عبد العزيز السماعيل: المسرح السعودي عائد بقوة والمرأة ستثبت حضورها على الخشبة

رئيس «المسرح الوطني» يقول إنه سيتم الاستثمار في الثقافة المسرحية حتى يقل الاعتماد على الدولة

الأمير بدر بن عبد الله وزير الثقافة السعودي، وعبد العزيز السماعيل،  رئيس المسرح الوطني خلال تدشين مبادرة المسرحِ الوطني بالرياض (تصوير سعد الدوسري)
الأمير بدر بن عبد الله وزير الثقافة السعودي، وعبد العزيز السماعيل، رئيس المسرح الوطني خلال تدشين مبادرة المسرحِ الوطني بالرياض (تصوير سعد الدوسري)
TT

عبد العزيز السماعيل: المسرح السعودي عائد بقوة والمرأة ستثبت حضورها على الخشبة

الأمير بدر بن عبد الله وزير الثقافة السعودي، وعبد العزيز السماعيل،  رئيس المسرح الوطني خلال تدشين مبادرة المسرحِ الوطني بالرياض (تصوير سعد الدوسري)
الأمير بدر بن عبد الله وزير الثقافة السعودي، وعبد العزيز السماعيل، رئيس المسرح الوطني خلال تدشين مبادرة المسرحِ الوطني بالرياض (تصوير سعد الدوسري)

أطلق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود وزير الثقافة السعودي الثلاثاء الماضي، مبادرة المسرح الوطني، في حفل فني ومسرحي بمركز الملك فهد الثقافي بالرياض، بحضور مجموعة من الفنانين والمثقفين والمهتمين بالفنون المسرحية من المملكة والعالم العربي.
وأعلن الأمير بدر أن «رؤية المملكة 2030 تنظر إلى الثقافة بوصفها (من مقوّمات جودة الحياة)، لذا فإن وزارة الثقافة ملتزمة بدعم الحركة المسرحية وتمكين المسرحيين من أداء رسالتهم وفتح مساحات أرحب لإبداع السعوديين»، مؤكداً أن وزارة الثقافة تسعى لأن يكون المسرح الوطني قائداً للإبداع في الفنون الأدائية، وبناء القدرات البشرية لصناعة مسرحية محلية بجودة عالمية، مشدداً على أهمية الشراكة مع المسرحيين السعوديين في تحقيق أهداف المبادرة، «فمن خلالهم سنحقق الأهداف وسنتجاوز الصعوبات معاً، لنبني بنية ثقافية مستدامة».
الكاتب والسيناريست والفنان عبد العزيز السماعيل، قضى أكثر من 45 عاماً من عمره على خشبة المسرح، ممثلاً ومؤلفاً ومخرجاً وناقداً ومُحَكّمَاً وإدارياً ومشرفاً، حمل هموم المسرح ومعاناة المسرحيين على ظهره، وقدم أعمالاً مهمة كمسرحية «تراجيع» ومسرحية «الملقن»، حتى مسرحيته الشهيرة «موت المغني فرج باللغة».
وفي الحوار التالي مع «الشرق الأوسط» يتحدث السماعيل، عن مبادرة «المسرح الوطني» وسبل تفعيلها وعلاقتها بالفرق المسرحية، ودور المسرح حاضناً للإبداع الفني:> هل يمكنك أن تحدثنا عن مبادرة المسرح الوطني... ماذا تمثل؟ ما مكوناتها؟
- مبادرة المسرح الوطني إحدى المبادرات التي أطلقتها وزارة الثقافة بعد إعلان استراتيجيتها في 27 مارس (آذار) 2019، حيث تم بعد ذلك صدور قرار الأمير بدر وزير الثقافة بتعييني رئيساً للمبادرة، إلى جانب مبادرة الفرقة الوطنية للموسيقى بتاريخ 2 أبريل (نيسان) 2019، ومنذ ذلك التاريخ بدأنا في التخطيط والدراسة، ومن ضمن ذلك البحث عن تجارب العمل وأساليب الإنتاج في أهم المسارح الوطنية في العالم، حتى توصلنا إلى دراية شاملة بأهم تلك التجارب وكيفية الاستفادة منها...
> كيف تتلخص رؤيتكم للمسرح... كمؤسسة وليس كمسرحيين؟
- إنه استثمار بعيد المدى، المسرح فنّ بحجم الحياة تماماً، لا أقل ولا أكثر، وما تراه على الخشبة دائماً هو القائم الآن وهنا في هذا الوقت، هذا هو سر المسرح...
وبناء عليه تمت صياغة المسودة الأولى لخطة المسرح الوطني ورؤيته لتنسجم مع رؤية المملكة 2030 كمشروع ثقافي يشمل التدريب والتطوير والعمل الثقافي للمسرح وفنون الأداء، وليس الإنتاج المسرحي فقط...
> هل لهذا السبب تم تغيير الاسم؟
- نعم، تمّ تغيير الاسم من «مبادرة الفرقة الوطنية للمسرح» إلى «المسرح الوطني» ليكون منسجماً مع هذا الهدف...
> كيف يمكن أن تحتوي المبادرة أشكال العمل المسرحي؟
- لأن المسرح وفنون الأداء أشكال وصيغ فنية وثقافية متنوعة، ولها نفس الأهمية والترابط مع بعضها، تم تقسيم العمل عليها إلى عدة مسارات متوازية لتحقيق شمولية في دعم وتطوير المسرح الوطني السعودي ليكون بالفعل منصة للإبداع المسرحي وفنون الأداء؛ منها الإنتاج المسرحي (ويشمل كل أنواع فنون المسرح)، والإنتاج المسرحي بالتعاون مع الفرق المحلية، والتدريب والتطوير، وتنظيم المهرجانات، ومسرح الطفل، والدراما في التعليم، والمسار الثقافي...
وكل واحد من هذه المسارات تتفرع منه خطط وبرامج متنوعة تصب في النهاية في مفهوم المسار نفسه...
> دعنا نتحدث عن «الإنتاج» مثلاً، أو «المهرجانات»...
- الإنتاج سيكون بالتعاون مع الفرق المحلية، وسوف يتم سنوياً إنتاج عدد من العروض المسرحية تزيد سنوياً من خلال الفرق المحلية بتوفير الدعم المادي اللازم لها ومساندتها في تطوير تجاربها في أكثر من مدينة ومحافظة داخل المملكة، بينما تنظيم المهرجانات يشمل المهرجانات المحلية والدولية بأنواعها، ومسار الإنتاج يشمل المسرح للكبار والأطفال والمسرح الغنائي والأوبرا والمونودراما ودراما التعليم، والمسار الثقافي سوف يشمل التأليف والترجمة وطباعة النصوص... إلخ.

