ملتقيات ثقافية خاصة في الكويت.. مقراتها المقاهي والصالونات

روادها تتراوح أعمارهم بين 18 و60 سنة.. ودور بارز للمرأة في التأسيس

من جلسات الملتقيات الثقافية الخاصة
من جلسات الملتقيات الثقافية الخاصة
TT

ملتقيات ثقافية خاصة في الكويت.. مقراتها المقاهي والصالونات

من جلسات الملتقيات الثقافية الخاصة
من جلسات الملتقيات الثقافية الخاصة

هل ثمة فارق حين يتشابه المضمون ويختلف الشكل؟ هذا السؤال يراود الذهن وأنت ترى هذا العدد المتزايد من الملتقيات الثقافية الخاصة في الكويت، التي تعمل بعيدا عن المؤسسات الثقافية الرسمية بجهود فردية يبذلها أشخاص من مختلف الأجيال وحتى الجنسيات، وإن كانت الغالبية فيها لجيل الشباب الذين التقت أفكارهم وطموحاتهم على تأسيس تجمع يضم عددا لا يتجاوز 20 شخصا لكل ملتقى، من الهواة والمحترفين ذكورا وإناثا.
في يوم محدد إما أسبوعيا وإما نصف شهري يلتقي أعضاء هذه الملتقيات في الفترة المسائية لإقامة أنشطتهم المتفق عليها، وغالبا ما تكون هذه الأنشطة إما أمسيات شعرية وإما قصصية وإما مناقشة كتاب أدبي. وهو قريب جدا مما تقوم به المؤسسات الرسمية في الكويت،
بقية الملتقيات الخاصة التي نتحدث عنها، منها: ملتقى الثلاثاء، وهو الأقدم والأشهر، والذي يتحدث لنا أحد أبرز أعضائه المؤسسين الشاعر نادي حافظ بأن الذين أسسوا الملتقى إضافة إليه هو: الشاعر دخيل الخليفة والكاتبان كريم الهزاع ومحمد عبد الله السعيد، وذلك عام 1996.
لكن حسب اعتقاد حافظ، تم طرد الملتقى من هذا المقر بضغط من المؤسسات الثقافية الرسمية الأخرى، معتبرا أن الملتقى تفوق بأنشطته عليها. وواجه الملتقى إشكالية أخرى، فبعد أشهر من انطلاقته أعلن الفنان سامي محمد سحب اسمه من الملتقى، مما دفع المؤسسين إلى تغيير اسمه إلى ملتقى الثلاثاء، ليعاود أنشطته كل ثلاثاء من مسرح الخليج العربي. وفي مرحلة مسرح الخليج، ارتفعت وتيرة وأداء الملتقى حسبما يوضح حافظ، ولكن ما لبثت الأمور أن تأزمت مرة أخرى بانشقاق أعضاء آخرين منه وتأسيسهم بمفردهم ملتقى خاصا في رابطة الأدباء كان نواة لملتقى «المبدعين الجدد» الذي تبنته الرابطة لاحقا.

* عرب وأجانب

* ومن الملتقيات الأخرى، «نادي ديوان للقراءة» الذي أسسه الكاتب يوسف خليفة، بالتعاون مع مقهى من سلسلة مقاهٍ عالمية في الكويت عام 2009 لقراء عرب وأجانب، حيث كانت المناقشات تتم للكتب العربية ومجموعة أخرى تجتمع لتناقش الإنجليزية منها بواقع اجتماع مرة شهريا لكل منهما. يقول مؤسس الملتقى: تجربة نادي ديوان للقراءة أتت كمحاولة للإجابة على السؤال الأزلي: لماذا لا يقرأ الناس؟ فكانت الفكرة أن تذهب القراءة إلى الناس بدل انتظار حضورهم للأماكن الثقافية، هذا إذا افترضنا أن الجمهور الغفير في الفعاليات الثقافية دلالة على مجتمع قارئ ومثقف، حسبما يقول خليفة. وبالتعاون مع سلسلة مقاهٍ عالمية لها فروع في الكويت تم إنشاء النادي في عام 2009 لقراء عرب وأجانب، حيث كانت المناقشات تتم للكتب العربية ومجموعة أخرى تجتمع لتناقش الإنجليزية منها بواقع اجتماع مرة شهريا لكل منهما، وأيضا امتد النادي للأنشطة الاجتماعية والتعريف بالشخصيات الكويتية ذات الإنجازات الهامة محليا وعالميا عن طريق استضافتهم في لقاء مفتوح مع الجمهور من أعضاء النادي أو من حضر تلك اللقاءات، واشتمل النادي على جنسيات كويتية وغير كويتية وتنوعت الأعمار من 18 إلى 60 عاما، والقانون الوحيد الموجود بينهم هو احترام الآخر.

