ضغوط الأزمات تطرح تكهنات حول تغييرات قريبة في فريق أوباما الرئاسي

مسؤولو البيت الأبيض يتندرون على كيري بأنه مثل ساندرا بولوك في فيلم «الجاذبية».. والجنرال ألن يثير حفيظة ديمبسي

ضغوط الأزمات تطرح تكهنات حول تغييرات قريبة في فريق أوباما الرئاسي
TT

ضغوط الأزمات تطرح تكهنات حول تغييرات قريبة في فريق أوباما الرئاسي

ضغوط الأزمات تطرح تكهنات حول تغييرات قريبة في فريق أوباما الرئاسي

في أحد أيام هذا الشهر، ومع الخوف الذي مزق الأمة إثر تفشي وباء الإيبولا والطائرات العسكرية الأميركية التي تدك معاقل المتشددين في سوريا، دعت السيدة سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي في إدارة الرئيس باراك أوباما، مجموعة من خبراء السياسة الخارجية إلى غرفة العمليات في البيت الأبيض للاستماع إلى آرائهم حول تقييم أداء الإدارة الأميركية.
وتلقت رايس وابلا من الانتقادات حول سياسة الرئيس إزاء سوريا والصين، فضلا عن مماطلات البيت الأبيض المتكررة في إصدار استراتيجية الأمن القومي الأميركية، وهي وثيقة لازمة الإصدار بموجب الكونغرس الأميركي وتحدد أهداف السياسة الخارجية الأميركية. ولقد جاء رد السيدة رايس على تلك النقطة الأخيرة متسما بالكثير من السخرية، حيث قالت، وفقا لاثنين من الشخصيات التي حضرت الاجتماع «إذا ما أصدرنا الوثيقة في شهر فبراير (شباط) أو أبريل (نيسان) أو يوليو (تموز)، لكانت داهمتنا الأحداث التي وقعت خلال أسبوعين من إصدارها، في أي من تلك الشهور».
وفي الوقت الذي تترنح فيه إدارة الرئيس أوباما من أزمة لأخرى – من شبح الحرب الباردة الذي بات يطل برأسه في أوروبا، وتنظيم الخلافة الوحشي في منطقة الشرق الأوسط (داعش)، والوباء الفتاك في غرب أفريقيا – فليس من قبيل المفاجأة أن يتأخر إصدار الاستراتيجية بعيدة المدى المذكورة. لكنها تثير تساؤلات حتمية الطرح حول قدرات الرئيس وفريق الأمن القومي خاصته، الواقع تحت ضغوط هائلة، في إدارة تلك الأزمات ومحاولة استباق التطورات اليومية للأحداث بصورة ما.
وغذت العثرات المبكرة التي وقعت فيها الحكومة الأميركية في تعاملها مع أزمة وباء الإيبولا، فضلا عن استجابتها المتأخرة تجاه تنظيم داعش المتطرف، الكثير من الشكوك حول احتمال قيام الرئيس الأميركي بتعديلات داخل فريقه الرئاسي الذي يضم مجموعة من الموالين للبيت الأبيض وأعضاء في مجلس الوزراء من ذوي الخبرات العميقة والمنهكين سياسيا كذلك، مثل جون كيري وزير الخارجية، ووزير الدفاع تشاك هيغل، واللذين يُنظر إليهما من زاوية أقل تماسكا من «فريق المنافسين» في أول مجلس رئاسي يشكله أوباما.
يقول السيناتور ريتشارد بلومنتال، وهو نائب ديمقراطي عن ولاية كونيتيكت وعضو في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ «تلك نقطة انعطاف تجدها في كل فترة رئاسية، وإنها نقطة منطقية بكل تأكيد، إذا ما شعر الرئيس بأنه من الأفضل أن يجري بعض التعديلات في فريقه الرئاسي». وفي حين أن بلومنتال يقول إن الإدارة الحالية قد صمدت بصورة جيدة في وجه الظروف الراهنة، فإن معيار ومدى تعقد المشاكل، على نحو ما أضاف «سوف يضفي المزيد من الأضرار، ويبعث الكثير من الخسائر الشخصية والمهنية بين أي مجموعة كانت».
هناك قدر طفيف من الأدلة حول عزم الرئيس الأميركي إجراء تعديلات شاملة في فريقه الرئاسي. لكنه أدخل دماء جديدة بالفعل في ذلك الفريق، تتمثل في رون كلين، كبير الموظفين السابق لدى جوزيف بايدن نائب الرئيس، من أجل إدارة جهود الاستجابة إلى وباء الإيبولا، وكذلك الجنرال جون آر ألن، وهو القائد السابق للقوات الأميركية في أفغانستان، من أجل قيادة قوات التحالف ضد تنظيم داعش.