مهرجان ومسابقة 2020
> هل سيقوم المسرح الوطني بتنظيم مهرجانات وإطلاق جوائز مسرحية؟ في هذه الحالة؛ هل سيكون بديلاً عن المؤسسات التي تنظم المهرجانات المسرحية؟
- لا توجد الآن مؤسسات تنظم مهرجانات باستثناء عدد محدود جداً في بعض فروع الجمعية، إضافة إلى قلة الدعم والمساندة المالية لها، لذلك سوف يقوم المسرح الوطني بدوره في تنظيم مهرجانات محلية ودولية تليق باسم المملكة وبالمسرح السعودي من ناحية الإعداد والتنظيم، وسوف نبدأ هذا العام بتنظيم مهرجان وطني للعروض المسرحية وفنون الأداء في مدينة الرياض ليستمر متجولاً بعد ذلك على أهم المدن في المملكة كل عام. وسوف نعلن أيضاً في 2020 عن أولى مسابقات المسرح الوطني لتأليف النصوص المسرحية للكبار والأطفال، ولها جوائز قيمة لتكون قاعدة بيانات مهمة للكتاب السعوديين وتأسيس مكتبة مسرحية سعودية.
> ماذا تضيف هذه المبادرة للمسرح السعودي؟ أنت تعلم أن المسرح المحلي يعاني من إهمال من المؤسسات، حتى إنه لا يملك مسرحاً...
- سوف يضيف المسرح الوطني الكثير للمسرح السعودي، خصوصاً أن تجربة المسرح السعودي قبل ذلك - رغم أهميتها والجهود العظيمة التي بذلت فيها من المسرحيين السعوديين - كانت معتمدة في الغالب على الجهود الفردية وشبه الفردية ولم تتوفر لها البنية التحتية اللازمة ولا الدعم المالي الكافي، إضافة إلى ندرة الكوادر المتخصصة في دراسة المسرح.
> ما علاقة هذه المبادرة بالفرق المسرحية الناشطة؟
- يمكن أن أقول بوضوح إن المسرح الوطني سوف يعتمد على الفرق المحلية في الإنتاج كعنصر أساسي في أكثر من مسار بما في ذلك الدراما في التعليم، ليس بهدف توفير عدد من العروض ذات جودة عالية فقط في مختلف مناطق المملكة، بل للمساهمة في تطوير تلك الفرق جنباً إلى جنب مع تطور المسرح الوطني، والاستفادة من الخبرات المتميزة لدى البعض منها في مجال التمثيل والإخراج والتأليف وحتى التدريب والتطوير.
>... وكيف ستتعامل المبادرة مع جمعية المسرحيين وجمعيات الثقافة والفنون؟
- جمعية المسرحيين وجمعية الثقافة والفنون وكل المؤسسات الثقافية القائمة حالياً أصبحت من مسؤولية وزارة الثقافة، وهي تعمل الآن على تحقيق دراسة شاملة لمستقبل كل الجمعيات والمؤسسات الأهلية المعنية بالثقافة.
> تقولون إن المبادرة ستمثل حجر الأساس لتوفير منصة للإبداع المسرحي وفنون الأداء... هل لديكم تصور لكيفية احتضان هذه الفنون وتقديمها؟
