مواقف لندن وبروكسل تنذر بمفاوضات تجارية صعبة

جونسون لدى إلقائه خطاباً حول العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في لندن أمس (د.ب.أ)
جونسون لدى إلقائه خطاباً حول العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في لندن أمس (د.ب.أ)
TT

مواقف لندن وبروكسل تنذر بمفاوضات تجارية صعبة

جونسون لدى إلقائه خطاباً حول العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في لندن أمس (د.ب.أ)
جونسون لدى إلقائه خطاباً حول العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في لندن أمس (د.ب.أ)

حذّر الاتحاد الأوروبي، أمس، المملكة المتحدة، من محاولة الانخراط في منافسة غير عادلة، لكنه عبّر عن استعداده لمناقشة «اتفاق تجاري طموح للغاية» مع لندن. وبعد انتهاء عضوية استمرت 47 عاماً، بات يتوجب على الطرفين الاتفاق على الأساس الجديد لهذه العلاقات، خصوصاً في الشق التجاري؛ النواة الصلبة للمحادثات.
وقال المفاوض الرئيسي للاتحاد الأوروبي ميشال بارنييه، الذي قدم رؤيته في بروكسل حول مستقبل العلاقة مع لندن، «نحن مستعدون لاقتراح اتفاق تجاري طموح للغاية ركيزة أساسية للشراكة». وأضاف أن هذا الاتفاق يهدف خصوصاً إلى إزالة جميع الرسوم الجمركية، وحصص السلع المتبادلة بين بريطانيا والاتحاد، وهذا مقترح لم يسبق أن طرحه الاتحاد مع شركائه. لكن المسؤول أكد أنه لا يمكن للاتحاد الأوروبي قبول وجود اقتصاد محرر بالكامل بجواره، يستفيد من «امتيازات تنافسية غير عادلة».
من جهته، حرص رئيس الحكومة البريطاني على الإشارة إلى أن بريطانيا لن تنخرط في «منافسة غير عادلة» مع الاتحاد الأوروبي. وشدد بارنييه على ضرورة إبرام اتفاق حول «آلية تسمح بالحفاظ على المعايير العالية التي نتبناها في المجال الاجتماعي والبيئي والمناخي والجبائي، وفي المساعدات التي تقدمها الدولة للشركات».
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، «كلما أرادت المملكة المتحدة الاقتراب أكثر (من المعايير)، يكون نفاذها للسوق الموحدة أسهل، لكن لا شيء مجاني (...) أظن احترام القواعد مسألة إنصاف».
وذكّرت فون دير لايين، أن بوريس جونسون وقّع الإعلان السياسي الذي رافق اتفاقية الخروج. وقالت بخصوص هذا الإعلان الذي يذكر خصوصاً مبدأ المنافسة العادلة بعد «بريكست»، «نحن متأكدون أنه سيلتزم بها».
ويجب على المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي الاتفاق على صيغة جديدة للعلاقات بينهما، خصوصاً فيما يتعلق بالشق التجاري الذي يمثل محور النقاشات.
لكن، يسود التوتر الأجواء، إذ أعلن جونسون أن بلاده سترفض اتفاقاً يفرض عليها أن تواصل احترام بعض قوانين الاتحاد، حسب خطابه حول رؤيته لبريطانيا بعد «بريكست». وحسب مقتطفات الخطاب، «فليس هناك حاجة لاتفاق تبادل حر يتضمن قبول قواعد الاتحاد الأوروبي في مجال المنافسة والمساعدات والضمان الاجتماعي والبيئة ومواضيع أخرى».
من جهته، سيتوجه وزير الخارجية دومينيك راب، في الأسبوعين المقبلين، إلى أستراليا واليابان وسنغافورة وماليزيا لبحث شؤون التجارة. وقال راب أمام النواب إن «أهم شيء بالنسبة لعام 2020 هو أنه بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي في بداية العام، سنكون قد استعدنا الاستقلال الاقتصادي والسياسي الكامل بحلول النهاية. هذا عندما تنتهي الفترة الانتقالية، ولن يتم تمديدها».
يعلم ميشال بارنييه العقبات التي تحيط بالملف، فقد قاد مفاوضات «بريكست» حول شروط الانفصال لأكثر من عامين. ما يزيد من صعوبة الأمور، أن هذه المفاوضات ستجري بوتيرة ماراثونية، لأن بريطانيا متمسّكة بفترة انتقالية تنتهي بعد 11 شهراً، ستواصل خلالها تطبيق القواعد الأوروبية.
وستصادق الدول الأعضاء على مهمة بارنييه التفاوضية في نهاية فبراير (شباط)، ولن تبدأ المفاوضات رسمياً إلا في مطلع مارس (آذار). وستتناول المفاوضات، بشكل أساسي، الشراكة الاقتصادية، خصوصاً اتفاق التبادل الحر، ومسائل الأمن والإجراءات القضائية المزمعة من أجل حل الخلافات.
وبالنسبة للأوروبيين، فإن الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة التي تضم حوالي 440 مليون مستهلك، سيكون مشروطاً باحترام المعايير الأوروبية. وهذه السوق مهمة جداً للندن، لأن الاتحاد الأوروبي يبقى أول شريك تجاري لها.
ويريد الأوروبيون إجراء المفاوضات بشكل موازٍ حول كل المواضيع، بهدف الحد من مخاطر الانقسامات التي يمكن أن يستفيد منها البريطانيون. وسيكون ملف الصيد البحري الذي وعد الطرفان بالتوصل إلى اتفاق حوله قبل الأول من يوليو (تموز) أحد المواضيع الحساسة جداً خلال عملية المفاوضات. ويعتمد صيادو الأسماك من عدة دول أعضاء، مثل فرنسا والدنمارك، على المياه البريطانية، التي تشكل أيضاً 30 في المائة من رقم أعمال الصيادين الفرنسيين.
وذكّر بارنييه أن «تهديد القطيعة الأخطر» يتعلق بملف الصيد البحري، واعتبر أنه يجب في المستقبل ضمان «نفاذ متبادل للأسواق الأوروبية (بالنسبة للبريطانيين) وللمياه (بالنسبة لدول الاتحاد) وفق حصص ثابتة».
وشدد المسؤول الأوروبي على أن تسوية هذا الملف «لا يمكن فصلها» عن الوصول إلى اتفاق تجاري.
ويعتمد صيادو عدة دول، على غرار فرنسا والدنمارك، على المياه البريطانية التي توفر 30 في المائة من حجم مبيعات الصيادين الفرنسيين. من جهته، أكد جونسون أن «استعادة السيطرة» على مياه الصيد، ترتدي أهمية كبرى، ووعد «بسياسة صيد وطنية رائعة جديدة».
ويمكن أن يشكل الصيد عملة مقايضة خلال هذه المحادثات، على سبيل المثال من أجل وصول الخدمات المالية البريطانية التي تعتبر أساسية جداً لحي المال في لندن، إلى القارة. وحذرت باريس من أن فرنسا «ستكون متيقظة جداً» حيال هذه المسألة.
وستنشر حصيلة أولى للمحادثات في نهاية يونيو (حزيران)، ما يمكن أن يتيح تقييم مخاطر «عدم التوصل إلى اتفاق»، وهو شبح لا يزال يخيم على المحادثات مثيراً مخاوف من عواقب كارثية لذلك.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