هل يحبّ العراقيون غلغامش؟

ملحمته تمتلك حسّاً إنسانياً قريباً من ذائقة البشر بما في ذلك إنسان القرن الحادي والعشرين

لوحة تصويرية لمشهد من ملحمة غلغامش
لوحة تصويرية لمشهد من ملحمة غلغامش
TT

هل يحبّ العراقيون غلغامش؟

لوحة تصويرية لمشهد من ملحمة غلغامش
لوحة تصويرية لمشهد من ملحمة غلغامش

أظنّ أن الكثيرين منّا قد راودهم السؤال التالي: من هو الكاتب الأول في تأريخ البشرية الذي وصلتنا كتاباته، وصارت قراءته تقليداً راسخاً في مرجعياتنا الثقافية؟ ربما سيسارع الكثيرون لتسطير أسماء كُتّاب أولى الملاحم المعروفة: الإلياذة والأوديسة والإنياذة والشاهنامة والرامايانا... إلخ؛ لكن يبقى ثمة اسم يتقدّم كلّ هؤلاء من حيث سبقه الزمني، وريادته، والفكر الكامن في طبيعة موضوعاته. إنّه غلغامش، الملك والإنسان، صاحب أولى الملاحم البشرية المدوّنة على الحجر في التأريخ البشري.
تكتب مارغريت آتوود، الروائية العالمية المرموقة، في كتابها «مفاوضات مع الموتى» عن أول كاتب قصة في التأريخ فتقول: «ساد الاعتقاد بأن فرجيل أول كاتب يقوم بالرحلة إلى العالم السفلي، أي أنه قام بالرحلة ليرويها، وتروي مغامرات فيرجيل في الجحيم... ثم تقول: والآن أودُّ أن أطرح نموذجاً للكاتب المغامر تحت الأرض، الذي سبق النماذج السابقة بزمن طويل، إنه بطل بلاد الرافدين غلغامش؛ لكن القصيدة الملحمية التي كان بطلها غلغامش لم تفك شفرتها إلا في القرن التاسع عشر، ومن ثم قلما نزعم أنّ له تأثيراً على فيرجيل ودانتي؛ فهو إذن بمثابة قضية قياسية عن العلاقة الجوهرية بين الحافز على الكتابة وتدوين الأشياء وبين الخوف من الموت».
ثمّ تخلص آتوود إلى الخلاصة الجوهرية التالية: «غلغامش أول كاتب عرفته البشرية؛ فقد أراد معرفة أسرار الحياة والموت واخترق الجحيم، وعاد ولكنه لم يفز بالأبدية؛ فكلّ ما عاد به هو قصتان: الأولى قصة رحلته، والثانية قصة الطوفان، وهكذا فالشيء الوحيد الذي عاد به هو هاتان القصتان، عاد مكدوداً منهكاً ودوّن كلّ شيء على الحجر».
ملحمة غلغامش أكبر من كونها السردية الكبرى الأولى في تأريخ البشرية، ويمكن لقارئها أن يتفحّص توليفة من المستويات الفكرية فيها. أودّ هنا التأكيد على ثلاثة جوانب فحسب من تلك المستويات الفكرية التي تضمّها الملحمة الخالدة:
- الجانب الفلسفي
ثمة طائفة من الأسئلة المرتبطة بالوجود الإنساني تندرج تحت توصيف «الأسئلة الكبرى»؛ تلك الأسئلة التي تتعالى على الاختلافات البيولوجية والجغرافية بين المجموعات البشرية، وتكتفي بمساءلة الوجود البشري فحسب. تتمحور تلك الأسئلة الكبرى في تساؤلات جوهرية عدة هي موضوع كتابات فلسفية وعلمية ذائعة، ولعلّ من الصعب أن تخلو كتابات أي فيلسوف أو مهتمّ بالوجود البشري من مساءلة تلك «الأسئلة الكبرى»، وأحسبُ أنّ موضوعة «المعنى والغائية» في الحياة البشرية ستظلّ الموضوعة مفتوحة النهايات، التي سيُعاد تشكيلها تبعاً للفتوحات العلمية والتقنية المستجدة في كل عصر.
