محمد توفيق علاوي... في خضم صراع المناصب والضمائر

رئيس وزراء مكلّف جديد يحاول إنقاذ «الحالة العراقية»

محمد توفيق علاوي... في خضم صراع المناصب والضمائر
TT

محمد توفيق علاوي... في خضم صراع المناصب والضمائر

محمد توفيق علاوي... في خضم صراع المناصب والضمائر

لم يكمل المهندس محمد توفيق علاّوي أسبوعه الأول مكلفاً بتشكيل حكومة عراقية جديدة حتى وجد نفسه حيال معادلة صعبة هي أشبه شيء بصراع المنصب والضمير. ففي خطاب له عقب أحداث مدينة النجف الدامية، التي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى، وجّه خطاباً إلى الشعب العراقي بدا فيه حازماً من جهة، ومحبطاً من جهة أخرى. الرجل المعروف عنه الهدوء في أصعب المواقف - ومنه سمّى نجله الأكبر هادي - بدا حاداً وهو يخاطب: الشعب الباحث عن الخلاص بعد المعاناة الطويلة جراء عجز القوى السياسية على النهوض بالبلاد رغم خيراتها وثرواتها... والمتظاهرين الذين ما زالوا في حيرة من أمر توجهاتهم بين الاستمرار بالضغط حتى تحقيق المطالب محاولة الركون إلى الهدوء حتى يمنحوا الرئيس المكلف فرصة مناسبة لإثبات قدراته على تنفيذ تعهداته الأربعة عشر التي ألزم نفسه بها بعد التكليف مباشرة... والقوى السياسية التي لا تثق إحداها بالأخرى، ولا تستطيع منحه فرصة الاختيار الحر لتشكيلته الوزارية.
رئيس الوزراء العراقي المكلّف محمد توفيق علاوي أعلن أخيراً على الملأ أن «الممارسات هذه تضعنا في زاوية حرجة، لا يُمكن حينها الاستمرار بالمهمة الموكلة إلينا مع استمرار ما يتعرض له الشباب. فلم نأتِ لهذه المهمة الوطنية إلاّ من أجل بناء ما تهدّم، وليس من الأخلاق القبول بتصدّر المشهد، وتسنّم المهمة، بينما يتعرّض أبناؤنا لما نعرفه من ممارسات تُدمي القلب والضمير».
وبشأن ما تعرّض هو نفسه له من اعتراض في بعض الساحات، فإنه عبّر عن احترامه للرأي والرأي الآخر، قائلا بأن «احترام الرأي والرأي الآخر هو أهم ما يجب أن نسعى له في هذه الفترة. ولا أخفيكم، أنني شخصياً لا أرفضُ أن تتعرّض صورتي الشخصية إلى علامة «أكس» في الساحات، بقدر رفضي واستهجاني ووقوفي التام ضد مهاجمة مَن رفعوا هذه الصورة، فالمواطن حرّ كريم بإبداء رأيه، وواجبنا هو الارتقاء بخدمته وحمايته واحترامه».
ولكن، لعل أخطر ما تعهد به علاّوي في كلمته، بعد أحداث النجف الأربعاء الماضي، وهو ما يمكن أن يضعه في زاوية حرجة أمام القوى السياسية، هو قوله بأن «أولوية الحكومة المقبلة، وتحت البند الأول، هو إجراء تحقيقات جدية بشأن الخروق التي تعرّض لها أبناؤنا، من المتظاهرين والقوات الأمنية... ومحاسبة كلّ مَن يقف وراءها، كائناً مَن كان، ولأي جهة انتسب، فالدمُ العراقي خطّنا الأحمر الوحيد، الذي لا كرامة لنا ولا احترام إن تمّ سفكه أمام أعيننا».
إلى أي حد يبدو محمد توفيق علاّوي قادراً على إكمال المهمة التي تزداد تعقيداً، سواءً لجهة التناقض في ساحات التظاهرات أو التضارب في مواقف الكتل والأحزاب والمكوّنات لجهة التمثيل الوزاري؟

