لي أبواباً على مناطق جديدة من جدة التي كنت أظن أني أعرفها جيداً. أتابع بدهشة كل الأماكن التي تستعرضها قريبتي الشابة على موقع «إنستغرام»، الدليل المعتمد لكل شاب وشابة سعودية. تتحدث قريبتي عن عالم شاب حي زاخر بالنشاط والابتكار، أرى من صفحاتها على «إنستغرام» أسماء لمقاهٍ ومطاعم وفعاليات موسيقية ومصورين وطهاة وفنانين وعازفين وأصحاب شركات صغيرة؛ عالماً جديداً أحب أن أراه. جذبتني فكرة أحد المقاهي الذي أعلن عن ليلة مع موسيقى الجاز، فبادرت لحجز طاولة لي ولصديقات.
عندما أصل لمقهى «بوهو»، ألاحظ زحاماً خفيفاً خارج المكان، حيث يجلس عدد من الشبان والشابات على مقاعد خارج المقهى يتحدثون بحيوية وراحة. أدلف للداخل، فتجذبني أنغام موسيقية جميلة، وأرى الفرقة الصغيرة في ركن المكان تعزف إحدى الأغاني الشهيرة، وأدور ببصري في المكان لآخذ لمحة للمقهى المزدحم: الديكور لطيف جداً؛ لمسات فنية مختلفة من التماثيل الموضوعة على الأرض أو على الطاولات، وهناك اللوحات التي على الحوائط، ألمح منها لوحة للفنان النمساوي غوستاف كليمت، وتماثيل من الأبنوس الأسود على جانبي الباب؛ تتدلى نباتات صناعية ومصابيح مختلفة الأحجام من السقف؛ وفي المؤخرة تجد ركن القهوة، حيث توجد أرفف لعرض الساندويتشات والكعكات المختلفة، ويعمل فريق صغير خلف الكاونتر: شباب وشابات سعوديات يقمن بأخذ الطلبات وتحضير القهوة والمشروبات.
على طاولتي، أجلس مع صديقات، نطلب بعض أنواع القهوة المختلفة التي توجد على القائمة، وأيضاً بعض الحلويات، ولا توجد أكلات أو أطباق تقليدية؛ كلها مأكولات خفيفة مرحة الطابع، سواء من حيث أسمائها أو من حيث المكونات. حين ينطلق المغني الشاب أمامنا بأغنية شهيرة للمغني فرانك سيناترا، نتوقف عن الحديث، ونتابع الغناء. الشاب (اسمه عبد الله العمودي) يغني بحساسية جميلة، وصوته دافئ يبدو منسجماً مع أغنيته. يأخذنا الأمر دقائق لاستيعاب ما يحدث حولنا، وجمهور المقهى مختلط، يتابع الموسيقى، وتخفت الأحاديث لحد كبير. تنظر لي واحدة من صديقاتي، وتقول: «أين كان هذا المكان مختبأ؟ وكيف وصلت إليه؟». أجيب: «لديّ مصدر خاص من جيل جميل متفتح على الحياة».
نستمع للغناء الجميل والمتقن أيضاً. وحين تنتهي الأغنية، نتابع حديثنا حول التغيير الحادث أمامنا، وتخبرنا إحدانا بأن ابنها من الزبائن الدائمين لـ«بوهو»، بينما تشع السعادة من وجه صديقة أخرى وهي تقول: «لا أكاد أصدق أننا نعيش في المدينة نفسها».
الفرقة التي تعزف أمامنا مكونة من 4 أشخاص، واسمها «ذا برايت سايد». تبدأ الفرقة في العزف مرة أخرى، وتنضم لها سيدة شقراء لتغني منفردة، ثم تنضم للشاب في أداء ثنائي لأغنية «سوموير أوفر ذا رينبو» (في مكان ما فوق قوس القزح). يؤديانها بتمكن جميل وإبداع، ويجذبان تصفيق الجمهور بعدها.