- تصورنا لتحقيق تلك الأهداف سوف ينمو تدريجياً ويتطور في كل عام مستعينين بالكادر السعودي المتوفر وبعض الخبرات اللازمة من الدول العربية والأجنبية حتى تكتمل سعودة قطاع المسرح والإنتاج بالكامل. وكما قلت عمل المسرح الوطني سوف يوزع على مسارات متوازية في كل أشكال المسرح وفنون الأداء، بحيث نضمن جودة الإعداد وتصميم خطط العمل لكل مسار وتفرعاته على حدة قبل التنفيذ، بهدف الحصول على مخرجات ناجحة، وتقييم واضح للأداء في كل عناصر العمل منذ البداية وحتى النهاية.
> وكيف ستكون علاقة المسرح الوطني بالجمهور السعودي؟
- نحن نؤمن بأن المسرح فن وظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى؛ وقد وضعت أساس رؤية المسرح الوطني على اعتبار أن الجمهور المحلي هو الهدف الأول وحتى العاشر، وسوف نستهدف الجمهور المحلي بتقديم أعمال راقية جاذبة له وممتعة ومفيدة، ومن أجل ذلك سوف نستلهم من عمق تراثنا وتقاليدنا وثقافتنا الأصيلة قضايانا الملحة في النص وعروضنا المسرحية لنعزز معاً نحن والجمهور الهوية الخاصة للمسرح السعودي دائماً، ومن دون أن نغفل أهمية الاستفادة والتفاعل مع أهم التجارب العالمية الحديثة.
> هناك ما يسمى الاستثمار في الثقافة... ماذا تقول عن ذلك؟
- نحن أيضاً سوف نستثمر في الثقافة المسرحية، وفي الإنتاج وتقديم العروض، هذا مهم ليس فقط من أجل استدامة عطاء المسرح وتطويره، بل من أجل بناء علاقة تبادلية محفزة بين المسرح والجمهور أيضاً، وتوفير دخل ذاتي مهم للمسرح والعاملين فيه، بحيث يقل تدريجياً الاعتماد الكلي على دعم الدولة الكامل للمسرح، وذلك أحد أهم أهداف رؤية المملكة 2030 لمشروع الثقافة المستدامة.
> قلت إن المبادرة تتجه لتنشيط التدريب والتطوير في مجال المسرح، هل هناك أكاديمية للفنون المسرحية؟
- يعدّ مسار التدريب والتطوير من أهم المسارات التي سيعمل عليها المسرح الوطني لأنه يحقق الفائدة ويخدم كل المسارات ومن ضمنه تصميم وتنفيذ برامج طموحة لاكتشاف المواهب المسرحية السعودية قيد الدراسة حالياً، تمهيداً لإطلاقه في عام 2021 بإذن الله، أما الدراسات المتخصصة في مختلف علوم المسرح ومنها البرامج متوسطة وبعيدة المدى فسوف تكون من مسؤولية برنامج الابتعاث الذي أطلقته الوزارة مؤخراً، إضافة إلى الأكاديميات الفنية التي تضمنتها استراتيجية وزارة الثقافة.
> ماذا بشأن مشاركة المرأة في الأداء المسرحي؟
- بلا شك سوف يضفي حضور المرأة على خشبة المسرح بهجة وقوة على العروض المسرحية، فهي المكمل والعنصر الناقص دائماً في مسرحنا سابقاً، ولكن حضورها سيكون حضوراً جاداً وراقياً منسجماً مع عاداتنا وتقاليدنا، لتكون شريكاً بالكامل في المنعطف الذي سوف يسلكه مسار المسرح الوطني.

