برزت مساع روسية لمحاصرة احتمالات تفاقم الموقف بعد المواجهات التركية مع القوات النظامية السورية في مدينة إدلب. وأعربت أوساط روسية عن قناعة بأن درجة التوتر ستتراجع رغم «التصريحات النارية» للقيادة التركية التي وصفت بأنها «موجهة في الغالب إلى الداخل التركي»، فيما عكست إشارات برلمانيين روس حول تعرض اتفاق سوتشي لـ«ضغوط كبيرة» تلميحا إلى احتمال إجراء مراجعة لهذا الاتفاق تأخذ في الاعتبار التغييرات الميدانية، ما يمكن أن يقلص إلى درجة كبيرة الوجود التركي في المنطقة.
وأعلنت الخارجية الروسية أن تطورات الوضع في إدلب كانت محور نقاشات هاتفية بين وزير الخارجية سيرغي لافروف ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو، وأكد الطرفان خلال المكالمة التزامهما بمذكرة سوتشي، وتبع ذلك لقاء مطول جرى بين نائب الوزير ميخائيل بوغدانوف والسفير التركي في موسكو استعرض خلاله الطرفان الوضع في إدلب بشكل تفصيلي.
وفسرت أوساط روسية هذا التحرك بأنه مسعى لمحاصرة الأزمة التي تصاعدت على خلفية المواجهة بين القوات التركية والسورية أخيرا، وذكر خبراء مقربون من الخارجية أن موسكو فتحت قنوات اتصال في هذا الشأن مع الطرفين السوري والتركي على المستويين العسكري والدبلوماسي، لكن وزارة الدفاع لم تعلق على هذه المعطيات.
وأعرب خبراء عن قناعة بأن «ما يجمع موسكو وأنقرة من ملفات أوسع بكثير من النقاط الخلافية. وأنه فضلا عن تطابق الموقف من النزعات الانفصالية للأكراد، والتوافق على المنطقة الأمنة في الشمال السوري، هناك مسألة التعاون في مجالات الطاقة والقطاع العسكري، وهناك تفاهم على حدود التحرك في ليبيا برغم التباين في أهداف ومداخل البلدين».
ولفتت إشارات بعض الخبير إلى وجود تباين داخل المؤسسات الروسية حول آليات التعامل مع الوضع الراهن في إدلب، وأنه في وقت تعمل الخارجية على تعزيز التنسيق مع تركيا ترى وزارة الدفاع التي تتولى بشكل مباشر إدارة الملف السوري أن الأولوية لتقدم الجيش السوري وتوسيع رقعة انتشاره.
وهو أمر أشار إليه أنطون مارداسوف، الخبير في المجلس الروسي للشؤون الخارجية، وقال إن موسكو لا تزال تبحث عن توازن بين سعيها لتطوير العلاقات مع أنقرة والعمل في اتجاه تعزيز الوضع ميدانيا في سوريا. وزاد الخبير: «من الصعب الجمع بين تنفيذ هاتين المهمتين بالنظر إلى خصوصية السياسة الخارجية الروسية في الاتجاه السوري، على خلفية أن وكالات الاستخبارات والمؤسسة العسكرية دفعت الدبلوماسيين لفترة طويلة إلى المرتبة الخلفية في اتخاذ القرار». وزاد الخبير أنه «تتفهم موسكو الحاجة إلى إنشاء منطقة عازلة في الشمال، لكنها مهتمة أيضا بدفع المعارضة بعيداً عن الطرق الرئيسية وزيادة إضعافها».
لكنه أكد في المقابل عدم وجود مخاوف لتصاعد التوتر أكثر من تركيا، وزاد «تعتمد موسكو على حل الوضع مع أنقرة حتى في ظل أكثر السيناريوهات سلبية في إدلب».
في أثناء ذلك، قلل برلمانيون روس من أهمية «التصريحات النارية» التي تصدر عن القيادة التركية حول استعداد أنقرة لشن ضربات جديدة على مواقع حكومية، ورأى بعضهم أنها «موجهة للاستخدام الداخلي ولمخاطبة الجمهور الانتخابي لإردوغان».
