ألمانيا: الديمقراطيون المسيحيون بانتظار زعيم جديد خلفاً لميركل

بعدما أطاحت انتخابات ولاية ثورينجيا وتداعياتها بآنغريت كرامب كارنباور

ألمانيا: الديمقراطيون المسيحيون بانتظار زعيم جديد خلفاً لميركل
TT

ألمانيا: الديمقراطيون المسيحيون بانتظار زعيم جديد خلفاً لميركل

ألمانيا: الديمقراطيون المسيحيون بانتظار زعيم جديد خلفاً لميركل

يوم 7 ديسمبر (كانون الأول) 2018، تنفّست المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الصعداء. لم تقاوم الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها، ولا علامات الارتياح التي علت وجهها. لقد كانت تلك من المرات القليلة بل النادرة التي تعبر فيها ميركل عن مشاعرها علناً. ففي ذاك اليوم، نجحت آنغريت كرامب كارنباور، «خليفتها» المختارة لزعامة «حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، بانتزاع الفوز بزعامة الحزب المحافظ، في أعقاب قرار «زعيمته» ميركل عن المنصب.
لقد سارت خطة «تقاعد» المستشارة «المنظّم» على ما يرام... وتماماً كما رسمتها. فهي أرادت أن تكمل عهدها كمستشارة حتى الانتخابات العامة عام 2021. وبعد تلك المحطة الانتخابية تتقاعد نهائياً عن العمل السياسي. ولكن ميركل لم تشأ أن تترك حزبها يتخبّط في الفوضى بعد رحيلها، ولا أن ترى إرثها يُمزّق بعدما قادت الحزب الكبير طوال 20 سنة أمضت 15 سنة منها على رأس السلطة في ألمانيا.
وبالتالي، قررت الاستقالة من زعامة الحزب في خطوة غير اعتيادية، لإعطاء الوقت الكافي لـ«خليفتها» كي تتأقلم مع قيادة الحزب تمهيداً لتسليمها المستشارية. غير أن كرامب كارنباور، التي تشتهر في ألمانيا بالأحرف الثلاثة الأولى من كلمات اسمها الكامل «آ.ك.ك»، لم تصمد في زعامة الحزب أكثر من سنة واحدة؛ إذ إنها استقالت، هذا الأسبوع، وأعادت بذلك السباق لخلافة ميركل إلى خط البداية، لا... بل وأيقظت المخاوف على مستقبل «حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، الذي حولته ميركل إلى حزب وسطي متسامح في موضوع اللجوء ومنفتح على التعدّدية، خلافاً لما يؤمن به كثيرون في التيار اليميني ضمن قاعدته الشعبية.
لا يمكن ذكر كثير من الإنجازات التي حقّقتها آنغريت كرامب كارنباور، الخليفة المرتقبة سابقاً لخلافة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، طوال السنة التي تزعمت فيها الحزب الحاكم. فالحقيقة أن الصحيح هو العكس تماماً. إذ يمكن القول إنها تسببت غير مرة بتوتّر العلاقة مع الشريك في الائتلاف الحاكم، هو «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، من خلال تصريحات أدلت بها حول المشاركة العسكرية لألمانيا في الخارج.
هنا يجدر التذكير بأن ميركل سلّمت «آ.ك.ك» منصب وزيرة الدفاع في حكومتها، إلى جانب توريثها زعامة الحزب. ولكن حتى في وزارة الدفاع لم تحقق «آ.ك.ك» الكثير. وجاءت تصريحاتها عن المشاركة العسكرية في الخارج، مثلاً، أزعجت وزير الخارجية هايكو ماس الاشتراكي المعارض لأي توسّع خارجي للجيش الألماني لأسباب تاريخية.
أيضاً، لم تستطع خليفة ميركل السابقة من موقعها كزعيمة للحزب المحافظ الكبير تحسين موقعه في استطلاعات الرأي واجتذاب قطاعات من الناخبين يخسرها الديمقراطيون المسيحيون منذ سنوات، تحديداً منذ أزمة اللاجئين وقرار ميركل استقبال مئات آلاف السوريين. ولقد كانت نتائج الانتخابات الأوروبية والانتخابات المحلية في بضع ولايات ألمانية سيئة حقاً بالنسبة للحزب... وعلى الرغم من ذلك، بقيت كرامب كارنباور في منصبها.
