ما آثار كورونا على قطاع التكنولوجيا في الصين والعالم؟

رجل يسير في الحي المالي بشنغهاي (رويترز)
رجل يسير في الحي المالي بشنغهاي (رويترز)
TT

ما آثار كورونا على قطاع التكنولوجيا في الصين والعالم؟

رجل يسير في الحي المالي بشنغهاي (رويترز)
رجل يسير في الحي المالي بشنغهاي (رويترز)

لا شك أن فيروس «كورونا» الجديد كان له العديد من الضحايا في الصين والعالم. ومع اقتراب انتهاء عطلة السنة الجديدة، فإن بكين باتت تستعد لتقييم حجم الضرر الاقتصادي الذي أحدثه تفشي هذا الفيروس، سيما وأن الصين تعد أحد أهم الدول فيما يتعلق بقطاع الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات في العالم.
وتعتبر الصين جزءاً لا غنى عنه في قطاع التكنولوجيا في العالم، لكن الفيروس الجديد لديه القدرة على التأثير بشكل خطير على سلاسل الإمداد الصينية وعلى العملية برمتها، رغم أن مدينة ووهان وهي مركز انتشار الفيروس، لا تعد بالأهمية نفسها التي تتمتع بها المدن الصينية الأخرى، ما يعني أن السلطات يمكن أن تقلل من تأثير الفيروس على بعض أنواع المنتجات في هذه الصناعة، ذلك في حال تمكنت من احتواء النطاق الجغرافي لانتشاره. كما أنه إذا حدث تراجع لحجم انتشار الفيروس، على سبيل المثال، فإن الغالبية العظمى من عمليات قطاع التكنولوجيا، خاصة في المدن داخل مقاطعة غيانغسو، وشانغهاي، قد تعاني من آثار محدودة فقط. وهذا ما ذكره تقرير موسع لمركز «ستراتفور» الاستخباراتي.
تأثير محدود حالياً
يعتمد مدى تأثير الفيروس على مدى انتشاره خارج موقعه الحالي، فمقاطعة هوبي وعاصمتها ووهان، لا تعد مكاناً هاماً للغالبية العظمى من العاملين في قطاع الإلكترونيات في الصين. لكن المقاطعات المجاورة، بما في ذلك شنشي، وخنان، وغيانغشي، تعتبر جميعها بمثابة أماكن بارزة في قطاع التكنولوجيا العالمية. والمقاطعات التي تحتل المرتبة الثانية والثالثة من حيث عدد الحالات المصابة بالفيروس المؤكدة فيها حتى الآن، وهما تشغيانغ وغوانغدونغ، يمكن القول إنهما أكثر المناطق أهمية بالنسبة للتكنولوجيا، ولكن في الوقت الحالي، يعد خطر الإصابة بفيروس «كورونا» الجديد في مثل هذه المقاطعات محدوداً إلى حد ما، ولكن كل هذا يعتمد على نجاح الاستراتيجية الصينية لاحتواء الفيروس في ووهان، وذلك لأنه إذا استمر تفشي المرض، فسيكون له تأثير هائل على قطاع التكنولوجيا في الصين، مما سيؤدي إلى نقص كبير في الإمدادات.
ويفيد المركز في تقريره، أنه إذا ظل أكبر عدد من المصابين بالفيروس متمركزاً في مقاطعة هوبي فقط، فمن المحتمل أن يظل تأثيره على سلاسل التوريد للصينيين، وبالتالي قطاع التكنولوجيا العالمي، محدوداً نسبياً. إذ إنه في 2017، أنتجت هذه المقاطعة أقل من 1 في المائة فقط من إجمالي إنتاج الدوائر الإلكترونية المتكاملة في الصين، و1 في المائة فقط من إجمالي إنتاج التلفزيونات في البلاد. وفي العام التالي، كان إنتاج المقاطعة 2.4 في المائة فقط من الهواتف المحمولة في البلاد، و3.6 في المائة من إنتاج الحواسيب الصغيرة. وهما سلعتان لا تعتبر حصة الصين من المشاركة في الإنتاج العالمي مرتفعة فيهما، ومما لا شك فيه، سيكون هناك سلاسل إمداد فردية ستفتقر إلى المكونات اللازمة للإنتاج نتيجة لفرض العزل في هوبي، وسيتمكن كبار المنتجين لسلع مثل الدوائر الإلكترونية وأجهزة التلفزيون والهواتف المحمولة وأجهزة الحواسيب الصغيرة مع مرور الوقت من العثور على موردين آخرين خارج المقاطعة إذا لزم الأمر.