علاّوي ضد علاّوي
المفارقة التي هي ربما كانت الأكثر لفتاً للنظر تكمن في موقف رئيس الوزراء الأسبق الدكتور إياد علاّوي، الذي هو ابن عم محمد علاّوي، سواءً من تكليفه أو مما يجري على أرض الواقع في العراق.
فمن ناحية، عبّر الدكتور إياد عن قلة رضاه عن تكليف ابن عمه محمد، أو طريقة المجيء به، لم تعلن الكتلة التي يتزعّمها الأول – أي «ائتلاف الوطنية» - موقفاً واضحاً من تكليفه، ما يوحي بأنها لن تصوّت له. ومن ناحية ثانية، بينما يعمل الرئيس المكلّف على تهدئة الأجواء عبر التواصل مع مختلف الجهات، أعلن الدكتور إياد أنه بعث رسائل إلى المجتمع الدولي يطالبهم بمحاسبة المسؤولين المقصّرين عن قتل المتظاهرين.
ولئن كان رئيس الوزراء السابق يقف بالضد من ابن عمه رئيس الوزراء المكلّف لهذا السبب أو ذاك، فإن المياه يمكن أن تعود إلى مجاريها بين رئيس الوزراء المكلف وبين خصمه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. فرئيس الوزراء المكلّف كان وزيراً للاتصالات في حكومة المالكي الثانية، لكنه استقال من الحكومة إثر خلاف بين الطرفين استمر حتى تكليفه بمهمة تشكيل الحكومة. مع هذا، فإن «ائتلاف دولة القانون» الذي يتزعّمه المالكي أعلن أنه لا يمانع في دعم محمد توفيق علاّوي في حال شكّل بالفعل حكومة مستقلة، وهذا مع تأكيده بوضوح أنه لن يقف إلى جانبه في حال قدّم تنازلات لبعض الكتل السياسية التي تقول في العلن غير ما تخفي في السر. وإذا كان البيت الشيعي يعمل على إنجاح مهمة أي رئيس وزراء من منطلق أنه في النهاية محسوب على هذا البيت، فإنه في الوقت الذي يعلن منحه استقلالية التصرف في اختيار الوزراء فإنه ينظر إلى موقف الشريكين الأساسيين، وهما العرب السنة والأكراد.

الشراكة أم المشاركة
الإشكالية في العلاقة بين السنة والكرد من جهة والشيعة من جهة أخرى تتلخص في كيفية تفسير طبيعة هذه العلاقة. فهل هي مجرّد مشاركة في الحكم أم شراكة في صناعة القرار؟ ومع اختلاف وجهات النظر بين الكرد والسنة حيال طريقة التعامل مع الشريك الشيعي، فإنه وخلال الحكومات الأخيرة، وبالذات الولاية الثانية للمالكي (2010ـ 2014) وحكومة حيدر العبادي (2014 ـ 2018) وحكومة عادل عبد المهدي (2018 ـ 2019) يكاد يكون الموقفان الكردي والسنّي شبه موحدين حيال الشريك الشيعي. ذلك أن الخلافات بين بغداد وأربيل - أو المركز والإقليم - بدأت تتحوّل إلى خلافات شيعية ـ كردية بعدما كانت العلاقة بين الطرفين، قبل وبعد سنوات من سقوط نظام صدام حسين عام 2003. توصف بأنها علاقة «تحالف تاريخي».
أما العرب السنة فإنهم منذ البداية يرون أنهم مهمَّشون في صناعة القرار، طالما أن منصب رئيس الوزراء، ومعه منصب القائد العام للقوات المسلحة، يستحوذ على كل قدرات الدولة ومؤسساتها. ثم إنهم يرون أن الكرد - على الأقل - لديهم إقليمهم الذي يكاد يكون شبه دولة مستقلة. لذا فإن الإشكالية التي كانت قائمة، والتي ستواجه محمد توفيق علاوي هي طبيعة فهم العلاقة الملتبسة مع الشريكين الكردي والعربي السنّي لجهة المشاركة في صناعة القرار، وبالذات الأمني والاستراتيجي، أو مجرد المشاركة في الحكم في المواقع السيادية (الرئاسات الثلاث الجمهورية للكرد والوزراء للشيعة والبرلمان للسنة) أو توزيع الوزارات السيادية منها مكوّناتياً، والبقية طبقا للاستحقاق الانتخابي.

التظاهرات ضد من؟
لعل التحدّي الأكبر الذي واجه، ولا يزال يواجه، الطبقة السياسية العراقية بكل مكوّناتها وأحزابها وقواها ونخبها هي التظاهرات الجماهيرية الكبرى التي انطلقت في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وما زالت مستمرة حتى الآن.
ومع أن هذه التظاهرات هي التي تسببت بإطاحة حكومة عادل عبد المهدي، فهي التي جاءت بمحمد توفيق علاّوي رئيساً مكلفاً بتشكيل حكومة جديدة. ولعل علاوي بات يواجه وضعاً في غاية الصعوبة لجهة إقناع المتظاهرين بمنحه فرصة للتغيير. كذلك المشكلة لا تزال تكمن في هذا التغيير، لا سيما في ظل الخارطة الملتبسة للتظاهرات نفسها... المحكومة جغرافياً بمكوّن معين (بدءاً من بغداد والوسط والجنوب، حيث الغالبية الشيعية).
عودة إلى مفهومي المشاركة والشراكة الذي ينادي به العرب السنة والكرد فإن المحافظات الغربية السنية والشمالية الكردية لم تشهد تظاهرات الأمر الذي مثل نوعاً من الإحراج من جهة والضغط من جهة ثانية.
الإحراج يكاد يشمل كل الطبقة السياسية، لأن المتظاهرين وجّهوا سهام نقدهم إلى كل الطبقة السياسية، حكومة وبرلماناً، بينما الضغط بدأ يتجه نحو صانع القرار الشيعي لجهة كونه هو مَن يمسك بتلابيب التغيير عبر منصب رئاسة الوزراء الذي يكاد يحتكر معظم الصلاحيات. من هذا المنطلق فإن مهمة محمد علاّوي مركّبة بالكامل... فهو من جهة، مطالب بأن يمنح العراقيين أملاً بالمستقبل، ومن جهة ثانية، عليه مسؤولية مراجعة أداء 16 سنة كان خلالها ولو لفترة قصيرة جزءا منه. فمحمد علاّوي، الصبور والمتديّن جداً ينتمي إلى الأرستقراطية الشيعية، ومن أولاد عمه شخصيات بارزة، منها إياد هاشم علاّوي (أول رئيس وزراء انتقالي بعد سقوط نظام صدام حسين عام) وعلي عبد الأمير علاّوي (وزير التجارة والدفاع الأسبق وأحد المنافسين له على منصب رئيس الوزراء بعد استقالة عادل عبد المهدي). كذلك فهو مشارك في السلطة بعد عام 2003 ولقد دخلها مع ابن عمه إياد، إذ أصبح عضوا في البرلمان العراقي ووزيراً للاتصالات. وهو يأتي اليوم لإعادة بناء ما تهدّم، مثلما قال في كلمته بعد أحداث النجف.

