الإسكندرية تريد التخلص من مخالفات محت كوزموبوليتها

ارتبط اسم مدينة الإسكندرية المصرية، التي تُطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بجمال الطرز المعمارية والحدائق والمباني الأثرية التي تضمها، وتنتمي إلى حقب تاريخية وحضارات وثقافات مختلفة، جعلت منها واحدة من أبرز وأجمل المدن المصرية، لكنها خلال العقدين الأخيرين عانت من التشوه العمراني، ومخالفات البناء، ولم تستطع الحكومات المتتالية وضع حد لانتشار البناء المخالف في المدينة المميزة، ورغم سَن قوانين تحظر البناء المخالف، وتمنع هدم المباني والفيلات التراثية، فإن كثيرين استغلوا ثغرات موجودة في هذه القوانين لتحقيق أهدافهم المادية، مما أدى إلى تشويه المدينة ومحو هويتها الكوزموبوليتانية، حسب الخبراء ومواطني المحافظة.
قبيل انتهاء القرن الماضي بشهور قليلة، حاول عدد من المهتمين بتراث الإسكندرية، إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر مبادرات فردية، كان من بينهم الدكتور محمد عوض، أستاذ العمارة في جامعة الإسكندرية ورئيس لجنة الحفاظ على تراث المدينة بالمحافظة سابقاً، والذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «جهود الحفاظ على تراث المدينة الساحلية عروس المتوسط بدأ بمبادرة شخصية منه لحصر المباني التراثية عام 1999 تم اعتمادها من مجلس الوزراء في حينها، وكانت أول محاولة من نوعها في محافظات مصر»، مشيراً إلى أنه «في عام 2007 أصدر مجلس الوزراء المصري في ذلك الوقت قراراً بتعميم التجربة وتشكيل لجان لحصر المباني التراثية في المحافظات المختلفة، وعلى ضوء القرار تم حصر المباني التراثية في الإسكندرية وتسجيل 1150 مبنى تراثياً، وتقسيم المدينة إلى مناطق تراثية وشوارع ذات طابع خاص، من بينها وسط البلد والحي التركي، ووابور المياه، والشاطبي، ومنطقة الرمل، وشُكلت لجنة لفحص طلبات التعديل والترميم الخاصة بهذه المباني».
لكن هذا الحصر لم يكن كافياً لحماية المباني التراثية، فوفقاً لعوض «استغل ملاك بعض المباني التضارب بين قانون حماية المباني التراثية ولائحته التنفيذية في الحصول على أحكام قضائية تقضي بخروج المبنى من قائمة المباني التراثية وتسمح بهدمه».
وعلى مدار السنوات الماضية أثير أكثر من قضية متعلقة بهدم مبانٍ تراثية في الإسكندرية كان أشهرها هدم فيلا جوستاف أجيون بمنطقة وابور المياه بالإسكندرية، عام 2016 والتي يعود تاريخها إلى عام 1922، ولم تنجح محاولات السكندريين والمهتمين بتراث المدينة في منع هدم مبنى راقودة مسقط رأس المخرج يوسف شاهين، والتي صدر قرار بهدمه عام 2017، وأصدرت محكمة القضاء الإداري نهاية الشهر الماضي قراراً بإخراج محكمة الإسكندرية الشرعية من قائمة المباني التراثية في الإسكندرية.
الفنان فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإسكندرية أكثر مدينة تعرضت للتشويه، الذي قضى على ملامحها الكوزموبوليتانية الجميلة، والتي كانت تضاهي في جمالها العاصمة الفرنسية باريس»، مشيراً إلى أن «المدينة كانت مليئة بالفيلات والحدائق الجميلة، والتي تعرضت للهدم وبُنيت مكانها أبراج سكنية ومبانٍ قبيحة».
وقال عوض إن «الإسكندرية لا تنفرد بظاهرة هدم المباني التراثية، فهذه الظاهرة موجودة في كل مصر، وهي نتاج للزيادة الكبيرة في السكان»، مشيراً إلى أن «المشكلة زادت في الإسكندرية بسبب عدم وجود امتداد عمراني للمدينة، على عكس مدينة القاهرة التي كان لها امتداد في مدن جديدة مثل الشيخ زايد والقاهرة الجديدة»، موضحاً أن «الإسكندرية شهدت موجة من التوسع الرأسي ببناء أبراج بالمخالفة للقانون، لتتحول منطقة الرمل التي كانت مليئة بالفيلات والحدائق، إلى منطقة أبراج سكنية مشوهة».
ومع حالة الانفلات الأمني التي شهدتها مصر عقب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، تزايدت موجة البناء المخالف في الضواحي الشرقية والجنوبية والغربية للمدينة، وتم بناء مئات العقارات المكونة من 12 طابقاً في شوارع لا تزيد مساحتها على 6 أمتار، ولأن أصحابها كانوا يبنونها بسرعة لافتة بمواد كيميائية تسهم في سرعة جفاف المواد الإسمنتية، تعرض عدد كبير من هذه العقارات للانهيار.
وتعود الطرز المعمارية بالمدينة إلى أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، حيث دُمرت المدينة في 11 يوليو (تموز) عام 1882 بعد القصف البريطاني، وأُعيد بناؤها بطرز أوروبية مستحدثة منتقاة، تمزج بين عمارة الباروك وعمارك عصر النهضة، وفي أوائل القرن العشرين ظهرت طرز زخرفية تعرف باسم الأورنوفو، ثم الأرديكو بين الحربين العالمية الأولى والثانية، ومعها ظهرت الطرز الحديثة Early modern style، وكان أول مبنى بهذا الطراز هو المدارس الإيطالية عام 1931، وفق عوض الذي أشار إلى أنه «في عام 1958 تم وضع أول مخطط مصري للمدينة بعيداً عن الأجانب».