إنّ موضوعة غائية الحياة (والوجود الإنساني بعامة)، وكونها مرتبطة على نحو شرطي بتوفر معنى للوجود هي موضوعة فلسفية - سايكولوجية - لاهوتية مركّبة في المقام الأول، وليست أسبقية، أو ضرورة علمية، وإن كان العلم وقوانينه ووسائله توظّف بطريقة قسرية سيئة (أغلب الأحيان) في حمى الجدالات الفلسفية منذ عصر الفلسفة القروسطية، ومروراً بعصر التنوير الأوروبي حتى يومنا هذا. قد لا يُبدي بعض المُنافحين عن وجود معنى للحياة مقترن شرطياً بغائية فيها ولعاً بالتفاصيل الفلسفية؛ لذا نراهم يحاججون بتلك الحجة اللاهوتية الأزلية: كيف يمكن تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى؟ وهل ثمة إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل هذا العالم؟ هم يجادلون على هذا المنوال لأنهم يريدون مكافأة لكلّ فعل خيّر يفعلونه ولا يطيقون تصوّر عالم تنعدم فيه المكافأة المرتجاة من وجهة نظرهم.
يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا فحسب: قل كلمتك وافعل الخير، وابذل أقصى جهودك في فعل ما تحبّ وتهيم به شغفاً، ولا تنتظر مكافأة فورية أو مؤجّلة لكل فعل طيب تفعله، ولا تدنّس ضميرك الحي بصغائر الأفعال - هذا هو ما يخلع معنى على الحياة.
تمثّل (ملحمة كاكامش) العالمية أفضل تمثيل، الجوهر الكامن في العبارة الأخيرة، فضلاً عن تأكيدها لقيمة عيش اللحظة الراهنة، وعبّ رحيق الحياة المشتهاة على نحوٍ يجعلنا نمتلئ بطاقة أبيقورية يتوازن عندها التفكر في معنى الحياة وغائيتها مع اجتناء اللذة اليومية في العيش، ونحن إذ نفعل هذا ينبغي أن نضع في حسباننا أن اللذة ألوان شتى تتباين بحسب البصمة العقلية والسايكولوجية للفرد ورؤاه التي تشكّل مساره في الحياة.
- الجانب الإنساني
تمثّل ملحمة غلغامش نوعاً من الأنسنة الكاملة (أو شبه الكاملة على أقلّ تقدير) للوجود البشري؛ إذ أنّ شخوصها الفاعلين على المسرح الصراعي فيها إنما هم بشر مثلنا بعيدون عن الخصائص الخارقة التي تميّز الميثولوجيا الإغريقية وسواها من الميثولوجيات غير الرافدينية. تكمن أهمية هذه الصفة في جعل ملحمة غلغامش تمتلك دوماً حسّاً إنسانياً قريباً من ذائقة البشر (بما في ذلك إنسان القرن الحادي والعشرين) وبما يخلع على الملحمة شعوراً بالراهنية والصلاحية اللتين تستعصيان على التقادم أو الخفوت.
- الجانب التقني
تزخر الملحمة - بين ما تزخر به - بالشواهد التي تعكس الأثر الذي يمكن أن تساهم به التقنية في تطور الكائن البشري: (إنكيدو)، الكائن الوحشي الذي خلقته الآلهة ليصرع الطاغية غلغامش، تعلّم من الغانية (شمخت) فنّ الحب، كما كسته (شمخت) بقطعة نسيج من نصف ردائها وعرّفته على مذاق الخبز ولذعة النبيذ، وتمثلت تقنية الحضارة التي نقلتها المرأة في النسيج والخبز والنبيذ، وبها أيقظت الإنسان في إنكيدو بعد عيشه وحشاً مع الضواري.
أول قراءة لي لهذه الملحمة كانت بترجمة طه باقر، عالم الآثار العراقي الراحل الذي كان يُجيد اللغات الرافدينية القديمة. بهرتني الملحمة كترنيمة يتردد صداها في براري العالم، وتشير إلى مصائرنا البشرية المحتومة في مواجهة الموت، ثم بدأت أبحث عن ترجمات أخرى وصياغات مختلفة للملحمة العظمى حتى اجتمعت لدي 9 ترجمات لكبار المتخصّصين في الآداب الرافدينية، وآخرها ترجمة الآثاري الدكتور نائل حنون، المتخصّص باللغة الأكدية، وتتضمّن ترجمته تحليلاً لغوياً للنص الأكدي، فضلاً عن متن الملحمة ذاتها. صار تقليداً سنوياً لدي أن أعيد قراءة الملحمة بترجماتها المختلفة والدراسات الحديثة حولها للوقوف على الإضافات المستحدثة التي تلت ترجمة العلامة طه باقر، وقادتني قراءة الملحمة إلى شغف لتعلم الكتابة المسمارية؛ فاقتنيت كتاب «قواعد اللغة السومرية» للراحل الدكتور فوزي رشيد، ونجحت في تعلم بعض الرموز والعلامات، وتمرّنتُ بمفردي على كتابة صفحة أو اثنتين بالرموز المسمارية، وكنت أعيد التمارين بين حين وآخر بمتعة بالغة، واستطعت قراءة بضعة سطور من ملحمة غلغامش بخطها المسماري.
قادني شغفي بالملحمة الكبرى وفكرتها الصالحة لكل عصر إلى قراءة كتاب «مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» للراحل طه باقر، فتعرفت إلى: قصيدة الخليقة، وقصة الطوفان الملحقة بملحمة غلغامش، وقصيدة أدابا، وملحمة إيتانا، وحوارية السيد والعبد، ونصوص الحكمة المختلفة وقصائد الحب والغزل. استغرقتني قراءة النصوص الرافدينية سنواتٍ حتى اختمرت رؤاي الخاصة عن تلك النصوص ومفاهيمها.
ثمة أسئلة تمثل نوعاً من العذاب اليومي لي منذ بواكير نشأتي الثقافية والأدبية: لماذا لا يحبّ العراقيون - إلا القلة منهم - موروثهم الرافديني العظيم والحافل بأرقى ألوان الفكر والمعرفة ومساءلة أدقّ تفاصيل الوجود الإنساني؟ هل يحبّ العراقيون غلغامش؛ بل هل سمع به معظمهم، بخاصة من الأجيال اليافعة والشابة؟ هل يرون فيه مثالاً نوعياً راقياً يمكن توظيفه في الارتقاء بحسّ المواطنة العراقية الحقيقية بعيداً عن التمظهرات الفلكلورية الهشة واللحظوية التي تتصادى مع الفورات الشعبوية وتخفت بانطفائها؟ لماذا لم نجعل من ملحمة غلغامش مادة دراسية يتمّ صياغتها بطريقة مناسبة لكلّ مرحلة دراسية بطريقة تعزّز الانتماء الواعي للجغرافية العراقية بعيداً عن الانتماءات الفرعية الضيقة، وبكيفية توطّد شأن الثقافة والفكر والفلسفة في مواجهة الأنساق المنغلقة كيفما كان منبتها؟
تتبارى الأمم في توظيف أصغر العناصر المتاحة في رأسمالياتها الرمزية وأساطيرها من أجل تعظيم شأنها، واستخدامها في تعزيز قدراتها العلمية والتقنية والثقافية التي ستُترجم لاحقاً في شكل دور عالمي ذي مفاعيل مؤثرة؛ أما العراقيون فيهملون - أو يتناسون في أفضل الأحوال - كنوزهم الرمزية الثرية، ويستعيضون عنها بالجري اللاهث وراء سراب اليقينيات الموهومة.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن



أزمة تصوير جنازات الفنانين تعود إلى الواجهة في مصر

لقطة من جنازة الفنان الراحل سليمان عيد (حساب الفنانة بدرية طلبة على «فيسبوك»)
لقطة من جنازة الفنان الراحل سليمان عيد (حساب الفنانة بدرية طلبة على «فيسبوك»)
TT

أزمة تصوير جنازات الفنانين تعود إلى الواجهة في مصر

لقطة من جنازة الفنان الراحل سليمان عيد (حساب الفنانة بدرية طلبة على «فيسبوك»)
لقطة من جنازة الفنان الراحل سليمان عيد (حساب الفنانة بدرية طلبة على «فيسبوك»)

عادت أزمة تصوير جنازات الفنانين إلى الواجهة بمصر مجدداً، بعد تزاحم عدد كبير من المصورين بالهواتف المحمولة خلال تشييع جنازة الفنان المصري سليمان عيد، الجمعة، حيث لاحقت الكاميرات نجوم الفن، وأسرة الراحل، لتصوير لقطات خاصة أثناء دفن الجثمان.

وطالب عدد من الفنانين بمنع تصوير الجنازات، خصوصاً أن هوية المصور ليست معلومة؛ حيث كتب الفنان المصري طه دسوقي عبر حسابه بموقع «فيسبوك»، منتقداً ما يحدث، وتساءل: «ما السبق الصحافي في تصوير جثمان... ولماذا يتم التصوير داخل المقابر؟».

ووجَّه دسوقي سؤاله للعاملين في المجال الإعلامي، قائلاً: «كيف يمكنني التعامل مع مَن يُصورني في حياتي اليومية، وأثناء حضوري مناسبات ليست لها علاقة بمجال عملي، وهل أتعامل معه على أنه صحافي أم متحرش؟».

كما عبَّرت الفنانة المصرية بدرية طلبة عن استيائها، وكتبت عبر حسابها بموقع «فيسبوك»: «مهزلة الجنازات وصلت إلى تصوير النعش وما بداخله، من أجل أسبقية النشر والحصول على مشاهدات، من دون اعتبار لحرمة الميت».

وتساءلت بدرية: «مَن هؤلاء؟ ولماذا يوجدون ويزاحمون أهل وأصدقاء المتوفى؟ وطالبت طلبة بالاطلاع على الأوراق التي تُثبت أن مَن يقوم بالتصوير صحافي أم أشخاص يتتبعون الجنازات للتصوير من أجل الربح».

الفنان الراحل سليمان عيد (حسابه بموقع «فيسبوك»)

ويؤكد الناقد الفني المصري رامي المتولي أن «ما يحدث هو ظاهرة سلبية»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «مَن يقوم بهذا الأمر ليست لهم علاقة بمهنة الصحافة، وليسوا صحافيين بالأساس»، وإن كان المتولي يرى أن «جنازات وعزاءات المشاهير عموماً لا بد من توثيقها، من خلال التصوير الفوتوغرافي والفيديو، ولكن دون إزعاج أو محاولة انتهاك الخصوصية، أو البحث عن سبق على حساب مشاعر الحزن التي تُخيّم على المكان».

وقبل عام، نشرت مواقع صحافية محلية لقطات من جنازة الفنان الراحل صلاح السعدني، ولنجله الفنان أحمد السعدني الذي انفعل بدوره على المصورين الذين تزاحموا خلال الجنازة وطالبهم بالابتعاد.

في حين طالبت نقابة الممثلين، في بيان لها بالتزامن مع أزمة تصوير جنازة السعدني، بعدم وجود الصحافيين والمراسلين في عزاء الفنان الراحل بناءً على رغبة أسرته.

وأكد بيان النقابة أن الفنان أشرف زكي سيضع شروطاً لحضور مراسم الدفن أو الجنازات سيتم الاتفاق عليها بين نقابتي الممثلين والصحافيين.

كما أصدرت وزارة الأوقاف أيضاً بياناً بمنع التصوير في أي جنازة، سواء حال دخولها أو خروجها وأثناء الصلاة على المتوفى، مراعاة لحرمة المسجد وحرمة الميت ومشاعر أهله.

لكن نقابة الصحافيين رفضت قرار «الأوقاف»، موضحة أنه ليس لأي جهة أو شخص الحق في حظر التصوير، وأن ذلك مخالف لنصوص الدستور والقانون، الذي يتيح لهم ممارسة العمل دون رقابة، وأن وضع القواعد من اختصاصها؛ حيث اجتمعت حينها مع نقابة الممثلين لتحديد ضوابط التصوير.

لقطة من جنازة الفنان الراحل سليمان عيد (صورة متداولة على «فيسبوك»)

في السياق؛ كتبت الشاعرة منة القيعي عبر حسابها بموقع «فيسبوك»، تعليقاً على الأزمة المثارة: «أتمنى من الدولة إصدار قرار بمنع الصحافة من الحضور والتصوير والنشر في العزاء والجنازات».

وفي حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أشار المتولي إلى أنه يجب تحديد مكان للمصورين، وعدم الاختلاط مع الحاضرين، والحفاظ على خصوصيتهم، وتقدير قيمة الحدث، وما يجري خارج هذا الإطار فليست له علاقة بالصحافة.

ويلفت الناقد الفني إلى أن «تغطية كثير من الصحافيين للجنازات تتم بشكل مهني، لكن وجود أفراد غيرهم لا يملكون ثقافة التعامل يعوق عملهم؛ ما يؤدي لاختلاط الأمور».