يعتمد الرئيس أوباما أكثر من ذي قبل على دائرته الخاصة من مساعدي البيت الأبيض، والذين عملوا على صياغة علاقاتهم معه خلال حملة عام 2008 الرئاسية والتحرك بحرية أكبر داخل الإدارة من دون وجود أصوات لها ثقلها مثل روبرت إم غيتس وزير الدفاع الأسبق، أو هيلاري رودهام كلينتون وزيرة الخارجية السابقة.
وطار السيد دينيس آر ماكدونو، كبير موظفي البيت الأبيض، خلال إجازة عيد كولومبس في نهاية الأسبوع، إلى مدينة سان فرانسيسكو، وهي موطن النائبة الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا ديان فينستاين، رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، للتفاوض معها بصفة شخصية حول صياغات منقحة لتقرير مجلس الشيوخ حول سياسات الاعتقال والاستجواب لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لعام 2001.
وحيّر اضطلاع ماكدونو بمثل تلك المسألة الغامضة بعضا من المشرعين في الكابيتول هيل، بالنظر إلى مطالب أخرى رُفعت في وقتها. لكن ذلك الموقف يؤكد على ميل أوباما إلى إحالة المسائل الحساسة للغاية إلى أكثر المستشارين ثقة لديه. في حين يحاول كيري وهيغل اختراق دائرة التماسك المحكمة حول السيد الرئيس وتأمين مكان ما داخل الحلقة الضيقة في الإدارة الأميركية.
ويتمتع كيري بحضور قوي وعزيمة صلبة في ما يخص المناقشات الداخلية، على حد وصف المسؤولين، ويعود الفضل إليه في تشكيل تحالف الدول العربية التي نفذت الغارات الجوية في سماء سوريا. لكنه غالبا ما يبدو في حالة أبعد ما تكون عن التزامن مع البيت الأبيض في ما يتعلق بتصريحاته العامة. ويتندر مسؤولو البيت الأبيض على كيري بأنه يشبه رائد الفضاء الذي لعبت دوره الممثلة الأميركية ساندرا بولوك في الفيلم الأميركي «الجاذبية»، حيث يتقلب في فضاء فسيح من دون أدنى ارتباط بالبيت الأبيض.
وفي مقابلات منفصلة، رفض ماكدونو ورايس تلك الصورة للسيد كيري، حيث قالا إنه يشارك في الكثير من الاجتماعات ويشارك بقوة في العملية السياسية. ويقول المساعدون إن كيري كتب مذكرة مطولة حول تنظيم داعش صارت هي الأساس المتبع في محاربة ذلك التنظيم.
لدى هيغل مشكلة مختلفة. فلقد كان نائبا سابقا يحظى بالاحترام، مثل كيري تماما، غير أن كلماته قليلة للغاية أثناء الاجتماعات السياسية وقد تخلى، بصورة كبيرة، عن مكانه إلى مارتن إيه ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة، والذي يصفه المسؤولون بأنه قد حاز ثقة أوباما إثر توصيات أشار بها إزاء الإجراءات العسكرية المتخذة ضد تنظيم داعش.
ويعزو المدافعون عن هيغل تحفظه أثناء الاجتماعات السياسية إلى خشيته من تسرب التفاصيل الحساسة إلى وسائل الإعلام، ويقولون إنه أكثر حضورا وكلاما في الجلسات الفردية التي تجمعه بالرئيس. كما يصرون على أنه أكثر حزما حيال الأمور السياسية أكثر مما توحي به شخصيته، مشيرين إلى مذكرة نقدية من صفحتين كان قد أرسلها إلى رايس خلال الأسبوع الماضي، حذرها فيها من المخاطر التي تشوب سياسة الإدارة الأميركية حيال سوريا، وأنها على حافة الانهيار في المستقبل القريب نظرا للإخفاق في توضيح نوايا الإدارة في ما يخص الرئيس السوري بشار الأسد. وأكد كل من ماكدونو ورايس أن هناك حالة من الارتياح لدى الرئيس حيال الوزراء. وقال ماكدونو «إن اتخاذ القرار السياسي لا يقتضي إلا خطوة واحدة. لكنك في حاجة إلى المساعدين من أجل التنفيذ».