وبينما تقع ووهان على هامش صناعة أشباه الموصلات في الصين وقطاع التكنولوجيا الأوسع، فإن إغلاق المصانع بشكل مطول سيكون له 3 آثار مهمة: أولها، أن الصين قد قررت مؤخراً اعتبار ووهان موقعاً رئيسياً لتصنيع أشباه الموصلات المحلية، فهناك شركتان أساسيتان تعملان حالياً في المدينة في منطقة دونغو لتطوير التكنولوجيا الجديدة، وهما «شركة ووهان شينشين» لصناعة أشباه الموصلات، التي تمتلك مصنعا صغيرا لتصنيع المسابك التي يبلغ قطرها 300 ملم، والشركة الرئيسية الأخرى لأشباه الموصلات وهي «شركة يانغزي لتكنولوجيا الذاكرة» التي أسستها شركة «تسينغوا جروب المتحدة الصينية»، وتمتلكها الآن عدة صناديق استثمارية عامة أخرى، بما في ذلك الصندوق الوطني الاستثماري لصناعة الدوائر المتكاملة، والمعروف في الصين باسم «الصندوق الصيني الكبير»، وقد حصلت الثانية على حصة 100 في المائة من الشركة الأولى في 2016.
وتقوم الشركتان حالياً ببناء منشأتين كبيرتين جديدتين ستعززان الطاقة الإنتاجية الإجمالية لمقاطعة هوبي بحوالي 15 ضعفاً، مما يجعل ووهان في نهاية المطاف أحد أعمدة الصين طويلة الأجل لتحقيق قدر أكبر من الاعتماد على الذات، والبروز العالمي في قطاع أشباه الموصلات، خاصة في قطاع الذاكرة في هذه الصناعة، فضلاً عن كونها مدينة رئيسية في مبادرة صنع في الصين 2025، فقبل تفشي الفيروس، كانت عملية بناء المنشآت تسير بشكل سريع، ولكن الآن سيتعين على الشركات إبطاء عملية البناء أو تأخيرها لعدة أشهر، إن لم يكن عاماً، ولكن بمجرد تشغيله بالكامل، سيكون مصنع شركة يانغزي لتكنولوجيا الذاكرة في ووهان هو أكبر مصنع لرقائق أشباه الموصلات في الصين، حيث إنه سيتم إنتاج 300 ألف رقاقة شهرياً، وذلك وفقاً لخطة التصنيع.
ومن خلال استثماراتهما في ووهان، فإن كلتا الشركتين تركزان بشكل كبير على تصنيع رقائق ذاكرة ناند ثلاثية الأبعاد، التي تعتبر أساسية في دفع الصين نحو الاعتماد على الذات في إنتاج الرقائق، وذلك لأنها مكون لا غنى عنه في الهواتف الذكية والأجهزة المحمولة الأخرى، فلا يوجد سوى عدد قليل فقط من الشركات التي تتخصص في تصنيع هذه الرقائق، مثل شركة سامسونغ في كوريا الجنوبية، وتوشيبا في اليابان، وإنتل وميكرون في الولايات المتحدة، وقد حاولت شركة تسنغوا الصينية شراء ميكرون الأميركية في 2015 قبل معارضة إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما للأمر، ولكن بعدما لم تتمكن من تنفيذ عملية الشراء فإنها قامت بتأسيس شركة يانغزي لتكنولوجيا الذاكرة.