المسرح السعودي... بداية متأخرة ومسيرة متعثرة... ومستقبل واعد
> تاريخياً، بدأ المسرح السعودي متأخراً عن أمثاله في العالم العربي، وحتى في بعض دول الخليج، ورغم الحراك الثقافي السعودي، ظلّ المسرح متعثراً وبطيء النمو، ومتأخراً في النشأة والتأسيس، بسبب الموقف العام من الفنون الأدائية والبصرية، شأنه شأن السينما، فقد تأسس المسرح العربي قبل نحو 160 عاماً على يد مارون النقاش (1817 - 1855) الذي قدم أول مسرحية عربية عام 1847 في بيروت حملت اسم «البخيل»، لكن هذا الفن احتاج لأكثر من قرن ليتبرعم وينمو ببطء في السعودية، وقد أدى التواصل مع الحواضر الثقافية العربية خصوصاً في مصر لبروز تجارب مسرحية خاصة في الحجاز، وكان أول نص مسرحي ألفه الشاعر حسين عبد الله سراج عام 1932، وهو العام الذي أعلن فيه توحيد السعودية. كان الشاعر حسين سراج أول من كتب المسرحية الشعرية، بفعل تأثره بالتجربة المصرية، وقد كتب المسرحية الشعرية «الظالم نفسه» عام 1932 ومسرحية «جميل بثينة» عام 1943 ومسرحية «غرام ولادة» عام 1952، كما كتب مسرحية «الشوق إليك» عام 1974.
وكتب الدكتور عصام خوقير المسرحية النثرية «الدوامة» عام 1959، ومسرحية «السعد وعد»، كما كتب عبد الله عبد الجبار مسرحية «العم سحنون» و«الشيطان الأخرس» عام 1945. وكتب أحمد عبد الغفور عطار مسرحيتي «الهجرة» و«الملحمة» 1946. وألف محمد مليباري نصَي «مسيلمة الكذاب» و«فتح مكة» 1960. وعاد عصام خوقير بنص «الليل لما خلى»، وكتب إبراهيم حمدان نص مسرحية نسائية بعنوان «مونوكليا».
وقد شهدت نهاية الخمسينات أولى بوادر التجربة المسرحية السعودية، حين أسس أحمد السباعي مسرح قريش في مكة المكرمة، وقام بتأسيس فرقة مسرحية في مكة، ومدرسة للتمثيل، أطلق عليها اسم «دار قريش للتمثيل الإسلامي»، واختار مسرحية «صقر قريش» لتعرض في ليلة الافتتاح (1960)، لكنّ هذه التجربة تعرضت للإجهاض قبل أن ترى النور.
ومع تأسيس جمعية الفنون الشعبية عام 1970، تلاه إنشاء قسم الفنون المسرحية بالرئاسة العامة لرعاية الشباب عام 1974، وتأسيس الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، أخذ الاهتمام بالمسرح يتصاعد، وبرز دور جمعية الثقافة والفنون راعياً للتجارب المسرحية، التي اتخذت صبغة اجتماعية في عروضها ومواضيعها.
وقد أرست «رؤية السعودية 2030» انطلاقة جديدة للثقافة السعودية باعتبارها من أهم محركات التحول الوطني نحو التنمية البشرية. وأطلقت وزارة الثقافة حزمة مبادرات تتضمن 27 مبادرة (تنتمي إلى 16 قطاعاً ثقافياً) لتكريس الثقافة نمط حياة في المجتمع، والثقافة من أجل النمو الاقتصادي، والثقافة من أجل تعزيز مكانة المملكة الدولية... ونصّت المبادرة السادسة على تأسيس «الفرقة الوطنية للمسرح».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.