ولقد قرر الرئيس أوباما أنه يحتاج أيضا إلى تعزيزات في فريقه الرئاسي على غرار ضم كلين والسيد ألن. ويُنظر إلى كلين، على نحو ما أفاد مساعدوه، بأنه الشخصية البديلة المتوقعة لجون بوديستا، مستشار الرئيس، أو حتى ليحل محل ماكدونو ذاته، إذا ما تخير الأخير أن يغادر موقعه في الفريق الرئاسي.
غير أن أولئك الدخلاء، الذين يشار إليهم أحيانا بالقياصرة، يمكنهم إحداث قدر من المشاكل، حيث أثار تعيين الجنرال ألن كمبعوث خاص للتحالف المناوئ لتنظيم داعش استعداء ديمبسي، وفقا لما صرح به العديد من المسؤولين، إثر القلق الذي ساوره من أن الجنرال المتقاعد سوف ينتهج مسارا يبتعد به عن حظيرة البنتاغون.
وليس هناك شخص في فريق أوباما يحتل مكانة ذلك «قيصر» في الحقيقة، على الرغم من أن ماكدونو كان الأقرب لذلك. كان منغمسا في السياسات الداخلية والشؤون السياسية، لكنه أدى دورا نشيطا في هذا المجال تفوق فيه على رئيسي موظفي البيت الأبيض السابقين. فعلى سبيل المثال، قبل أن يتولى دراسة تقرير وكالة الاستخبارات المركزية، سافر إلى برلين لمعالجة الصدع الذي طرأ مع ألمانيا بشأن تنصت وكالة الأمن القومي على الهاتف الجوال للمستشارة أنجيلا ميركل.
وصرح عدد من المسؤولين بأن حقيبة ملفات ماكدونو الواسعة كانت تشكل تحديا خاصة لرايس، مبعوثة الأمم المتحدة السابق التي تربطها بالرئيس علاقات وثيقة. وعملت رايس على تنسيق النقاش حول كيفية التعامل مع تقرير «سي آي إيه» وتداعيات برنامج التجسس الذي تقوم به وكالة الأمن القومي، على الرغم من أنها شاركت في تصعيد التوترات من خلال تبادل قاس للتصريحات مع نظيرها الألماني. وقالت «أعتقد أنني قد أكون مندفعة ومؤمنة بالتخصص في هذا الدور. لكن رأيي في ذلك أنها ميزة أن يكون لدي شريك بالجوار». وصرح ماكدونو بأنه يرى دوره مساعدا لرايس، وأنه لم يفرض ذاته في العمل الأساسي لفريقها المكلف بتطوير السياسات. ووصف رايس بأنها صديقة، وقال «يوجد لدى الرئيس مستشار للأمن القومي مناسب تماما كما يريد».
وشعر بعض الليبراليين بخيبة أمل كبيرة في تباطؤ أوباما في التصديق على تقرير مجلس الشيوخ، وشككوا في دور ماكدونو في مراجعته، مشيرين إلى علاقاته الوثيقة مع مدير «سي آي إيه» جون بيرنان. وقال ماكدونو إنه سافر إلى منزل فينستاين لأنه يرى دور الكونغرس في السياسة الخارجية مقدسا. وأوضح «إنها دراسة حالة مهمة لدور الكونغرس في السياسة الخارجية، وأنا أريد أن أقوم بها كما ينبغي».
وبغض النظر عن المسائل التشريعية، صرح مسؤولون بأن ماكدونو ورايس كانا منحازين عامة في السياسات. لكنهما كانا متشككين بشأن الذهاب إلى الحرب الأهلية في سوريا وتقديم السلاح إلى القوات الأوكرانية لصد المتمردين المدعومين من روسيا. وقال أحد المسؤولين إن حذرهما يميل إلى تعزيز ميول أوباما ذاته.
ربما يكون ذلك أحد العوامل التي يرجع إليها بطء الرد الأميركي على تهديد تنظيم داعش. وقال ماكدونو إنه تمنى لو كانت الإدارة تصرفت في فترة أقصر، واعترف بأنها أساءت تقدير قوة الجيش العراقي. كذلك توجد عيوب أخرى تشوب نهج البيت الأبيض المركزي في الإدارة.