أما التأثير الثاني، حسب «ستراتفور»، لإغلاق المصانع بشكل مطول فهو سيكون التأثير الحاد على صناعة الألياف البصرية في الصين وووهان، التي تستأثر بحوالي 20 في المائة من إجمالي إنتاج الصين في هذا القطاع، ووفقاً لمسؤولين في المدينة، فإن حصتها في السوق العالمية تبلغ 25 في المائة، وباعتبارها نقطة محورية لصناعة الألياف البصرية في الصين، فإن منطقة دونغو لتطوير التكنولوجيا الجديدة تطلق على نفسها «وادي السيليكون الصيني»، وذلك بفضل الشركات الكبرى مثل يانغتزي للتكنولوجيا البصرية في ووهان، التي تعد أكبر مورد في العالم للتشكيلات الأولية التي تستخدم في تصنيع الألياف البصرية، وكابلات الألياف البصرية، وتقنيات الألياف البصرية.
ورغم أنه قد يكون هناك بعض المخزونات العالمية التي يمكنها الصمود أمام التوقف المحدود، لمدة أسابيع على سبيل المثال، للطاقة الإنتاجية لقطاع الألياف البصرية في ووهان، فإن الإغلاق الذي يستمر لأكثر من بضعة أسابيع قد يضر بسلاسل التوريد في هذه الصناعة بشكل كبير.
وأخيراً، فإن ووهان مركز رائد للبحث والتطوير في قطاع التكنولوجيا في الصين، فعلى المستوى الجامعي، تقع فيها جامعة ووهان، التي تصنف باستمرار بين أفضل 5 جامعات في البلاد، وكذلك جامعة هواتشونغ للعلوم والتكنولوجيا، التي تعد دائماً من بين أفضل 10 جامعات بحثية في الصين، والتي تدير مختبر ووهان الوطني للإلكترونيات الضوئية، كما أن ووهان أيضاً تعد موقعاً لمراكز البحث والتطوير لشركات هون هاي المحدودة للصناعات الدقيقة، المعروفة باسم «فوكسكون»، ويونايتد إيمدجنغ، وتينسنت، وهواوي، وشاومي التي افتتحت مقرها الرئيسي الثاني في المدينة في ديسمبر (كانون الأول) 2019، لكن تفشي المرض سيؤدي لوقف مساعي البحث والتطوير، وقد يؤدي لتأخر البلاد، وذلك خاصة إذا ظلت ووهان تعاني من انخفاض طويل الأجل في عدد الزوار الأجانب بسبب سُمعتها المتضررة حتى بعد تقلص حجم انتشار الفيروس.
عواقب انتشار الفيروس
تذهب دراسة المركز الاستخباراتي إلى أن المقاطعات خارج مقاطعة هوبي لو استمرت في تعليق أنشطتها الصناعية، فإنه لن يكون مفاجئاً أن التداعيات على الصين ستكون أكثر بكثير، فالعديد من جيران هوبي مراكز مهمة للتكنولوجيا، كما أن المقاطعات الثلاث التي شهدت أكبر عدد إصابات بعد هوبي، وهي تشغيانغ، وغوانغدونغ، وخنان، تعد لاعباً بارزاً في هذا القطاع، وبالفعل، قام عدد من هذه المناطق بتأخير استئناف عمليات الإنتاج بعد انتهاء عطلة السنة القمرية الجديدة كإجراء احترازي، مما دفع تاريخ البدء في العمل من 29 يناير (كانون الثاني) الماضي إلى 9 فبراير (شباط) الجاري، وقد ذكرت شركة أبل، على سبيل المثال، أن هناك طلبات لـ45 مليون سماعة لاسلكية إير بود قد باتت في خطر بالفعل بسبب التدابير اللازمة لاحتواء الفيروس.
وتعد مدينة هانغتشو، عاصمة تشجيانغ، هي مقر شركة «علي بابا» وأحد المراكز الرئيسية لقطاع التكنولوجيا الشامل في الصين، وصحيح أن هذه المقاطعة لا تعد بالأهمية نفسها مع بعض جيرانها، مثل شنغهاي وغيانغسو، وذلك فيما يتعلق بالتصنيع، لكنها شديدة الأهمية للتطوير التكنولوجي لقطاع خدمات الإنترنت في الصين، كما أنها، وبكين، رائدتان في تطوير الذكاء الاصطناعي في البلاد.