- قشة ثورينجيا... التي قصمت ظهر البعير
ولكن على ما يبدو كانت انتخابات ولاية ثورينجيا الصغيرة، وهي واحدة من ولايات ألمانيا الشرقية السابقة، «القشة التي قصمت ظهر البعير». فالولاية شهدت انتخابات محلية قبل 3 أشهر، وأفرزت تلك الانتخابات نتائج سيئة للديمقراطيين المسيحيين، أسهمت في القضاء (إن لم تكن هي التي قضت فعلاً) على كرامب كارنباور. غير أن اللافت فيما حصل أن ما هز مكانة «آ.ك.ك» ما كان خسارة الحزب هناك أو تحقيقه نتائج سيئة فحسب، بل كان الأمر الأسوأ «تمرُّد» أعضاء الحزب في ثورينجيا على أوامرها، وخرقهم العرف القاضي بتجنّب التعامل مع حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف؛ إذ اختار هؤلاء التصويت لمصلحة الحزب المتطرف، الذي يتهمه بعض خصومه بالعنصرية، لاختيار رئيس حكومة ائتلافية في الولاية من «حزب الديمقراطيين الأحرار».
شكّل هذا «الحلف» صدمة وطنية، وكانت تلك المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي يتحالف فيها المحافظون مع المتطرفين. وبالنسبة لكثيرين من الساسة والصحافيين كان ذلك اليوم «يوماً أسود للديمقراطية الألمانية». كثيرون، من بينهم بودو روميلو، رئيس حكومة ثورينجيا السابق الذي ينتمي لحزب «دي لينكا» اليساري المتشدد، شبّهوا ما حصل في مدينة إيرفورت (عاصمة ثورينجيا) بالتطورات في «جمهورية فايمار» السابقة (بين عامي 1919 و1933) التي مهدت لصعود أدولف هتلر وحزبه النازي إلى السلطة. يومذاك بدأ المحافظون يتحالفون مع حزب هتلر النازي المتطرّف في الولايات الشرقية، أملاً في الاحتفاظ بالسلطة في وجه خطر اليسار. وكان هذا التحالف الظرفي الاستنسابي مدخل هتلر للسلطة وبداية صعوده الفعلي... والمفارقة أن ولاية ثورينجيا أيضاً نفسها كانت التي تسببت بالأزمة القائمة اليوم.
أكثر من هذا، أنه بين ما يزيد من التشبيهات بين «جمهورية فايمار» وما يحصل اليوم، أن زعيم حزب «البديل لألمانيا» في تورينغن، يورغ هوكيه، هو نفسه من الجناح الشديد التطرف في الحزب لدرجة أن قاضياً حكم، العام الماضي، بأنه يمكن وصفه بـ«الفاشي». وهو يستخدم دوماً تعابير نازية، وحتى أعضاء حزبه لا يمكنهم التمييز بين جمل منسوبة له وجمل منسوبة لهتلر.
وفي إحدى المرات، قبل إجراء مقابلة معه، عرضت قناة ألمانية على هوكيه شريطاً مصوّراً يُظهِر مراسلاً يسأل أعضاء في «البديل لألمانيا» بأن يخمِّنوا ما إذا كانت الجملة المتلوة هي لهوكيه أم أنها مستخرجة من كتاب «كفاحي» لهتلر... وبالنتيجة أخطأ معظمهم في التخمين. وعلى الأثر، غادر هوكيه المقابلة وهو يهدد الصحافي بأن «شيئاً ما قد يصيبه».
- شخصية «آ.ك.ك» مسؤولة جزئياً
على الرغم مما سبق، لا يتفق الجميع على التشابه بين ما يحصل الآن وما حصل في أيام «جمهورية فايمار»؛ إذ يقول كريستيان كاستروب، من معهد برتلسمان في العاصمة الألمانية برلين، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إنه لا يرى رابطاً مباشراً، قبل أن يضيف: «لكنه كتذكير تاريخي ومثل سيئ جداً فهو مهم، لأنه يعني أن ثمة مسؤولية خاصة على الأحزاب المحافظة؛ بأن تبقى متيقظة».