وحسب عوض، فإن المدينة بدأت في فقد هويتها وملامحها تدريجياً عقب حرب عام 1967، خصوصاً مع دخول الآيديولوجية الاشتراكية إلى عمارة الدولة عبر مباني الإسكان الشعبي، وظهور العشوائيات. وأضاف: «ثلثا المدينة يغلب عليها الطابع العشوائي المخالف للقوانين».
محمد علي، الخبير والمثمن العقاري السكندري، يؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن «المحافظة تسعى بكل الطرق لوقف البناء المخالف، وتنفيذ قرارات الإزالة لهذه الأبنية، لكن المشكلة تكمن في أن عدد العقارات المخالفة كبير جداً، فهناك نحو 40 ألف وحدة سكنية مخالفة، ولو صدرت قرارات إزالة لها من الصعب إيجاد مقاول لتنفيذها جميعاً في وقت واحد، وبالتالي يستمر البناء ويسكن العقار قبل أن يصيبه الدور في تنفيذ قرار الإزالة».
بدوره، توّعد اللواء محمد الشريف، محافظ الإسكندرية، أصحاب العقارات المخالفة مجدداً، وقال إنه «لن يسمح بوجود تلك المخالفات ما بقي في منصبه»، وأشار إلى أن «هذه المخالفات تمثل خطورة وضغطاً كبيراً على البنية التحتية وشبكة المرافق بالمحافظة، ما يهدد بكارثة حقيقية».
وطلب الشريف من رؤساء الأحياء محاربة مخالفات البناء كافة في المهد، وعدم السماح بأي مخالفات جديدة، وتكثيف الحملات اليومية بنطاق المحافظة، وإزالة المخالفة في الحال، ومصادرة معدات البناء.
ولمواجهة مخالفات البناء أصدرت الحكومة المصرية قانون التصالح مع مخالفات البناء رقم 17 لسنة 2019، وتواصل أحياء الإسكندرية تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء بموجب القانون، لكن تنفيذ القانون يواجه مجموعة من التحديات، ووفقاً لتقديرات محافظة الإسكندرية فإن هناك 112 ألف مخالفة بناء خلال السنوات الماضية لم تتعدّ نسب الإزالة فيها 5%. ويرى علي أن «اشتراط التصالح عن العقار كاملاً، دفعة واحدة، من أبرز مشكلات قانون التصالح في مخالفات البناء».
وفي محاولة لإحياء المدينة الساحلية وضعت هيئة الحكومة المصرية مخططاً لتطوير بعض المناطق في المدينة على رأسها منطقة المنتزه، وترعة المحمودية، وأصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي، القرار الجمهوري رقم 157 لسنة 2019 بتشكيل لجنة لتطوير منطقة المنتزه برئاسة المهندس شريف إسماعيل، مساعد الرئيس للمشروعات القومية والاستراتيجية، تضم وزير السياحة، ومستشار رئاسة الجمهورية للتخطيط العمراني، ورئيسي الجهاز التنفيذي للهيئة العامة للتنمية السياحية، ومجلس إدارة شركة المنتزه للسياحة والاستثمار، ووفقاً لمخطط التطوير الذي نشرته وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري على صفحتها على «فيسبوك» فإنه «سيتم إنشاء مرسى لليخوت، وكورنيش مفتوح، مع الاهتمام بالحدائق، وتحويل المنطقة إلى مزار سياحي عالمي».
وأكد علي «زيادة الإقبال على المناطق التي أعلنت الحكومة عن تطويرها، وعلى رأسها المنطقة المحيطة بقصر المنتزه، والمزمع تحويلها إلى منطقة سياحية عالمية»، وقال: «هناك إقبال كبير على شراء الوحدات السكنية في هذه المنطقة، أدى إلى رفع أسعارها بنسبة 30% إلى 40% سنوياً بدلاً من 15% قبل بدء مشروع التطوير»، موضحاً أن «الوحدة التي كان ثمنها 700 ألف جنيه أصبحت تباع اليوم بمليون و100 ألف جنيه، والوحدات ذات الواجهة الأمامية أصبحت تباع بمبلغ يتراوح ما بين مليونين و300 ألف و3 ملايين جنيه، بدلاً من مليون ونصف قبل بدء مشروع التطوير».
منطقة أخرى تشهد إقبالاً وارتفاعاً في الأسعار هي منطقة ترعة المحمودية التي تنفذ فيها الحكومة الآن مشروعاً للتطوير، تم خلاله ردم الترعة، والتخطيط لإنشاء تجمعات سكنية وصناعية وطريق جديد.
وقال علي إن «منطقة ترعة المحمودية التي كان الناس يخشون السكن فيها، لاقترابها من العشوائيات، تشهد اليوم إقبالاً متزايداً وزيادة في أسعار الوحدات السكنية لتصل إلى مليون و900 ألف جنيه (الدولار الأميركي يعادل 15.7 جنيه مصري)».
وتضم منطقة المنتزه مجموعة من الحدائق التي تحيط بقصر المنتزه (الحرملك)، وقصر السلاملك، وهما من القصور الملكية التي أقامها الخديو عباس حلمي الثاني، قبل أكثر من 100 عام، وتقع على مساحة 375 فداناً، تطل على شاطئ البحر المتوسط، وبها مجموعة من المعالم الأثرية مثل كشط الشاي وبرج الساعة، وكانت تضم مجموعة من الكبائن والشاليهات المملوكة لمجموعة من رموز النظام السابق وعدد من رجال الأعمال، تم نزع ملكيتها وهدمها لصالح مشروع التطوير، كما تم هدم المطاعم والكافيتريات المطلة على البحر في المنطقة.