قصة «بوهو»
السهرة تنتهي، ولكني أعود إلى المقهى لأعرف قصته. وفي يوم في وسط الأسبوع، أقابل مؤسستي «بوهو»، وهما شقيقتان سعوديتان: منى وهند السليمان. نجلس في أحد الأركان، ويدور بيننا حوار طويل حول إنشائهما للمكان ومشروعاتهما الآتية.
الشقيقتان منى وهند السليمان تحرصان على الوجود في أمسيات المقهى، وقد أصبحتا من العلامات التي يألفها جمهور المقهى، حتى من دون أن يعرف هوياتهما. وبعد الحديث حول الأمسية الغنائية في الليلة السابقة، أعود معهما للبداية وأتساءل عن منشأ الفكرة؛ تشير منى إلى أن البداية كانت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وتضيف: «أكملنا عامنا الأول كمقهى، وأطلقنا العروض الموسيقية الحية المنتظمة بعد 4 أشهر من الافتتاح. وبعدها، أطلقنا اللقاءات والنقاشات مع مفكرين ومبدعين، آخرها كان لقاء مع مخرجات سعوديات».
وتعود بنا هند إلى نقطة مهمة، وهي الحاجة لأماكن ترفيه شابة وعصرية في مدينة جدة، وتقول إن فكرة إنشاء مقهى ومعرض فني نشأت من ملاحظة عدم وجود مثيلها في جدة. الحس الفني والاهتمام باقتناء الأعمال الفنية المختلفة يبدو من خلال تنسيق القطع المختلفة حولنا، التي تتجاوز كونها قطعاً للديكور، فهنا نرى غوستاف كليمت، ولوحته الشهيرة «القبلة»، وتشير منى إلى عمل آخر بالقرب منا لمايكل أنجلو. أما التماثيل الموزعة حولنا، فتثبت أن هناك عيناً مدربة قامت باختيارها وعرضها لجمهور لم يعتد على مثل هذه الأنواع من الفنون في الأماكن العامة. وكان وجود العروض الموسيقية الحية تطوراً طبيعياً، حسب ما تقوله هند: «عندما أقيم مقهى، وأعرض به أعمالاً فنية، فمن الطبيعي أن يكون جانب مما أقدمه للزائر فنياً أيضاً. ومن هنا، جاءت فكرة العروض الموسيقية الحية».
ألتقط الخيط هنا، وأسألها عن عملية الاختيار، فتقول هند: «منى هي المسؤولة عن اختيار المغنين، إذ لديها أذن موسيقية مرهفة. إننا نختار بتأني الفعاليات التي نستضيفها هنا، فنقيم لقاءات مع الموسيقيين والمغنيين لاختيار الأفضل (على «إنستغرام» وضع المقهى نماذج من آخر تلك الجلسات، مع أسئلة للجمهور لاختيار الأصوات المفضلة لهم).
ومن الفنانين ننتقل للحديث عن الجمهور الذي يحضر للمقهى كل ليلة سبت للاستماع، حيث تقول منى: «الناس يأتون بقصد الاستمتاع بالموسيقى؛ قصدنا ألا نقدم وجبات عشاء أو شيشة، وهو ما يجعل اهتمام الجمهور منصباً على الفنان فقط الذي يصقل موهبته أمام جمهور حي».
الأختان السليمان درستا في جامعة الملك عبد العزيز، في مجالي طب الأسنان وعلم النفس، ثم سافرتا للولايات المتحدة الأميركية لدراسة الماجستير والدكتوراه. تقول لنا منى: «فكرنا قرب انتهاء فترة الدراسة عن أننا سنعود للحياة في جدة، وعن الأشياء التي سنفتقد وجودها. عدت قبل أختي هند بعام، وكنت أشتكي لها من عدم وجود أماكن للتنزه والترفيه. ومن هنا، فكرنا بأن نقيم المكان الخاص بنا، وفكرنا في الأشياء التي نحب شخصياً وجودها في هذا المكان، عبر سؤال: لو أردتُ الذهاب لمكان، ما الذي أريد أن أجده هناك؟». وكانت الإجابة: «أريد أن أرى ألواناً جميلة، وأن أجلس على مقاعد مريحة، وأن أجد تفاصيل أخرى تلقطها عين المرأة أكثر، مثل أن أجد أفياش كهرباء لشحن الجوالات مثبتة في أسفل المقاعد والطاولات؛ باختصار أردنا أن نخلق مكاناً يجمع بين الفن والموسيقى، وأن يكون مكاناً مريحاً ممتعاً ملوناً».
وتتدخل منى مضيفة: «أردت مكاناً أسمع فيه لأغنيات فرانك سيناترا... هنا مكاني الذي أشعر فيه بالسعادة». أقول لهما: «واضح أن هناك ناساً كثيرين يوافقانكما الرأي!»، فترد: «يبدو ذلك، أحسسنا أننا لسنا الوحيدات الراغبات بوجود شيء مثل هذا».
وعن ردة فعل الجمهور حول فكرة المقهى المختلفة، تقول الشقيقتان: «عند فتح المحل، تخوفنا من ردود فعل من بعضهم ممن قد لا تعجبهم لوحة فنية مثلاً، أو لوجود شابات سعوديات يعملن (باريستا)، لكننا فوجئنا بأن ردود الفعل العامة تجاه وجود الفتيات السعوديات ووجود لوحات فنية كان مشجعاً».
أطرح سؤالاً عن المفهوم خلف إقامة المقهى، أو بالأحرى: هل هو مشروع فني أم هو مقهى أم أكثر؟ فتقول منى: «المفهوم واحد خلف المشروع بأكمله. فعلى سبيل المثال، قائمة الطعام تعبر عن أفكارنا؛ الوصفات مستوحاة من مختلف أجزاء العالم، والكسكات كلها أصنعها بنفسي فأنا هاوية للطهي. هناك إحساس بالطهي المنزلي؛ ليست هناك «فذلكة». وأركز في الأكثر على الطعم. وقائمة الطعام بها تنويعات من بلاد مختلفة، فلدينا مشروبات بوصفات مكسيكية أو يابانية بطعم الماتشا، أو الإضافات مثل وضع الهيل مع القهوة الإيطالية، وغيرها».
وإلى جانب المقهى والموسيقى، اختارت الأختان السليمان نشاطات أكثر تنوعاً وأقرب لتفكيرهما ليستضيفها المكان، إذ توضحان: «هذا المحل هو أول تجربة لنا في البيزنس، وحتى عائلتنا ليست لديها خلفية بيزنس؛ الوالد موظف بـ(أرامكو)». وبهذه النظرة، توسعت الأنشطة لتخرج من حيز النشاط الذي له مردود مالي إلى أنشطة تحمل بصمات اجتماعية: «نحب أن يكون هناك نشاطات دائمة طوال أيام الأسبوع. مثلاً، استضفنا حلقة نقاش حول فيلم (الجوكر).
وبالنسبة لي كعالمة نفس جنائي (تقول هند السليمان) رأيت أن ذلك جزأ من خدمة المجتمع. أيضاً، كونا جمعية لمساندة مرضى الاكتئاب من دون رسوم، وهي مفتوحة للكل، أحياناً العدد يكون 6 وأحياناً 18. وخلال فترة إقامة معرض الكتاب، أقمنا جلسة مع أحد الناشرين». كذلك يضيف المقهى نشاطات تعليمية برسوم مادية، مثل ورش الرسم، وفن الرسم على القهوة، وفنون الخط العربي، وأيضاً تصميم المجوهرات.
وبعد كل هذا النشاط، ما تزال د. هند السليمان ود. منى السليمان تواصلان عملهما كمحاضرات في جامعة الملك عبد العزيز: «ما زلنا نعمل في وظائفنا كمحاضرات بالجامعة. وبعد الدوام، نحضر هنا».