وللاستجابة لتداعيات كورونا الجديد، قام مسؤولو هانغتشو بتقليل وتقييد السفر في العديد من المناطق، بما في ذلك المنطقة التي يوجد بها مركز «علي بابا»، وذلك على أمل الحد من توسع انتشار الفيروس، ويمكن لدوائر التكنولوجيا في قطاع الخدمات في الصين أن تخفف من تأثير فيروس كورونا من خلال مطالبة موظفيها بالعمل عن بعد، ولكن إذا عانت هانغتشو من انتشار للفيروس مماثل لما حدث في هوبي، فمن المحتمل أن يحدث ذلك أيضاً في أماكن مثل شنغهاي وغيانغسو، وذلك لأنه سيشير إلى فشل الجهود لوقف انتشار الفيروس.
ورغم ذلك، فإن أهم مقاطعة صينية للتكنولوجيا هي جوانغدونغ، وهي المنطقة التي تضم أكثر من 113 مليون شخص والمدن الكبرى مثل غوانغتشو وشنتشن وتشونغشان. وقال المركز: «في حال انتشر الفيروس إلى الدرجة التي تحتم على المسؤولين تبني إجراءات صارمة، سيؤدي الأمر لشلل عمليات تطوير وتصنيع وتصدير مكونات التكنولوجيا في جوانغدونغ، فهذه المقاطعة تقوم بتصنيع 50 في المائة من أجهزة التلفزيون في الصين، كما أنها تنتج 45 في المائة من الهواتف المحمولة، وأكثر من 15 في المائة من معدات أشباه الموصلات والحواسيب الصغيرة».
أما مقاطعة خنان، التي سجلت 851 حالة حتى 6 فبراير الجاري، فتقع على حدود هوبي مباشرة من الشمال، وعاصمتها تشنغتشو، وهي مهمة بشكل خاص لصناعة الهواتف الذكية وأجهزة الأيفون، حتى إن وجود أكبر خط لتجميع أجهزة أيفون في المقاطعة، والتابع لشركة «فوكسكون»، قد قاد البعض إلى تسمية العاصمة بـ«مدينة الأيفون». ورغم أن حصتهما من تصنيع الهواتف الذكية المحلية هو أصغر إلى حد ما، فإن تشنغتشو، ومقاطعة خنان، قد شحنتا ربع إجمالي صادرات الهواتف الذكية في الصين العام الماضي، أكثر من نصفها كان من عمليات التجميع في مصانع «فوكسكون». وفي 5 فبراير الجاري، أصدرت شركة «فوكسكون» أهدافاً جديدة لمبيعات 2020، حيث ستقوم بزيادة المعدل من 1 في المائة فقط إلى 3 في المائة هذا العام، ويعد هذا المعدل أقل من الهدف السابق الذي كانت قد أعلنت عنه قبل أسبوعين فقط في 22 يناير الماضي، والذي بلغ 3 - 5 في المائة. وفي إجراء إضافي للحد من انتشار الفيروس، تعهدت «فوكسكون» بإخضاع أي موظف يعود من عطلة رأس السنة القمرية الجديدة من أي مكان خارج مقاطعة خنان، وليس فقط من هوبي، إلى 14 يوماً من الحجر الصحي.
وعلى الأرجح، فإن تأثير الفيروس الجديد على سلاسل الإمداد في قطاع التكنولوجيا خارج هوبي سيكون محدوداً، طالما أن عدد حالات الإصابة بالفيروس لم تصل للمستويات الكارثية. وفي الوقت الحالي، فإنه يبدو أن الفيروس قد أدى فقط لوقف بعض عمليات التصنيع خارج هوبي لمدة تزيد على 10 أيام، وذلك بالنظر إلى أن العديد من المصانع تخطط لاستئناف عملياتها بحلول 9 فبراير الجاري. وقال «ستراتفور» إنه «في الأيام المقبلة، سيصبح من الواضح ما إذا كانت ستحدث مزيد من حالات العدوى خارج حدود هوبي أم لا، وإذا كان الأمر كذلك، فسنرى كيف سيؤثر ذلك على قطاع التكنولوجيا خارج ووهان، وفي حال انتشر الفيروس بشكل أكبر مما هو متوقع، فإن قطاع التكنولوجيا الصيني بأكمله تقريباً سيكون معرضاً لخطر حدوث اضطرابات أكثر حدة، إما من خلال التأثير المباشر لعمليات الإغلاق أو التأثير الثانوي الناجم عن الإغلاق بين الموردين، وفي مثل هذه الحالة، قد تظل مصانع التكنولوجيا في الصين مغلقة لفترة طويلة».


مقالات ذات صلة

«سي آي إيه»: جائحة «كورونا» نشأت على الأرجح داخل مختبر

الولايات المتحدة​ رجل أمن يبعد الصحافيين عن «معهد ووهان لعلم الفيروسات» بعد وصول فريق «منظمة الصحة العالمية» لزيارة ميدانية في ووهان بمقاطعة هوبي الصينية 3 فبراير 2021 (أ.ب)

«سي آي إيه»: جائحة «كورونا» نشأت على الأرجح داخل مختبر

قال متحدث باسم «وكالة المخابرات المركزية الأميركية» إن الوكالة خلصت إلى أنه من المرجح أن جائحة «كوفيد - 19» قد نشأت في مختبر، وليس في الطبيعة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
علوم ما الذي يجب أن تعرفه عن «كوفيد» الآن؟

ما الذي يجب أن تعرفه عن «كوفيد» الآن؟

ضمن عدد من الفيروسات المعدية الأخرى

داني بلوم (نيويورك)
آسيا أحد أفراد الطاقم الطبي يعتني بمريض مصاب بفيروس كورونا المستجد في قسم كوفيد-19 في مستشفى في بيرغامو في 3 أبريل 2020 (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

قالت منظمة الصحة العالمية إن زيادة حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي الشائعة في الصين وأماكن أخرى متوقعة

«الشرق الأوسط» (لندن )
صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

أوروبا قلقة من سياسات ترمب... والصين تستعدّ لاقتناص الفرصة

دونالد ترامب وشي جينبينغ خلال قمة مجموعة الـ20 في أوساكا باليابان في 29 يونيو 2019 (رويترز)
دونالد ترامب وشي جينبينغ خلال قمة مجموعة الـ20 في أوساكا باليابان في 29 يونيو 2019 (رويترز)
TT

أوروبا قلقة من سياسات ترمب... والصين تستعدّ لاقتناص الفرصة

دونالد ترامب وشي جينبينغ خلال قمة مجموعة الـ20 في أوساكا باليابان في 29 يونيو 2019 (رويترز)
دونالد ترامب وشي جينبينغ خلال قمة مجموعة الـ20 في أوساكا باليابان في 29 يونيو 2019 (رويترز)

غير خافٍ أن الدول الأوروبية عموماً ودول الاتحاد الأوروبي خصوصاً، تتهيّب مرحلة إقامة دونالد ترمب الثانية في البيت الأبيض، لأن رجل الأعمال الجمهوري يتّبع سياسة الصقور في العلاقات الخارجية، وربما مع الحليف قبل الخصم، انطلاقاً من «حق» الولايات المتحدة في قيادة العالم، و«واجب» المستظلين بحمايتها من حيث تأدية ما يستحق عليهم من واجبات، ليس أقلها - على سبيل المثال – كلامه عن ضرورة رفع الإنفاق الدفاعي للدول المنتمية إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) من 2 إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي عتبة قد لا تستطيع الولايات المتحدة نفسها بلوغها.

