بعد الاحتفالات اليوم بـ«بريكست»... بريطانيا تدخل مرحلة شاقة من المفاوضات

عالم الأعمال يحذر من الانتقال إلى حقبة جديدة من عدم اليقين

أعلام بريطانيا تزين الشوارع قرب مبنى البرلمان أمام تمثال وينستون تشرشل احتفالاً بـ«بريكست» (أ.ب)
أعلام بريطانيا تزين الشوارع قرب مبنى البرلمان أمام تمثال وينستون تشرشل احتفالاً بـ«بريكست» (أ.ب)
TT

بعد الاحتفالات اليوم بـ«بريكست»... بريطانيا تدخل مرحلة شاقة من المفاوضات

أعلام بريطانيا تزين الشوارع قرب مبنى البرلمان أمام تمثال وينستون تشرشل احتفالاً بـ«بريكست» (أ.ب)
أعلام بريطانيا تزين الشوارع قرب مبنى البرلمان أمام تمثال وينستون تشرشل احتفالاً بـ«بريكست» (أ.ب)

غادر الأعضاء البريطانيون برلمان ستراسبورغ الأوروبي، مساء الأربعاء، بلا رجعة. إلا أن غاي فيرهوفشتات، منسق خروج بريطانيا من التكتل (بريكست) بالبرلمان، وجَّه التحية لهم قبيل التصويت. وقال الليبرالي الهولندي مخاطباً لندن: «سنفتقدك». ومع ذلك حث البرلمان على الموافقة على التشريع لتفادي خروج «قاسٍ» لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وأضاف: «من المحزن أن نرى مغادرة دولة حررتنا مرتين، وقدمت الدماء مرتين لتحرير أوروبا»؛ لكن البرلماني يتوقع أن تعود بريطانيا في النهاية إلى الاتحاد الأوروبي. وتابع فيرهوفشتات: «هذا تصويت وليس وداع. إنه كقول (إلى اللقاء) فقط».
وفور الانتهاء من احتفالات «بريكست» بنهاية هذا اليوم، ستبدأ المفاوضات حول مستقبل علاقة بريطانيا مع دول الاتحاد الـ27. وهي عملية قد تكون شاقة مثل السنوات الثلاث والنصف التي تلت الاستفتاء في يونيو (حزيران) 2016.
ووعد رئيس الوزراء بوريس جونسون بإبرام اتفاقات تجارة حرة ثنائية مع الولايات المتحدة واليابان، ودول كبرى أخرى غير تابعة للاتحاد الأوروبي. وقال في رسالة بمناسبة العام الجديد: «في أول فبراير (شباط) سنكون خارج الاتحاد الأوروبي، وسنكون أحراراً في رسم مسارنا كدولة ذات سيادة، ونستعيد السيطرة على أموالنا وقوانيننا وحدودنا وتجارتنا». لكن عندما يتعلق الأمر برسم مستقبل مشترك مع بروكسل، فربما لا يكون الأمر بهذه البساطة.
وفي تسجيل مُسرب، تحدث كبير المفاوضين في الاتحاد الأوروبي، ميشال بارنييه، عن العمل من أجل «الحد الأدنى الأساسي» خلال الإطار الزمني المحدد. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين، إنه يجب على بروكسل أن تكون جاهزة في الأسابيع المقبلة. ويقول فابيان زوليج، كبير الاقتصاديين في مركز دراسات السياسة الأوروبية، إن إبرام اتفاق تجاري سيكون على رأس أولويات الاتحاد الأوروبي؛ لكن في الوقت الحالي، لا أحد متأكد مما يريده جونسون.
عملياً، سيتغير القليل أثناء فترة الانتقال التي تمتد إلى 11 شهراً على الأقل؛ حيث سيظل قانون الاتحاد الأوروبي مطبَّقاً على بريطانيا.