أيضاً لا يرى كاستروب أن المسؤولية كلها تقع على عاتق كرامب كارنباور. ذلك أنه يعتبر أنها ما كانت تتمتع بما يكفي من «السلطة والإرادة» لأحداث تغيير داخل الحزب. ويتابع: «لقد أمضت معظم وقتها في إدارة شؤون الحزب» لا أكثر... و«طبعاً، لم يساعدها أنها لا تتمتع بكاريزما خاصة». ومن ثم استطرد كاستروب قائلاً: «ميركل نفسها لا تتمتّع بكاريزما معينة، ولكن ما يميزها صلابة مواقفها ووضوح رؤيتها، وهو ما تفتقر إليه كرامب كارنباور».
ويرى الباحث والمحلل الألماني أن تصريح ميركل من بريتوريا (عاصمة جنوب أفريقيا)، الذي جاء بعد يوم على «فضيحة ثورينجيا»، والذي أعلنت خلاله أن ما حصل «غير مقبول بتاتاً، ولا يمكن التسامح معه»، كان أشبه بالضربة القاضية لسلطة كرامب كارنباور. إنه بعد تصريح ميركل هذا، كان واضحاً بأنه سيتوجب على «آ.ك.ك» الاستقالة.
هذا شكّل، على ما يبدو، نوعاً من الاستياء لدى زعيمة الحزب المستقيلة التي لم تتردّد بانتقاد قرار ميركل فصل المستشارية عن زعامة الحزب، وهو أمر غير معهود في ألمانيا؛ إذ قالت «آ.ك.ك» يومذاك إن «فصل المنصبين» أضعف موقعها، مع أن ميركل كانت تأمل تحقيق عكس ذلك عندما قرّرت فصل الموقعين مؤقتاً.
- وأين مسؤولية ميركل؟
من جهة أخرى، كتبت بعض الصحف أن فشل الديمقراطيين المسيحيين في ثورينجيا، مسؤولية ميركل التي «أغلقت الطريق أمام تجديد الحزب بتمسكها بموقع المستشارية، وهي رغم أنها اختارت كرامب كارنباور لخلافتها، فإنها أعاقت تقدمها، وحولتها إلى ميني ميركل».
بيد أن كاستروب يرى أن ميركل كانت «محقة من حيث المبدأ»؛ بأن تمنح خليفتها فترة انتقالية للتأقلم، كما أنها ساعدتها بمنحها حقيبة وزارة الدفاع التي كانت بيد أورسولا فون دير لاين، التي أصبحت مفوضة الاتحاد الأوروبي. وحسب كاستروب، فإن كرامب كارنباور «لم تقم بدور جيد كذلك في وزارة الدفاع»، ومن كان ليُعلم ما إذا كانت ستؤدي أداء مختلفاً في حال تسلمت منصب المستشارية مع زعامة الحزب في الوقت نفسه.
في أي حال، لكن الآن بعد أن استقالت كرامب كارنباور، عاد السباق لخلافة ميركل إلى البداية، ومعها المخاوف حول هوية الذي سيخلفها... وإلى أين سيذهب بالحزب. فطوال السنوات العشرين الماضية، نجحت أنجيلا ميركل بتطوير الحزب وتحويله إلى حزب وسطي، رغم أنه بقي محافظاً. ولكن قرار ميركل (وهي ابنة قسيس بروتستانتي) فتح الأبواب للاجئين تسبب بانقسام شديد، ليس فقط في أوساط ناخبي الحزب، بل داخل هيكله القيادي كذلك.
ومن ثم، ظهر جناحان، أحدهما وسطي والآخر يميني متطرف، يدعو بعض ناشطيه إلى التحالف مع «البديل لألمانيا» على الصعيد المحلي. ولم تساعد اعتدال ميركل استطلاعات الرأي التي أخذت تظهر تراجع حزبها إلى المرتبة الثالثة وما دون، في معظم الولايات الشرقية، في حين يحل حزب «البديل لألمانيا» في الطليعة.