سياسة الصقور هذه تتمثل أيضاً في أن المحيطين بترمب يدعون إلى الانسحاب السريع للقوات الأميركية المنتشرة في أوروبا تحضيراً لمواجهة الصين بشكل أفضل، على أساس أن العملاق الأصفر هو مصدر التهديد الأكبر للولايات المتحدة، وبالتالي يجب توجيه الجهود إلى عملية احتوائه ودرء الأخطار التي يمثلها، بينما الدول الأوروبية «غنية»، وقادرة على الاعتناء بأنفسها.

من المؤكد أن القادة الصينيين، وعلى رأسهم الرئيس شي جينبينغ، يدركون أن عودة ترمب إلى البيت الأبيض سوف تؤدي إلى تعقيد العلاقات الجيوسياسية بين صاحبَي الاقتصادين الأول والثاني في العالم؛ ما يرفع منسوب خطر التسبب باضطرابات اقتصادية وأزمات سياسية وعسكرية على مستوى الكرة الأرضية، غير أنهم بحنكتهم وسياسة الصبر والتروّي التي يعتمدونها قد يرون في نهج ترمب فرصاً دسمة. والمقصود هنا تحديداً استثمار الصين في أي تباعد أميركي – أوروبي لتعزيز الحضور في القارة العجوز، ففي مشهد خلافيّ بين ضفّتي الأطلسي، سوف يضاعف الأوروبيون حكماً علاقاتهم التجارية مع بكين (بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي 739 مليار يورو عام 2023)، لأنهم سيحتاجون إليها للحفاظ على الحد الأدنى من المستوى الاقتصادي الذي يسمح لهم بتمويل جهودهم الدفاعية المتزايدة.

رئيس قرغيزستان صدير جاباروف خلال الاحتفال بإطلاق خط السكك الحديدية الرابط بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان (أ.ف.ب)

* الطريق إلى أوروبا

في ظل الراهن والمتوقّع، تعمل القيادة الصينية على تأمين طرق النفاذ إلى أوروبا ضماناً لحسن انسياب السلع بين الجانبين، وهذا ليس بمستغرب على من أطلق «مبادرة الحزام والطريق»؛ لذلك تسعى الصين بنشاط إلى إيجاد طريق إلى أوروبا يتجاوز روسيا - ممرها الأول نحو «الغرب القديم»، لأن العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب حرب أوكرانيا تعرقل التجارة، وتزيد أخطار عدم الاستقرار على طول الطرق البحرية. ومن شأن الطريق البديل أن يمكّن الصين من توسيع صادراتها، وتعزيز قدرتها التنافسية وتسريع تسليم السلع والمنتجات إلى المستوردين مع زيادة أحجام التجارة.

يكفي النظر إلى الخرائط للتأكد من أن طريق الصين البديل إلى أوروبا يمر عبر آسيا الوسطى وبالتحديد كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان. وقد شهدت الأخيرة أواخر العام الماضي الاحتفال بإطلاق خط السكك الحديدية الرابط بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان، وهو مشروع طال انتظاره على امتداد طريق الحرير التاريخي. والواقع أن المشروع، الذي اقترحته أوزبكستان عام 1996، اكتسب زخماً، وازداد أهمية بسبب الضغوط الجيوسياسية الناجمة عن الحرب بين روسيا وأوكرانيا والعقوبات القاسية المفروضة على روسيا وجارتها بيلاروسيا.

(ويكيميديا)

من المتوقع أن ينقل خط القطارات هذا نحو 15 مليون طن من البضائع سنوياً، ما يخفض أوقات التسليم إلى أوروبا 7 أيام مقارنة بالطرق الحالية، لكنّ الوصول إلى هذا الواقع ليس بالأمر السريع، فإنشاء الخط سيبدأ في يوليو (تموز) المقبل على أن يكون المشروع منجَزاً بعد 6 سنوات. وفي انتظار ذلك، يبقى «الممر الأوسط» الذي يبدأ في تركيا، ويمر عبر منطقة القوقاز وبحر قزوين وآسيا الوسطى هو أقصر طريق بين غرب الصين وأوروبا.