«حكومة التعهدات»؟
لكن إلى أي حد سيتمكن محمد علاّوي من تحقيق هذا الهدف؟
الحكومة التي سبقته، وحملت مسمّى «حكومة الفرصة الأخيرة» برئاسة عادل عبد المهدي لم تستطع إكمال مهمتها طبقا لما وعدت، ومن ثم، لم يحن الوقت بعد لإطلاق تسمية أو مصطلح على حكومة علاّوي العتيدة باستثناء ربما «حكومة التعهدات». فمع ضياع كل الفرص بما فيها الفرصة الأخيرة، ما عاد ينفع حيال ما يجري سوى التعهد بتحقيق الآمال الموعودة رغم كل التحديات والصعوبات معا.
ولعل السؤال الذي بات يطرحه الجميع هو: هل يتمكّن هذا الرجل الذي جاء من خارج حسابات الكتل وأوزانها من تحقيق ما عجز عنه أسلافه ممن كان كل واحد منهم يتكل على كتلة كبيرة تقف خلفه؟
ليس هذا فقط. فعلاّوي يواجه مستقبلاً مجهولاً إلى حد كبير في ظل حراك جماهيري ليس مقتنعاً به أو بسواه من السياسيين العراقيين... قدّم حتى الآن أكثر من 600 شهيد وأكثر من 23 ألف جريح، وما زال مستمراً.
لم تعد بعد 1-10- 2019 تنفع لأي سياسي عراقي وصفة المشاركة في المعارضة العراقية التي أدت إلى إسقاط النظام السابق. فحتى أميركا التي وقع عليها العبء الأكبر في إسقاط النظام لم تعد سوى «احتلال» يتعين إخراجه. الأوضاع والمعطيات تغيّرت. والعراقيون يقولون «نحن منحنا هذه الطبقة السياسية 16 سنة من الحكم فتحوّلت إلى وصفة للفشل».
لكل ما سبق، فإن محمد توفيق علاّوي، الذي دخل المعترك السياسي مع ابن عمه إياد علاّوي عام 2005، وأصبح عضوا في مجلس النواب عام 2006. ومن ثم وزيرا للاتصالات في العام نفسه بدا أنه احتاط للأمر حين أكد للمتظاهرين أنه لا يحمل عصاً سحرية، وأنه في حال تدخل الآخرون في عمله... سيخاطب المتظاهرين قبل الكتل السياسية.
في العراق يبدو مثل هذا الانحياز سلاحا بعدة حدود لا حدين فقط.

بطاقة هوية
> ولد محمد توفيق علاّوي في مدينة بغداد يوم 1 يوليو (تموز) 1954
> تلقى تعليمه في بغداد، وبدأ دراسته الجامعية في مجال الهندسة المعمارية بجامعة بغداد، إلا أنه لم يكمل فيها لأسباب سياسية، إذ اضطر لمغادرة العراق.
> انتقل للعيش في لبنان، والتحق هناك بالجامعة الأميركية في بيروت، حيث تابع دراسته الهندسة المعمارية، وتخرّج فيها. ثم سافر إلى بريطانيا واستقر وعمل فيها
> قبل أن يغادر العراق إلى لبنان، أسّس علاّوي في بغداد شركة هندسية متنوعة التخصصات بين الكهرباء والكابلات والخرسانة والرخام. ولقد صادرت السلطات الشركة عام 1997.
> أسس أعمالا صناعية ومشاريع عقارية في بريطانيا، امتدت إلى دول أخرى منها لبنان والمغرب



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