وقال سيمون أشروود، محلل سياسي بجامعة ساري، للوكالة الألمانية للأنباء: «عملية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي ستمثل تغييراً جوهرياً بشكل لا رجعة فيه؛ لكن علينا أن نتذكر أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يتحقق إلى حد كبير. وبدلاً من ذلك ستتحول بريطانيا الآن إلى مرحلة أطول كثيراً من (البريكست)». وبالإضافة إلى اتفاق تجاري، هناك حاجة إلى اتفاق بشأن الأمور المعقدة والحاسمة محلياً، مثل الصيد البحري، وتبادل البيانات والخدمات المالية.
وقال فابيان زوليج، لوكالة الأنباء الألمانية: «11 شهراً هي ببساطة جدول زمني مستحيل. إن أفضل ما يمكننا إدارته هو اتفاق أساسي للغاية».
وفي بريطانيا، حث «معهد المديرين» جونسون على نشر أهداف مفاوضاته بشأن «بريكست» ، محذراً من أن الغموض يعوق الاستثمار، ويشجع الشركات على تحويل إنتاجها إلى أماكن أخرى. وفي حين أن الأغلبية البرلمانية الحاسمة لزعيم حزب المحافظين في الانتخابات التي جرت في ديسمبر (كانون الأول)، جلبت ارتياحاً مبدئياً للشركات، من خلال توفير الوضوح بشأن تاريخ خروج بريطانيا، فإن الانتقال إلى مرحلة المفاوضات المستقبلية يفتح حقبة جديدة من عدم اليقين.
ورفض جونسون استبعاد السماح بانقضاء الفترة الانتقالية من دون التوصل لاتفاق، إذا كان لا يمكن التوصل إلى اتفاق في الوقت المناسب. وربما يأمل في أن إمكانية الوصول لحافة الهاوية بنهاية 2020 ستحفز بروكسل على العمل سريعاً؛ لكن المحللين يحذرون من أن تهديد بريطانيا الضمني يمكن أن تكون له آثار عكسية؛ حيث إنها ستخسر أكثر من الاتحاد الأوروبي.
وأحد القضايا الأكثر ضبابية في الوقت الراهن هي: إلى أي مدى تختار بريطانيا الابتعاد عن لوائح الاتحاد الأوروبي التي أصبحت ملزمة بها حالياً، بدءاً من عام 2021؟ وتخشى دول الاتحاد الأوروبي الـ27 الباقية أن لندن قد تخفض المعايير الاجتماعية والبيئية، لتمنح نفسها ميزة على حساب الدول الأخرى في القارة. وأثار وزير الخزانة، ساجد جاويد، الدهشة هذا الشهر، عندما قال لصحيفة «فايننشيال تايمز» إنه لن يكون هناك توافق مع قواعد الاتحاد الأوروبي بعد «بريكست»؛ إلا أنه تراجع في وقت لاحق، وقال في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس الأسبوع الماضي، إن الابتعاد عن قواعد الاتحاد الأوروبي «لا يعني أن بريطانيا ستعمد إلى الانحراف في حد ذاته». وخلال الأسابيع القلائل الماضية، حذرت فون دير لاين، لندن، مراراً من أنه كلما ابتعدت عن قواعد الاتحاد الأوروبي، تراجعت فرص وصولها إلى أكبر سوق مشتركة في العالم.
وبالنسبة للشركات على جانبي القنال الإنجليزي، من غير الواضح ماذا سيأتي بعد ذلك. وقال إيان دنكان سميث، أحد المحافظين المخضرمين المتشككين في الاتحاد الأوروبي، وهو حليف لجونسون: «المرحلة التالية ستكون أصعب مرحلة على الإطلاق؛ لأننا انتقلنا الآن إلى خارج الاتحاد الأوروبي رسمياً».
وأضاف في تصريحات لإذاعة «توك راديو» البريطانية: «لكن حتى نبرم نوعاً ما من الاتفاق أو نغادر من دون اتفاق، فنحن خاضعون للقانون الأوروبي؛ لكن ليس لنا صوت بشأن ذلك». وتابع: «هذا هو السبب في أنه من الأهمية بمكان بالنسبة لنا تسوية هذا، بطريقة أو بأخرى، خلال الأشهر الـ12 المقبلة».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