ليبيا... من الفراعنة والإغريق إلى الفتح الإسلامي

ليبيا... من الفراعنة والإغريق إلى الفتح الإسلامي
TT

ليبيا... من الفراعنة والإغريق إلى الفتح الإسلامي

ليبيا... من الفراعنة والإغريق إلى الفتح الإسلامي

يسعى الباحث الليبي الدكتور منصور محمد الكخيا إلى إبراز ملامح البيئة العريضة التي يعيش فيها مواطنو بلاده، بداية من تربتها ومناخها، إلى أنواع النباتات وطبيعة حدودها، وانعكاسات كل ذلك على حيويتهم، ومظاهر أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية، وتكوينهم الديموغرافي، موضحاً أن ليبيا كان اسما ذا مدلول جغرافي، قبل كونه سياسياً أو اجتماعياً، وأن الفراعنة هم الذين أعطوا منطقة الصحراء المتاخمة لوادي النيل غرباً هذا الاسم، وأخذه عنهم الإغريق الذين توسعوا في بسطه على كل الأجزاء المعروفة لديهم من الشمال الأفريقي والمناطق الصحراوية المتاخمة له في جهة الجنوب، لينكمش في العصر الروماني مقتصراً على المنطقة الواقعة بين وادي النيل في الشرق وجبال أطلس في الغرب.
وقسم الكخيا كتابه «ليبيا المكان والزمان والإنسان»، الذي صدر في القاهرة حديثاً عن مجموعة الوسط للإعلام، إلى ثلاثة أقسام، أفرد لكل منها دراسة وافية، ارتكز الأول على ليبيا المكان، وفيه اهتم الباحث بالتعريف بأقاليم الدولة الليبية وتضاريسها، ولفت إلى أن المشكلات والنزاعات التي نشأت عند توقيع اتفاقيات ترسيم الحدود من كل من تشاد والنيجر والجزائر كان أساسها الإجراءات التي قام بها المستعمر الفرنسي على الأرض بعد الحرب العالمية الثانية، وعمله على تغيير حدود ليبيا مع الدول التي احتلت أجزاء منها، واتباع سياسة الأمر الواقع، وهو ما يخالف اتفاقية ترسيم الحدود التي وقعتها فرنسا عام 1935 مع إيطاليا، إبان استعمارها الأراضي الليبية التي بدأت عملية ترسيم الحدود لها قبل أن تستولي عليها منذ القرن التاسع عشر بين تركيا والحكومات الأوروبية في مناطق الجوار، ثم بعد ذلك بين إيطاليا وقريناتها الاستعمارية، فرنسا في غرب وجنوب ليبيا، وبريطانيا في الشرق والجنوب الشرقي.
ولفت الكخيا إلى أن اتفاقيات ترسيم الحدود بين ليبيا ومصر والسودان وتونس، وحتى الجزائر، اتسمت بروح التسامح والانفتاح والتعاون، بخلاف ما جرى مع تشاد والنيجر اللتين اتخذ النزاع الحدودي معهما شكلاً مسلحا في عهد حكم القذافي، انتهى بانسحاب ليبيا من شريط أوزو بعد مداولات قضائية دولية.
وفي الجزء الثاني من الكتاب، أشار الكخيا إلى أنه منذ فجر التاريخ، أمدت الوثائق والنقوش والمخلفات الفرعونية الباحثين بمعلومات أكثر دقة وتنوعاً عن الليبيين والبلاد التي أطلقوا عليها اسم «ليبيا» التي تجاور حوض النيل، وتتنوع بين رسوم وكتابات على الصخر، أو على مقابض الخناجر والهراوات المستعملة في الحروب، وتعود لعصر ما قبل الأسرات وبدايته، ثم الدولة القديمة والوسطى ووثائق الدولة الحديثة، وأخيراً وثائق عصر ما بعد الأسرات. وقد ورد اسم الليبيين في تلك الوثائق لأول مرة تحت اسم «التحنو»، وكانت تظهرهم بشعور سوداء مرسلة ولحى طويلة مدببة، فيما تظهر المصريين بشعور كثة غير مرسلة، ولحى كثيفة غير مدببة، وكانت وثائق عصر ما قبل الأسرات تعني بالتحنو الأراضي الواقعة غرب دلتا النيل، والجزء الغربي من الدلتا، ويعنون بها في الوقت نفسه القوم الذين يسكنون تلك المناطق.
ويعتبر التحنو -حسب الكخيا- هم أقدم مكون ذكره التاريخ لسكان ليبيا، وهم ينحدرون من نسل سلالات الإنسان القديم الذي كان يسكن مناطق الشمال الأفريقي والصحراء الكبرى خلال العصر المطير، ثم اضطروا إلى الهجرة عندما حل الجفاف شمالاً حيث المناطق الساحلية، وجنوباً صوب المناطق المدارية وشبه المدارية، ونحو أحواض الأنهار، النيجر والنيل وغيرهما من الأنهار الأفريقية، كما استقر ما تبقى من السكان الليبيين بواحات الصحراء الكبرى.
وذكر الباحث أن من هذه الأقوام جماعات التحنو الذين استوطن بعضهم مصر الوسطى، كما استوطنت جماعات أخرى الجزء الغربي من دلتا النيل. وجرى صراع بالطبع بين القبائل، لكنه انتهى سلمياً بانتقال العرش لأسرة من أصل ليبي، وذلك في بداية الألف الأولى قبل الميلاد.