* صالون التعددية الثقافية

* وهناك أيضا نادي اليرموك الثقافي الذي أسسته الشيخة فضيلة الدعيج الصباح في ديوان منزلها، بدأ صالون اليرموك الثقافي نشاطه وفعالياته في موسمه الأول عام 2008، في منزل الشيخة فضيلة الدعيج الصباح، حيث كان قبل ذلك فكرة راودت الشيخة فضيلة الصباح التي تقول: «كان هدفي الأساسي جمع المثقفين والمفكرين من الأصدقاء والزملاء تحت سقف واحد، في لقاءات فكرية متنوعة ومختلفة، وتبادل المعلومات والمعارف والاستفادة الجماعية من تعدد هذه الثقافات وتفعيل الحراك الثقافي من فكر وأدب ومعرفة وعلم للرقي بالذوق العام في المجتمع، وتنمية الوعي الثقافي للفرد المتلقي لأمور حياتية كثيرة تهمه. والتواصل مع جميع مثقفي أطياف المجتمع ومفكريه حتى تعم الفائدة المرجوة من وجود هذا الملتقى لأنه استثمار يصب في صالح المجتمع».
وتقول إحدى المساهمات في تأسيس هذا الملتقى الكاتبة منى الشافعي: «استمر الصالون بتقديم أنشطته مساء كل يوم أحد من كل أسبوع منذ افتتاحه وحتى اليوم، بانتظام وحيوية وفاعلية ونجاح، واستضاف على مدى مواسمه الفائتة الكثير من المثقفين والمفكرين العرب من داخل الكويت وخارجها، وناقش الكثير من الموضوعات والأمور التي تهم شرائح كثيرة من المجتمع ولا يزال. يضم الصالون نخبة من المثقفين والمفكرين من جنسيات مختلفة وتخصصات متنوعة، وهذا ما اختصر المسافة بين تعدد الثقافات العربية».

* كتب عربية وإنجليزية

* ومن الملتقيات التي أدت دروا بارزا بجهود فردية، ملتقى أوركيد الثقافي الذي أسسته الدكتورة إقبال العلي، وهي هاوية للثقافة، ويعتمد الملتقى على منهج يقول: «أول ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم هو: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)». وتقول الكاتبة منى الشافعي التي أسهمت أيضا في هذا الملتقى: «بما أن العزوف عن القراءة وخصوصا عند الشباب أصبح ظاهرة نصطدم بها يوميا وهذه لها البدائل التكنولوجية، وليست فقط عندنا كعالم عربي أو خليجي، فهناك دول مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا أخذت تعاني من عزوف بعض مواطنيها عن القراءة، والتوجه إلى البدائل التكنولوجية الحديثة. وبالتالي أصبحت عندنا ظاهرة، وعند البعض أزمة، وعند الآخر حالة».
وتتحدث منى الشافعي عن الدوافع الأساسية لتأسيس هذا الملتقى فتقول: «نحن كمجموعة مثقفة محبة للقراءة بكل صورها وتفاصيلها، والاطلاع والانفتاح على ثقافات الشعوب الأخرى، أحسسنا أن من واجبنا القيام بعمل ثقافي مفيد للمجتمع. وهكذا وبرغبة صادقة وحماس جميل من هذه المجموعة سارعت الدكتورة إقبال العلي بوضع اللبنة الأساسية لهذا الملتقى الثقافي، وأطلقت عليه (ملتقى أوركيد الثقافي)، وبدأت المجموعة باختيار الكتب المتنوعة ومناقشتها على مدى أكثر من عام».
وكانت للملتقى، حسب الكاتبة منى الشافعي، أكثر من تجربة ناجحة بالاشتراك مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وذلك بإقامة ندوة حول أحد الكتب واستضافة الكاتب للمناقشة من الأعضاء والمدعوين والمهتمين، وأقيمت هذه الندوات في المكتبة الوطنية. الملتقى أيضا استضاف أكثر من كاتب وأديب حسب إمكاناته، حيث تعقد جميع ندواته الشهرية والأسبوعية في المقاهي المختلفة في الكويت، ذلك لأنه يعاني من عدم وجود مقر دائم للملتقى، وهذه أبرز التحديات. للملتقى عدة أنشطة، فهو في كل شهر يختار أحد الكتب باللغة العربية، لمناقشته، وأيضا في الشهر الذي يليه يتم اختيار كتاب باللغة الإنجليزية، وهناك نشاط شهري للقراءة الحرة، على كل عضو قراءة كتاب يعجبه ثم تلخيصه وعرضه على المجموعة في الاجتماع.
وعن الدور المتبادل في تأثير هذه الملتقيات بينها وبين المثقفين من الجنسيات المقيمة في الكويت، تقول رنا محمود، وهي لبنانية الجنسية وإحدى مؤسسات ملتقى أوركيد: «خلال تجربتي أجد أن الملتقيات الكويتية عالجت الفراغ الذي قد يعانيه المقيم وطورت إحساسه الثقافي وفتحت له أبوابا للتعرف على ثقافات متعددة عربية كانت أم أجنبية. فهذه الملتقيات والمنتديات أثرت فينا وأصبحنا أكثر قربا إلى المثقفين الكويتيين». وتتابع رنا بشجن: «في الوطن تسلب السياسة حب الثقافة.. في الكويت نجتمع من أجل كلمة نابضة وحروف وكتاب غلافه محبة.. هذا من المقومات الإنسانية التي اكتسبتها منذ أكثر من خمسة أعوام واكتسبت معها أصدقاء جمعتنا القراءة».
في ملتقى آخر يحمل اسم «روائع الأدب»، نجد للمرأة أيضا هذا الدور البارز في التأسيس، وذلك من خلال الكاتبة نجود الحساوي، فقد بدأ الملتقى بشخصين ثم تطور وضم أعضاء آخرين، وكان شرطهم الأولي أن لا يتجاوز سن المنتسب 18 عاما لكنهم اكتشفوا مواهب أقل من هذا العمر فقبلوه، وخرج من بينهم كتاب حصلوا على جوائز لاحقا، وهم يلتقون في المكتبات العامة عن هدف مسبق هو إحياء دور هذه المكتبات من جديد في حياة الناس.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!