ووفقا للباحث السياسي غيفورغ ميرزايان، فإن إردوغان، بعد الحادث «لا يستطيع سوى التحدث بلهجة نارية»، وإلا فإن «ناخبيه لن يفهموه». وتوقع ألا يُقدم الرئيس التركي على تصعيد واسع النطاق، لأن ذلك يهدد بانهيار اتفاقيات تركيا مع روسيا، بما في ذلك الاتفاقات مع موسكو بشأن سوريا.
إلى ذلك، قال رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما قسطنطين كوساتشييف إن موسكو قلقة بشدة إزاء الوضع في محافظة إدلب السورية، وإن «الموقف هناك يضع كثيراً من الضغوط على الاتفاقات بين روسيا وتركيا». ووفقا لخبراء فإن تطورات الوضع في إدلب وصولا إلى المواجهة التي وقعت أخيرا تدفع باتجاه إجراء مراجعة شاملة لاتفاق سوتشي الموقع بين موسكو وأنقرة في خريف العام الماضي.
ولم تستبعد أوساط برلمانية أن تلجأ موسكو وأنقرة في وقت لاحق إلى إجراء جولات محادثات جديدة لمراجعة الاتفاق، مع الأخذ في الاعتبار التقدم الذي أحرزته القوات النظامية، وبما يسمح بتطويق ملف الوجود التركي في إدلب، وإنهائه، مع منح أنقرة ضمانات أوسع في موضوع المنطقة الآمنة في الشمال.
على صعيد مواز، أعلن مركز المصالحة الروسي في سوريا أنه تلقى بلاغات بأن «مؤسسة الخوذ البيضاء» والمسلحين من تنظيم «هيئة تحرير الشام» يعدون لـ«تنفيذ عمل استفزازي في إدلب باستخدام مواد سامة».
وأكد المركز تلقيه أول من أمس، عبر «الخط الساخن» التابع له، بلاغين من أهالي إدلب، يفيدان بأن عناصر من «الخوذ البيضاء» وبدعم من مقاتلي «هيئة تحرير الشام» يستعدون بنشاط لتنفيذ هجوم باستخدام مواد سامة، في قرية معارة الأرتيق بمحافظة حلب، المشمولة بمنطقة إدلب لخفض التصعيد.
اللافت، أن المركز دعا الجانب التركي إلى «الضغط على المسلحين الناشطين في المناطق الخاضعة لسيطرته في إدلب، لمنع تنفيذ مخططهم الإجرامي» وعكست هذه الدعوة استمرارا للدعم الروسي المعلن للعمليات العسكرية التي تشنها القوات الحكومية باعتبار أنها «تقلص من النشاط الإرهابي في المنطقة».
من جهتها، تحاشت تركيا تصعيد التوتر مع روسيا. وقال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، إنه ليست هناك ضرورة للدخول في نزاع مع روسيا خلال هذه المرحلة. وأضاف إردوغان، في تصريحات لعدد من الصحافيين خلال عودته من أوكرانيا أمس (الثلاثاء)، علّق فيها على استهداف النظام السوري الجنود الأتراك في إدلب أول من أمس؛ ما أدى إلى مقتل 7 منهم وإصابة موظف مدني: «ليست هناك ضرورة للدخول في نزاع مع روسيا خلال هذه المرحلة، لدينا معها مبادرات استراتيجية جادة للغاية. الاعتداء على الجنود الأتراك، يعد انتهاكاً لاتفاقية إدلب، وبالطبع ستنعكس نتائج هذا الاعتداء على النظام السوري». وتابع: «أعتقد أن العمليات التركية أعطت درساً كبيراً لهؤلاء (نظام الأسد)، لكننا لن نتوقف، سنواصلها بالحزم نفسه».
وفيما يتعلق بنقاط المراقبة العسكرية التركية الموجودة في إدلب، قال إردوغان: «نقاط المراقبة التركية في إدلب لها دور مهم جداً، وستبقى هناك، ونجري التعزيزات اللازمة».
وأضاف، أن النظام السوري «سيدفع ثمن قصفه الجنود الأتراك في إدلب، وأن الرد التركي سيكون قاسياً. نرد على ذلك بكل حزم، سواء من البر أو الجو، بحيث يدفعون ثمن فعلتهم».