وبالتالي، يعتقد بعض الديمقراطيين المسيحيين أن الحل الوحيد للبقاء في السلطة بالولايات الشرقية هو عبر التحالف مع حزب «البديل لألمانيا»، بينما يروّج آخرون إلى تبنّي الحزب نفسه مبادئ سياسية قريبة من مبادئ الحزب المتطرف، خاصة تلك المتعلقة باللجوء، في محاولة لاستعادة الناخبين المحافظين الذين هجروا الديمقراطيين المسيحيين، ولجأوا إلى «البديل لألمانيا». ويرى هؤلاء الناخبون أن الحزب المحافظ لم يعد يمثلهم بشكل جيد، وأن سياسة اللجوء التي اعتمدتها ميركل ليست بالضرورة السياسة التي يريدون دعمها.
- بين نقيضين يميني ويساري
وفي هذا الصدد، يرى كاستروب أن الدعوات للتعاون من حزب «البديل لألمانيا» ستبقى دائماً مطروحة، لا سيما في الولايات الشرقية، حيث «هناك إرادة كبيرة عند الديمقراطيين المسيحيين لاستعادة السلطة». لكنه يضيف أن هذه ليست فكرة جيدة، مع العلم أنه كما «يمنع» حزب ميركل التحالف مع «البديل لألمانيا»، فهو يمنع كذلك التحالف مع حزب «دي لينكا» اليساري المتشدد. وللعلم، مثلما يتمتع «البديل لألمانيا» بنفوذ قوي في الولايات الشرقية، فإن حزب «دي لينكا» (الوريث غير الرسمي للشيوعيين الحاكمين سابقاً في ألمانيا الشرقية مع حلفاء لهم) يتمتع أيضاً بشعبية واسعة. ولقد حل «دي لينكا» أولاً في ثورينجيا، متقدماً عن «البديل لألمانيا»، ما يعني أنه كان بإمكان الديمقراطيين المسيحيين دعم رئيس الحكومة اليساري هناك لإبقائه في منصبه، لكنهم لم يفعلوا، بل فضّل قادتهم التحالف مع اليمين المتطرف.
كاستروب يرى هنا أن وضع اليمين المتطرف في الخانة نفسها مع اليسار المتشدد «مشكلة بحد ذاتها»، ويجب أن تنتهي. وهو يعتقد أن من أولى مهام أي زعيم جديد إنهاء هذا «التوازن بين اليمين المتطرف واليسار المتشدد لأن (دي لينكا) لا يشكل أبداً خطراً على الديمقراطية بعكس (البديل لألمانيا)». ويضيف: «على الجميع أن يواجه الفاشية، ولكن اليسار المتشدد ليس فاشياً، ولا يجوز وضعه في الخانة نفسها».
في هذه الأثناء، يروّج البعض، لا سيما «حزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي»، وهو الحزب الشقيق للديمقراطيين المسيحيين في وزارة بافاريا، لاعتماد أسلوب شبيه بالأسلوب الذي اعتمده المستشار النمساوي اليميني سيباستيان كورتز، زعيم حزب الشعب المحافظ؛ إذ استعار كورتز كثيراً من سياسات حزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا، لا سيما فيما يتعلق بالمسلمين والهجرة واللاجئين، ثم إنه تحالف في الحكومة الأولى التي شكلها مع حزب الحرية. غير أن تلك الحكومة لم تعمّر طويل بسبب فضيحة هزّت الحزب اليميني المتطرف. وبالتالي، شكل كورترز حكومته الثانية مع حزب «الخضر» اليساري، مع محافظته على انعزاليته المتطرفة المتعلقة باللاجئين.
ومما يجدر ذكره، أن كرامب كارنباور حاولت اتخاذ مواقف أكثر حزماً من اللاجئين إبان فترة ترؤسها للحزب، في محاولة لإبعاد نفسها عن ميركل وكسب المزيد من الأصوات، إلا أن مسعاها لم ينجح... ثم إن سياستها لم تكن أصلاً «راديكالية» بما يكفي لإرضاء جموع الناخبين اليمينيين المتطرفين.
- عود على بدء: من سيخلف أنجيلا ميركل؟
> يعتمد مستقبل «حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي» الألماني اليوم بعد استقالة زعيمته آنغريت كرامب كارنباور على من سيكسب معركة الزعامة. ومن بين المرشحين لخلافة «آ.ك.ك»، مجدداً منافسها القديم، فريدريش ميرز (63 سنة)، وهو رجل أعمال ثري كانت ميركل نفسها قد دفعته للتقاعد من العمل السياسي قبل نحو 15 سنة، ويُعد من أشرس منتقديها داخل الحزب.
يحظى ميرز بتأييد كبير داخل الجناح اليميني المتشدد في الحزب، أي أولئك الذين يروّجون لضرورة إجراء تحالفات مع «البديل لألمانيا»، ثم إنه لا يخفي طموحه السياسي، إذ استقال من منصبه في شركة «بلاك روك» قبل بضعة أسابيع تمهيداً للتركيز على السياسة أكثر. وهو كان يأمل أصلاً أن ينتخب زعيماً للحزب في ديسمبر (كانون الأول) 2018، لكن «آ.ك.ك» سبقته بفارق ضئيل.
ورغم أن هذه المرة لم يعلن أحد بعد نيته الترشح لزعامة الحزب، ولم يحدد أصلاً موعداً لهذه الانتخابات، فإن الكلام يدور على أن التنافس سيكون بين ميرز ورئيس حكومة ولاية الراين الشمالي - وستفاليا ونائب زعيم الحزب أرمين لاشيت (58 سنة). كذلك هناك وزير الصحة الشاب يانس شبان (39 سنة) الذي برز اسمه عام 2018. ورغم أن الأخير قد لا يتمكن من كسب أصوات كافية للفوز بزعامة الحزب، فهو ما زال يطمح لذلك. وللعلم، عام 2018، خرج شبان من الدورة الأولى للتصويت فيما بقيت «آ.ك.ك» وميرز للدورة الثانية.
بين الثلاثة، يُعد لاشيت من المقرّبين لميركل، وهو لم يترشح لخلافتها في المرة الماضية. وثمة من يتحدّث عن اتفاق «تحت الطاولة» حصل بين لاشيت وميركل عام 2018 يقضي بإحجامه عن الترشح في حينه إفساحاً في المجال أمام كرامب كارنباور للفوز. ولكن الآن قد تكون الطريق أمامه ممهدة، خاصة أن سياسته قريبة من سياسة ميركل.
وحقاً، كثرة من المتابعين يرون أن فرصة لاشيت وافرة هذه المرة، مستبعدين فرص اختيار ميرز، رغم التأييد الكبير الذي يحظى به من «الجناح المتطرف» داخل الحزب. ويعتبر هؤلاء المتابعون أن لاشيت محبوب من الجميع داخل الحزب المحافظ ويجيد التعاطي مع الناخبين.
وفي المقابل، تتداول صحف ألمانية منذ أيام «سيناريو» ضم ميرز لحكومة يرأسها لاشيت، وتعيينه وزيراً للاقتصاد من أجل الاستفادة من خبرته في عالم الأعمال، وفي محاولة لكسبه إلى جانبه وطمأنة «المتطرفين» في الحزب كذلك.
في مطلق الأحوال، وبغض النظر عمّن سيكون زعيم الحزب المقبل، يبدو أن ما حصل في ثورينجيا لن يتكرر... على الأقل في الفترة القليلة المقبلة؛ إذ إن رد الفعل الذي تبع التحالف بين الديمقراطيين المسيحيين و«البديل لألمانيا» كان مزلزلاً، ومن كل الأحزاب. ولكن التحدي الآن هو انتخاب زعيم جديد، والإبقاء على الحكومة قائمة في الوقت نفسه؛ إذ إن الاشتراكيين أعلنوا بوضوح أنهم دخلوا الحكومة مع ميركل، وسيغادرونها مع ميركل. وهذا ما يعني أن أي إصرار من الزعيم المنتخب على تولي منصب المستشارية في الوقت نفسه وعلى الفور، سيؤدي إلى إسقاط الحكومة والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة، عوضاً عن الانتخابات المجدوَلة في أكتوبر (تشرين الأول) 2021. وفي حال حصل ذلك، ستُجبر ميركل العازمة على إكمال ولايتها حتى نهايتها، على التقاعد المبكر.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.