كما تحدثت الوثائق الفرعونية عن جماعات التماحو، خلال حكم الأسرة السادسة، وهي آخر الأسر الحاكمة في الدولة القديمة، وهم قوم جاءوا إلى وادي النيل من جهة الغرب خلال الألف الثالثة قبل الميلاد. ويذكر المؤلف أن هذه الجماعات استوطنت الواحات الواقعة غرب النيل، في منخفض الفيوم، ودخلوا مصر الوسطى على شكل دفعات وهجرات متلاحقة. ومع مرور الزمن، قوي نفوذهم في المناطق التي تكاثروا فيها، حتى سيطروا على الأسر الحاكمة نفسها، وأصبحوا سادة مصر الوسطى، وتمكنوا من حماية تلك المناطق المصرية من موجات الهجرات الزنجية الوافدة من الجنوب.
ويؤكد بعض المؤرخين أن التماحو سيطروا بشكل تام على مصر الوسطى، وكونوا أسرتين حاكمتين، هما الأسرة التاسعة التي حكمت من 2161 إلى 2130 قبل الميلاد، والأسرة العاشرة التي حكمت من 2130 حتى 2040 قبل الميلاد، وكانت مدينة إهناسيا عاصمة حكم هاتين الأسرتين.
وتشكل قبيلة التماحو واحدة من أقدم القبائل الليبية، ومعها التحنو، والآسيويون، والهكسوس، والإثيوب، والقهق، والليبو والمشواش، وأسبات، وتايكش، وهاسا، وقد وردت أسماءهم كمشاركين في حملات الليبو والمشواش على مصر، أو كأسرى حرب أو مجندين مرتزقة في الجيش الفرعوني.
وفي قسم آخر من الباب الثاني، تحدث الكخيا عن تأثير الفينيقيين، وما قاموا بتأسيسه من مدن على ساحل ليبيا الغربي، مثل صبراته، وأويا ولبدة، وقد جعلوا منها مدناً بحرية عامرة بالتجارة، واستوطنها إلى جانب الفينيقيين كثير من أهل البلاد الأصليين، وامتزجوا ثقافياً وعرقياً بهم. وعرف الشعب الذي نتج عن ذلك التمازج بالبونيقيين، وقد أسسوا دولة ورثت الحضارة الفينيقية، عرفت بالحضارة البونيقية، استمرت مزدهرة حتى قضى عليها الرومان بعد حروب طويلة. كما أفرد الكخيا جزءاً من حديثه عن التأثيرات التي تعرضت لها الأرضي الليبية وسكانها على يد المهاجرين الإغريق الذين تزوجوا من نساء ليبيات، وكانت اللغة اليونانية التي استعملوها في شمال شرقي ليبيا تختلف قليلاً عن اللغة اليونانية الأم. ورغم أن الإغريق وثقافتهم كان لهم تأثير في سكان ليبيا الأصليين، فإنه ظل محدوداً بسبب محدودية علاقاتهم معهم، وتوترها وضعفها، ولأن القوانين أو دساتير المدن الإغريقية في إقليم قورينائه كانت تضع فوراق اجتماعية وسياسية وعرقية بين اليونانيين الوافدين والسكان من أهل البلاد الأصليين.
وهؤلاء نقلوا أيضاً نظم الحكم إلى الممالك التي أسسوها في ليبيا، وكانت هناك ثلاث مستويات من المؤسسات، تتمثل في مجلس الشعب ومجلس الشورى ومجلس الشيوخ، ويأتي الملك في قمة هرم السلطة متحكماً فيها جميعا، إضافة إلى ترؤسه مجلسي الكهنة والقضاء.
ولفت الكخيا إلى أن صراعاً نشب بين القبائل الليبية والغزاة الإغريق، استمر حتى بعد سيطرة الرومان وحلولهم محل اليونانيين، في مملكتي قرطاجنة ونوميديا. وقد عمل الرومان على تقوية الفتن بين أحفاد مسينسا ملك نوميديا، ونجحوا آخر الأمر في تدميرها، كما حاربوا مملكة جرمة في الجنوب، لكنهم لم يتمكنوا من القضاء عليها، فعقدوا معها معاهدة سلام وتعاون على تأمين تجارة قوافل الصحراء.
وبعد الوجود الإغريقي والفينيقي والروماني، تحدث الكخيا عن ليبيا إبان العصور الإسلامية المختلفة، منذ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حتى الخلافة العثمانية، ثم ما حدث من تحولات بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر وبدء الحملات التبشيرية، وما تبعه من سيطرة على موانئ الساحل الليبي، اتخذتها منطلقاً لتوسع داخل البلاد، ولم تستطع تركيا والعثمانيون مواجهتهم أو صدهم. لكن رغم الاستسلام العثماني، وتوقيع معاهدة لوزان السويسرية عام 1912، فإن الليبيين لم يستسلموا للمحتل الإيطالي الذي بذل جهوداً كبيرة للقضاء على الهوية الليبية العربية الإسلامية.
ولم يغفل الكخيا دور المملكة السنوسية، وما تلاها من حكم «شمولي» بدأ في سبتمبر (أيلول) 1969، رأى أنه قضى على معالم الحرية والديمقراطية الناشئة قبل أن يشتد عودها، ويقطف الليبيون ثمارها.
وفي الجزء الثالث من كتابه، تحدث الكخيا عن «ليبيا الإنسان»، وأشار فيه إلى الأصول والأنساب التي يرجع إليها الليبيون، والأعراق التي اختلطت وتناسلت بالسكان الأصليين من أمازيغ وطوارق وفزانيين، فضلاً عن تأثير وملامح الهجرة السكانية التي تعرضت لها البلاد، وأقاليمها وسكانها، كما تتبع خطوات تعريب ليبيا، ابتداء من الفتح الإسلامي، ثم تعرضها لموجات من الهجرات المتتالية، أكسبت الليبيين أصولهم العرقية وطابعهم الحضاري الإسلامي العربي.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.