وقال ديفيد روثكبوف، مسؤول إدارة كلينتون الذي كتب كثيرا عن مجلس الأمن القومي، إن العلاقة السيئة مع الحكومة الإسرائيلية – والتي تمثلت في إساءة وجهت أخيرا إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على لسان مسؤول أميركي رفيع لم يذكر اسمه – تشير إلى مخاطر إفراط مجلس الأمن القومي في الانشغال بالعمل الدبلوماسي.
وقال دينيس بلير، الذي عمل مديرا للاستخبارات الوطنية حتى عام 2012 «يشعر جميع العاملين في مجلس الأمن القومي برغبة في التدخل في المسائل العملية، ولكن هذا يقوض المسؤولين المكلفين، ويمنع البيت الأبيض من التركيز على ما يجب التركيز عليه، وهو القضايا الاستراتيجية الأكبر».
ويواجه أوباما أيضا لعنة أخرى تصيب الرؤساء في فترتهم الثانية: وهي رحيل العاملين ذوي المواهب. فقد تقاعد ويليام بيرنز، نائب وزير الخارجية، وهو لاعب أساسي في الجهود الدبلوماسية المبذولة مع إيران، في الأسبوع الماضي. ويستعد أنتوني بلينكن، نائب رايس، وصاحب الرأي المؤثر في قضية أوكرانيا، ليحل محله، ولكن لم يقرر البيت الأبيض من الذي سيتولى مهامه بعد ذلك.
وبالطبع في النهاية، تعكس أزمة الإدارة القائمة في الحكومة الأميركية ما يعاني منه الرئيس. وصرح عدد من المسؤولين بأن أوباما عاد من عطلته الصيفية في مارثا فينيارد محبطا بسبب ما بدا من أن البيت الأبيض يتخذ موقفا رخوا في مواجهة الأحداث، وأوصى العاملين معه بتصعيد الرد إلى مستوى أعلى. ولكنه ظل يجري مداولات ويسير وفق منهجية ولا يتأثر بالانتقادات الخارجية. وقال المسؤولون إن حالة الغضب التي انتابته أثناء أحد الاجتماعات التي عقدت لدراسة مشكلة إيبولا منذ أسبوعين كانت الاستثناء وليست قاعدة.
* خدمة «نيويورك تايمز»



رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية
TT

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

هل عادت رياح اليسار تهب من جديد على أميركا اللاتينية بعد موجة الانتصارات الأخيرة التي حصدتها القوى والأحزاب التقدمية في الانتخابات العامة والرئاسية؟
من المكسيك إلى الأرجنتين، ومن تشيلي إلى هندوراس والبيرو، ومؤخراً كولومبيا، خمسة من أقوى الاقتصادات في أميركا اللاتينية أصبحت بيد هذه الأحزاب، فيما تتجه كل الأنظار إلى البرازيل حيث ترجح الاستطلاعات الأولى فوز الرئيس الأسبق لولا دي سيلفا في انتخابات الرئاسة المقبلة، وإقفال الدائرة اليسارية في هذه المنطقة التي تتعاقب عليها منذ عقود شتى أنظمة الاستبداد العسكري والمدني، التي شهدت أبشع الديكتاتوريات اليسارية واليمينية.
بعض هذه الدول عاد إلى حكم اليسار، مثل الأرجنتين وهندوراس وبوليفيا، بعد أن جنح إلى الاعتدال، ودول أخرى لم تكن تتصور أنها ستقع يوماً في قبضة القوى التقدمية، مثل تشيلي وكولومبيا، فيما دول مثل المكسيك وبيرو ترفع لواء اليسار لكن اقتصادها يحتكم إلى أرسخ القواعد الليبرالية.
هذه الموجة تعيد إلى الأذهان تلك التي شهدتها المنطقة مطلع هذا القرن مع صعود هوغو تشافيز في فنزويلا، وتحت الظل الأبدي الوارف لفيديل كاسترو، فيما أطلق عليه يومها «اشتراكية القرن الحادي والعشرين». ومن المفارقة أن الدوافع التي كانت وراء ظهور هذه الموجة، نجدها غالباً في تمايزها عن تلك الموجة السابقة التي كان لارتفاع أسعار المواد الأولية والصادرات النفطية الدور الأساسي في صمودها. فيما محرك التغيير اليوم يتغذى من تدهور الوضع الاجتماعي الذي فجر احتجاجات عام 2019 وتفاقم مع ظهور جائحة «كوفيد». يضاف إلى ذلك أن تطرف القوى اليمينية، كما حصل في الأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبيرو، أضفى على الأحزاب اليسارية هالة من الاعتدال ساعدت على استقطاب قوى الوسط وتطمين المراكز الاقتصادية.
