ترجيح «العمل الإرهابي» في هجوم استهدف ثكنة للشرطة شرق فرنسا

اتصال هاتفي سبق الاعتداء للإعلان عنه

ضباط شرطة فرنسيون في موقع حادث الاعتداء على ثكنة للدرك بمدينة ميتز (شرق فرنسا) أول من أمس (أ.ف.ب)
ضباط شرطة فرنسيون في موقع حادث الاعتداء على ثكنة للدرك بمدينة ميتز (شرق فرنسا) أول من أمس (أ.ف.ب)
TT

ترجيح «العمل الإرهابي» في هجوم استهدف ثكنة للشرطة شرق فرنسا

ضباط شرطة فرنسيون في موقع حادث الاعتداء على ثكنة للدرك بمدينة ميتز (شرق فرنسا) أول من أمس (أ.ف.ب)
ضباط شرطة فرنسيون في موقع حادث الاعتداء على ثكنة للدرك بمدينة ميتز (شرق فرنسا) أول من أمس (أ.ف.ب)

ما زال الإرهاب أو التهديد الإرهابي يرخيان بظلهما على أوروبا كما برز ذلك في الأيام الثلاثة الأخيرة، في لندن وبروكسل وباريس. إلا إن فرنسا تبقى البلد الأكثر تعرضاً لذلك؛ وفق ما أظهره تقرير صدر أول من أمس عن «المركز الفرنسي لدراسة الإرهاب»، حيث بيّن أن «حصتها» من العمليات أو المحاولات الإرهابية التي ضربت أوروبا في عام 2019 تصل إلى 32 في المائة، مقابل 16 في المائة لألمانيا وبريطانيا، و8 في المائة لكل من إسبانيا وهولندا.
آخر ما تعرضت له فرنسا حدث بعد ظهر أول من أمس. وإن جاءت العملية الإرهابية «كلاسيكية» في حصولها لجهة لجوء الجاني لاستخدام سلاح أبيض (سكين) لارتكاب فعله، كما حدث في فرنسا وأوروبا في كثير من المرات السابقة، إلا إنها كانت مجددة في تسلسلها. والمثير للدهشة، وفق ما رواه النائب العام في مدينة ميتز (شرق فرنسا) أن رجلاً قال إنه عسكري، اتصل قبل وقت قصير من العملية ليؤكد أن «مجزرة سوف تحصل في مقر شرطة مدينة ديوز» القريبة من ميتز، وأنه ينتمي إلى «داعش». وأفاد كريستيان ميركوري، النائب العام، بأنه تواصل مع «النيابة العامة المختصة بمحاربة الإرهاب» التي يعود إليها أن تضع يدها على الملف في حال عدّت أن العملية إرهابية. ورجحت المصادر القضائية أمس أن يتم ذلك في «الساعات المقبلة». والرأي السائد أمس أن ما حصل عملية إرهابية. إلا إنه حتى العصر لم تكن هذه النيابة قد تسلمت رسمياً الملف المذكور بانتظار توافر معلومات إضافية حول الجاني البلغ من العمر 19 عاماً والذي انضم إلى الجيش الفرنسي جندياً متطوعاً منذ شهرين فقط. والسؤال المطروح يدور حول معرفة ما إذا كان الشخص الذي أجرى الاتصال الهاتفي هو نفسه الذي قام بالعملية التي جرت في ثكنة خاصة بالدرك الوطني في مدينة ديوز وأسفرت عن جريحين هما رجل أمن والجاني، الذي هاجمه بسكين وأصابه إصابة بسيطة فقام الأخير بإطلاق النار عليه مرتين وأصابه في بطنه. ونقل الجاني إلى المستشفى حيث خضع لعملية جراحية.