الطرق البديلة أمر لن يعجب روسيا التي ترى في دول آسيا الوسطى منطقة نفوذ لها بحكم حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ، لكن موسكو لا تملك وسائل ضغط كبيرة على بكين، خصوصاً مع ظل غرقها في وحول الحرب الأوكرانية التي ستكمل الشهر المقبل عامها الثالث؛ فالصين تستورد من روسيا كميات ضخمة من النفط الخام والغاز الطبيعي، في عملية تلبي حاجة الصناعة الصينية إلى مصادر الطاقة، وترفد الاقتصاد الروسي بالمال اللازم للصمود في مواجهة متطلبات الحرب وعبء العقوبات.

ويقول إدوارد ليمون، الأكاديمي المتخصص في شؤون آسيا الوسطى في جامعة «تكساس آي إن إم» الأميركية: «كان اعتماد آسيا الوسطى على روسيا كدولة عبور للتجارة عاملاً رئيسياً في نفوذ الأخيرة إقليمياً، لكن في نهاية المطاف، ومع انشغالها بالحرب في أوكرانيا وحاجتها الماسة إلى حلفاء في المنطقة، ليس بوسع روسيا أن تفعل الكثير حيال التمدد الصيني».

أعلام الاتحاد الأوروبي خارج مقر المفوّضية الأوروبية في العاصمة البلجيكية بروكسل (رويترز)

* الشباك الصينية

أحجم الرئيس الأميركي السابع والأربعون حتى الآن عن تنفيذ تهديده بفرض رسوم جمركية باهظة على الصين، وقال إن البلدين يمكن أن ينسجا «علاقة جيدة للغاية». وأكد شي جينبينغ في المقابل أن محادثته الهاتفية مع ترمب قبل أيام من تنصيبه هي «نقطة بداية جديدة»، وأرسل نائبه هان تشنغ إلى العاصمة الأميركية لحضور احتفال التنصيب، وهو أرفع مسؤول صيني يحضر هذا الحدث على الإطلاق.

غير أن ترمب لا يزال يلوّح بعصا الرسوم الجمركية، وقال في هذا الصدد: «لدينا ورقة قوة واحدة كبيرة جداً حيال الصين، وهي الرسوم الجمركية. هم لا يريدونها، وأفضل ألا أضطر إلى استخدامها، لكنها ورقة قوة هائلة». وبالتالي فإن «شهر العسل» الأميركي – الصيني قد لا يطول كثيراً، فتتلبّد الغيوم، وتقع المواجهة، وتندلع حرب تجارية جديدة بين الجانبين.

إذا استعمل سيّد البيت الأبيض هذه الورقة، فستكون الصين سعيدة للغاية بتوجيه قسط كبير من عملياتها التجارية من الولايات المتحدة إلى أوروبا. وسيرتاح الأوروبيون بدورهم، ويتمسكون بوسيلة تخفف عبء التكاليف الاقتصادية للسياسات الأميركية حيالهم، لكن هذا قد يجعل أوروبا مع الوقت تعتمد أكثر على الصين. فأين مصلحة أميركا في دفع حليفها الغربي الطبيعي بعيداً عنها؟

يرى محللون وخبراء أن أي استراتيجية أميركية لاحتواء الصين وردعها يجب أن تأخذ في الاعتبار مراعاة أكبر كتلة تجارية في العالم، أي الاتحاد الأوروبي بدوله السبع والعشرين. فبقاء الاتحاد في تحالف وثيق مع واشنطن يتوقف إلى حد كبير على إدارة الثانية للعلاقة عبر الأطلسي. أما دفع الأوروبيين نحو الاعتماد على الصين اقتصادياً والطلب منهم في الوقت نفسه أن يعززوا إنفاقهم الدفاعي لتعزيز حائط الصد الغربي في وجه الصين وروسيا فأمر يجافي المنطق، ويضرّ بالمصلحة الأميركية بالذات، لأن شنّ ترمب المحتمل لحربين تجارتين ضد الاتحاد الأوروبي والصين في آنٍ واحد سيؤدي إلى تحولات حتمية في المشهد الجيوسياسي.