ومن أوجه التباين الأخرى بين الموجتين، أنه لم يعد أي من زعماء الموجة الأولى تقريباً على قيد الحياة، وأن القيادات الجديدة تتميز ببراغماتية ساعدت على توسيع دائرة التحالفات الانتخابية نحو قوى الوسط والاعتدال كما حصل مؤخراً في تشيلي وكولومبيا.
حتى لولا في البرازيل بحث عن حليفه الانتخابي في وسط المشهد السياسي واختار كمرشح لمنصب نائب الرئيس جيرالدو آلكمين، أحد زعماء اليمين المعتدل، الذي سبق أن هزمه في انتخابات عام 2006.
ولى زمن زعماء اليسار التاريخيين مثل الأخوين كاسترو في كوبا، وتشافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، الذين اعتنقوا أصفى المبادئ الاشتراكية وحاولوا تطويعها مع مقتضيات الظروف المحلية، وجاء عهد قيادات جديدة تحرص على احترام الإطار الدستوري للأنظمة الديمقراطية، وتمتنع عن تجديد الولاية، وتلتزم الدفاع عن حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة.
لكن مع ذلك لا يستقيم الحديث عن كيان واحد مشترك تنضوي تحته كل القوى التقدمية الحاكمة حالياً في أميركا اللاتينية، إذ إن أوجه التباين بين طروحاتها الاقتصادية والاجتماعية تزيد عن القواسم المشتركة بينها، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول طبيعة العلاقات التي ستقيمها هذه القوى التقدمية مع محيطها، وأيضاً مع بقية دول العالم.
وتشير الدلائل الأولى إلى ظهور توتر يتنامى بين رؤية القوى التقدمية الواقعية والمتعددة الأطراف للعلاقات الدولية، والمنظور الجيوستراتيجي للمحور البوليفاري. ومن المرجح أن يشتد في حال فوز لولا في البرازيل، نظراً لتمايز نهجه الدبلوماسي عن خط كوبا وفنزويلا، في الحكم كما في المعارضة.
ويلاحظ أن جميع القوى اليسارية الحاكمة اليوم في أميركا اللاتينية، وخلافاً لتلك التي حكمت خلال الموجة السابقة، تعتمد أسلوباً دفاعياً يهدف إلى صون، أو إحداث، تغييرات معتدلة من موقع السلطة وليس من خلال التعبئة الاجتماعية التي كانت أسلوب الأنظمة اليسارية السابقة، أو البوليفارية التي ما زالت إلى اليوم في الحكم. ولا شك في أن من الأسباب الرئيسية التي تدفع إلى اعتماد هذا الأسلوب الدفاعي، أن القوى اليسارية والتقدمية الحاكمة غير قادرة على ممارسة الهيمنة السياسية والآيديولوجية في بلدانها، وهي تواجه صعوبات كبيرة في تنفيذ برامج تغييرية، أو حتى في الحفاظ على تماسكها الداخلي.
ويتبدى من التحركات والمواقف الأولى التي اتخذتها هذه الحكومات من بعض الأزمات والملفات الإقليمية الشائكة، أن العلاقات مع كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا ستكون مصدراً دائماً للتوتر. ومن الأمثلة على ذلك أن الرئيس الكولومبي الجديد غوستافو بيترو، ونظيره التشيلي، اللذين كانا لأشهر قليلة خلت يؤيدان النظام الفنزويلي، اضطرا مؤخراً لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها نظام نيكولاس مادورو، علماً بأن ملايين الفنزويليين لجأوا في السنوات الأخيرة إلى كولومبيا وتشيلي.
وفي انتظار نتائج الانتخابات البرازيلية المقبلة، وبعد تراجع أسهم المكسيكي مانويل لوبيز لوبرادور والتشيلي بوريتش لقيادة الجبهة التقدمية الجديدة في أميركا اللاتينية، برزت مؤخراً صورة الرئيس الكولومبي المنتخب الذي يتولى مهامه الأحد المقبل، والذي كان وضع برنامجه الانتخابي حول محاور رئيسية ثلاثة تمهد لهذا الدور، وهي: الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية وتغير المناخ، والدور المركزي لمنطقة الكاريبي والسكان المتحدرين من أصول أفريقية، والميثاق الإقليمي الجديد الذي لا يقوم على التسليم بريادة الولايات المتحدة في المنطقة لكن يعترف بدورها الأساسي فيها.