حقيقة الأمر أنها ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها مؤسسات للشرطة والدرك. فالجميع يتذكر العملية التي حصلت في مقر مديرية شرطة باريس في 3 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وقام به موظف إداري يعمل منذ سنوات في المديرية المذكورة؛ حيث هاجم زملاءه في العمل بسلاح أبيض فقتل 4 منهم قبل أن يقتل بالرصاص في حرم المديرية. وأثارت هذه العملية، وقتها، كثيراً من التساؤلات حول وجود أفراد يعتنقون فكراً جهادياً داخل المؤسسات الأمنية والدوائر الحكومية بشكل عام. ولا شك في أن حادثة «ديوز» ستعيد مجدداً طرح هذه الإشكالية بقوة. وفي أي حال، فإن عملية «ديوز» متفردة في طريقة حصولها لو ثبت أن الجاني هو نفسه من قام بالاتصال بمركز عمليات الشرطة ليعلن بنفسه أنه سيرتكب عملاً جنائياً ويحدد المكان الذي سيحصل فيه هذا العمل. وعادة ما كان يتم تسجيل شريط فيديو يعثر عليه في مقر إقامة الجاني أو يتم تبني عمله من خلال وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش». أما أن يبادر الجاني ويقوم بالاتصال ويحدد مكان الجريمة؛ فهذا أمر غير مألوف. وأشار العقيد في الدرك نيكولا فيليبوتين، رئيس وحدة الاستقصاء في قطاع ميتز، إلى أن الإنذار نقل فوراً إلى قسم الدرك في ديوز بحيث إن هؤلاء تدخلوا فوراً عند رؤيتهم الجاني. لكن التحذير لم يحل دون وصول الأخير إلى المكاتب الداخلية؛ حيث جرح فرداً من الدرك ونجح الأخير في تحييده بإطلاق النار عليه مرتين. وأدخل الدركي إلى المستشفى للمعالجة.
يقول النائب العام في ميتز إن الاستقصاءات تتركز على «التعرف عن قرب على شخصية الجاني» الذي يسمى «ماتياس أر»، والتعرف على محيطه العائلي وعلاقاته الشخصية وقراءاته، مما سيمكن المحققين من «تتبع المسار الذي أفضى به إلى التطرف والإرهاب» وتأكيد أنه ينتمي إلى «داعش» في حال كان هو صاحب الاتصال الهاتفي، أو الوصول إلى خلاصة أن ما قام به مرتبط بشخصيته ويندرج تحت بند «جرائم الحق العام». لكن الفرضية الأولى هي الأكثر ترجيحاً حتى قبل أن تضع النيابة العامة المختصة بالشؤون الإرهابية اليد عليها. وككل مرة، يدخل البعد السياسي على الخط ممثلاً في وزير الداخلية ونظيرته وزيرة الدفاع. فقد أشاد كريستوف كاستانير، في تغريدة أمس، بـ«برودة الأعصاب وبمهنية ورد الفعل السريع للدرك الذين تدخلوا للقبض على المعتدي»، معبراً عن دعمه لهم.
من جهتها، أكدت فلورانس بارلي أن الأخير «عسكري شاب في طور التأهيل الأولي منذ شهرين وهو يخضع لمرحلة اختبارية»، مضيفة أنه «لم يكن في الخدمة» عند وقوع الحادثة.
وباستثناء الاتصال الهاتفي، فإنه لم تعلن أي جهة، حتى مساء أمس، مسؤوليتها عن الحادثة. وكان الجيش الفرنسي أشار في ديسمبر (كانون الأول) إلى إجراء تحقيقات بشأن حالات تطرّف في صفوفه بعد نشر تقرير يفيد بالتحاق نحو 30 جندياً بتنظيمات جهادية بدءاً من عام 2012. وشهدت فرنسا في عام 2015 اعتداءات دموية أعقبتها سلسلة هجمات جهادية، وقد تخطّت حصيلتها الإجمالية 250 قتيلاً. وفي يناير (كانون الثاني) أسفر اعتداء بالسلاح الأبيض استهدف منطقة فيلجويف قرب باريس، عن سقوط قتيل.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