في السياق ذاته، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، إن بلاده ردت على «الهجوم الدنيء» لقوات نظام بشار الأسد في إدلب، وإنه تم تحييد 76 عنصراً للنظام. وأضاف، في تصريح عقب تفقده برفقة عدد من القادة العسكريين، وحدات عسكرية على الحدود مع سوريا، وزيارته جرحى الجنود الأتراك في مستشفى هطاي الحكومي الليلة قبل الماضية: «قمنا ونقوم بالرد على الهجوم الدنيء لقوات نظام بشار الأسد في إدلب، وجرت محاسبتهم على كل قطرة من دماء جنودنا».
وشدد أكار على أن تركيا تسعى لضمان تحقيق وقف إطلاق النار، ووقف نزيف الدماء في أسرع وقت، وتحقيق الاستقرار والسلام للسوريين، مضيفاً أن تركيا قامت بما يترتب عليها بموجب تفاهمات سوتشي وآستانة بشأن سوريا، وأنهم يتطلعوا لأن تقوم الأطراف الأخرى أيضاً بالوفاء بالتزاماتها. وأكد أنه لا ينبغي لأحد أن يشك في قدرة تركيا على حماية حقوقها. وقال إردوغان، إن التطورات في إدلب وصلت إلى وضع لا يطاق، مشيراً إلى أنهم صبروا في هذا الصدد كثيراً. وأعرب عن أمله في أن يعي الجميع التزاماته في إطار اتفاقيتَي «آستانة» و«سوتشي»، وأن يواصلوا العمل في هذا الإطار.
من جانبه، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إنه يقع على عاتق روسيا وقف ما سماه «وقاحة نظام الأسد» التي بدأت تزداد في الآونة الأخيرة. وأضاف، في كلمة خلال اجتماع تحت عنوان «آسيا من جديد» بخصوص سياسة تركيا الخارجية، حضره سفراء وممثلو تركيا في القارة، أن بلاده ستواصل الرد على النظام، إن كرر استهدافه القوات التركية في إدلب. وتابع قائلاً: «لا يمكننا البقاء مكتوفي الأيدي حيال الهجمات التي تستهدف قواتنا في إدلب، قمنا بالرد وسنواصل الرد إن تكررت».
وتابع أن «الجروح بدأت تصيب مساري آستانة وسوتشي حول سوريا، لكنهما لم ينتهيا تماماً». وأن العذر الروسي بعدم قدرتهم على التحكم بالنظام السوري بشكل كامل، ليس صائباً.
إلى ذلك، واصل الجيش التركي تعزيز نقاط مراقبته داخل محافظة إدلب. وكشفت مصادر عن اجتماع تركي - روسي أمس في أنقرة ضم مسؤولين عسكريين وآخرين من الاستخبارات لمناقشة التطورات.
في السياق ذاته، حمّلت المعارضة التركية إردوغان المسؤولية عن مقتل الجنود الأتراك في إدلب بسبب إصراره على التدخل في شؤون دول المنطقة، وأشارت إلى أن ذلك جعل من تركيا وكراً لجميع الميليشيات في العالم. وقال نائب حزب الشعب الجمهوري عن محافظة إسطنبول، سزجين تانري كولو، عبر حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»: «ما شأننا نحن بإدلب». وأضاف «أن وجود الجنود الأتراك في سوريا ليس صحيحاً، وأن المعارضة التركية تنادي منذ عام 2011 بعدم دخول الجيش التركي سوريا»، وتابع: «ما شأن جنودنا بإدلب. لقد عارضتُ منذ البداية دخول تركيا في الحرب في سوريا، وقلت ذلك مرات عدة. ورغم ذلك استضافت تركيا جميع الميليشيات الذين أتوا من كل مكان في العالم».
موسكو تسعى لـ«محاصرة» التصعيد... وأنقرة تتحاشى الصدام
تباين بين وزارتي الخارجية والدفاع الروسيتين حول الاشتباك السوري ـ التركي
موسكو تسعى لـ«محاصرة» التصعيد... وأنقرة تتحاشى الصدام
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة